من أجل وطن يسوده السلام بين الدولة والمواطن (1)
تاريخ النشر: 11th, August 2025 GMT
زهران بن زاهر الصارمي
في الآونة الأخيرة احتدم الحوار، على نحو غير مسبوق، واكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بالمقالات والآراء المختلفة حول سبل معالجة "الأزمة المتصاعدة الخانقة" التي يعانيها المواطن العُماني في شتى جوانبه الحياتية، المعيشية منها خاصة والاقتصادية؛ مستوى بلغ فيه الأمر حد بروز مؤشرات لظهور "أزمة ثقة بين الدولة ومواطنيها".
وما حادثة الكاتب محمد علي البرعمي، في تغريداته الناقدة العنيفة، والقبض عليه على إثرها، والحكم القاسي الصادر في حقه، إلّا دليل على مستوى "التشنُّج" الذي وصل إليه كلٌ من طرفي المعادلة، الدولة والمواطن، في التعاطي مع هذا الملف الحيوي الخطير.
وهذا أمر مقلق لا يرغب فيه بلا شك أي غيور على أمن هذا الوطن...
لذا أستميح القارئ وكل من يعنيه الأمر عذرًا بأن أستعرض جزئية من مقالٍ لي بهذا الخصوص كتبته في 7/8/2013 تحت عنوان "أبجديات الحوار والوعي الوطني".
ففي هذه الجزئية، التي أتمنى أن يقف عليها كل مُحب لهذا الوطن، مربط الفرس وبيت القصيد، فيما يخص تشابكات وجوهر هذا الموضوع.
الأرضية المشتركة التي ينبغي أن يقف عليها الحوار الوطني.
وقبل المضي قُدمًا في تناول حيثيات وأفكار هذا الموضوع، حريٌ بنا أولًا، أن نوجِد، قدر الإمكان، القواسم المشتركة والأرضية الموحدة التي سننطلق منها في الطرح والمعالجة. ولعل أهم تلك القواسم هي:
1) أننا لا نقبل من أحد المُزايدة في حُب الوطن؛ فليس من حق أيٍّ كان، مزايدة أيٍّ كان في حب هذا التراب الطاهر. فهذه الأرض، أرض عُمان، هي بكل ما فيها وما عليها ملك لكل أبناء عُمان، وليست لشخص بعينه، أو لفئة معينة دون غيرها من الفئات؛ وبالتالي؛ فإنه من حق؛ بل ومن واجب أي فرد من أبنائها المخلصين، الدفاع عنها، بالقول والفعل؛ والغيرة عليها من كل ما من شأنه إهانتها أو تشويه صورتها وسمعتها، أو الانتقاص من مكانتها، والمساس بكرامة شعبها أو حرياته وحقوقه.
2) أن يكون حوارنا قائمًا على المبدأ القائل "بأن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب"؛ وليس- كما هو حادث عند بعض المتشنجين- رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب!
لأن احترام الرأي والرأي الآخر فرضٌ وضرورةٌ يحتمها أي حوار وطني هادف وبنّاء. وبدون ذلك تسود الغوغائية والجدل البيزنطي ساحتنا الثقافية. ويصبح الحوار أشبه ما يكون بحوار الطرشان وصراع الديكة!
3) أننا إن اختلفنا في الرأي- وذلك أمر طبيعي ومتوقع، لاختلاف زاويا الرؤية- فإنَّ هذا الاختلاف ينبغي له ألاّ يفسد بيننا للوِدِّ قضية، إذا كان حقًا هدف الحوار، هو خدمة الوطن، والبحث له عن السبل القويمة والسليمة، للوصول إلى غاياته السامية النبيلة، في التطور والتقدم والازدهار. فينبغي أن نغلِّب حسن الظن والنوايا الحسنة، على سوء الظن والطوية، في كل ما نقرأه من وجهة نظر أو رأي؛ ولنشرّع الأبواب لقراع الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق، وليُدْلِ كل بما يراه ويؤمن به، دون أن يُلقَمَ الحجر، طالما أن طرحه يتسم بالجدية والرزانة والمنطق. فذلك من شأنه أن يعمل على تلاقح الأفكار، وتكامل الرؤى والوصول إلى الآراء والقناعات الفكرية السديدة التي ستعين (أو أنه من المفترض أن يُستفاد منها وتعين!) صناع القرار في قيادة وتوجيه المسيرة التنموية في هذا الوطن الكريم. وهذا أمرٌ، يحتم علينا، في الجانب الآخر، الاعتراف بقصور الفرد، أيًا كان مستواه التعليمي أو الاجتماعي أو الوظيفي، عن امتلاك ناصية الحقيقة المطلقة، فكما جاء في الأثر:
"قل لمن يدعي في العلم معرفةً ... عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء"
وبالتالي فإنَّ الاستماع والإنصات للطرف الآخر، دليلٌ على الحكمة والرغبة في التطور والتكامل، بينما الازورار وصم الآذان، وعدم الاهتمام بما يقوله الطرف الآخر، دليل على العجرفة وضيق الصدر والأفق.
4) أنه ليس من حق أحد، مهما كان موقعه من الإعراب أو من السلّم الاجتماعي والوظيفي، مصادرة أي رأي كان، لأي مواطن في هذا البلد، وهو مبدأ آمن به وشرّعه السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- لا سيما لمن يضع مصلحة عُمان في رأيه فوق كل اعتبار. وبالتالي؛ فليس من داع للحساسية المفرطة عند قراءتنا أو اطلاعنا على أي رأي مخالف لرأينا، طالما أننا نضع نصب أعيننا بأنه في نهاية التحليل، اجتهاد مواطن غيور في أي أمر من الأمور التي تهم هذا الوطن؛ وللمجتهد المصيب حسنتان- كما علمنا رسولنا الأعظم- ولغير المصيب حسنة.
5) أن من الحق المُطلق لكل مواطن، الحُلم بحياة أرغَد ومستقبل أفضل وأسعد لحياته ولوطنه، وأن يتجاوز بعقله وفكره القول المحبط السائد، بأن ليس بالإمكان أفضل مما كان أو يكون، بوجود قناعة متنامية لديه، بأن هناك دائما فرصة له ولوطنه، بأن يكون في وضع أفضل وأرقى وأروع مما هو عليه الآن، تحت أي ظرف من الظروف، إن وجدت النية الصادقة والعزيمة المخلصة، لدى من بيدهم أمره وأمر البلاد، من أصحاب الحل والعقد. فيغدو التعبير عن هذا الحلم المشروع، في التغير والتطور والرقي، حق من الحقوق الوطنية المشروعة، التي يكفلها العرف والقانون المدني لأي مواطن لديه القدرة على طرح الرؤى، والنقد الهادف البناء الذي من شأنه تسليط الضوء على الزوايا المعتمة واكتشاف الفجوات وإنارة الدروب أمام ركب المسيرة التنموية في الوطن.
الموقف المأمول من هموم الوطن والمواطن (2)
وتأسيسًا على تلك المبادئ، وانطلاقًا من تلك القيم، نقول بدايةً؛ بأن الكمال لله وحده، وهذا يعني ببساطة شديدة بأنه لا عصمة لمخلوق من الخطأ أو السهو أو التقصير، فحتى الأنبياء، وهم رسل الله، لم يكونوا معصومين من الخطأ، وسورة "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى" الموجّهة لنبينا العظيم، ماثلة في الأذهان.
وطالما أنَّ الأمر كذلك، وأخذًا بقول الرسول الكريم "من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"؛ فلا بُد لنا حينئذ، ولابد لكل مخلص غيور، من اتخاذ "موقفٍ ما"، إزاء أي منكرٍ أو خطأٍ أو تقصير، يراه يُقترَف في حق هذا الوطن أو مواطنيه؛ فالصمت هنا أو اللامبالاة، يُعَدّ ممالأة وتواطؤًا، والشاهد على فعل الشر أو المنكر، يُعَد شريكًا في الجرم، إن لم يكن كفاعله تمامًا، إن وقف منه موقف الصامت المُتفرج.
والموقف المطلوب في هذه الحالة هو في الأصل، المنع باليد، أي بفعل رادع يدرأ الشر أو الخطر من الحدوث؛ ولكن لأنَّ الشر أو المنكر الذي يقع أو يحيق بالأوطان، هو في العادة ليس من النوع الذي بوسع الفرد العادي درأه أو تغييره؛ فلم يبق له، من الواجب الوطني والأخلاقي فعله لحظتها، سوى "اللسان"، أن يرفع عقيرته للتنبيه، ولفت الانتباه لفعل ومصدر الشر أو المنكر الحادث. علّ استغاثته تجد آذانًا صاغية لدى المعنيين، فيقوموا بالواجب، أو يكونوا عونًا له على فعل الخير الذي يمليه عليه خلقه وضميره. أما الاستنكار همسًا بالقلوب (الذي هو أضعف الإيمان) في أية مسألة من المسائل المتصلة بانتهاك حرمات وكرامة الأوطان، فذاك هو فقط، دأب الخائر الجبان؛ لأنه في نهاية الأمر، ليس من شيء أسوأ ولا أقسى من الموت على الإنسان، كعقاب يناله جرّاء كلمة حق حرة يقولها.
وهذا أمر يُحتِّم على كل مواطن في أي بلد كان، وليس في عُمان فحسب، أن يكون مُدركًا تمام الإدراك، لما عليه من واجبات نحو وطنه؛ فيسعى جاهدًا لأدائها وتلبيتها، حتى لو تطلب الأمر منه أي شكل من أشكال التضحية أو الفداء. كما أن عليه، بالتوازي، أن يعرف حقوقه في هذا الوطن، فيسعى لنيلها والتمتع بها في كرامة وشرف.
وبهذا الوعي النوعي الرصين سيكون كل مواطن، تلقائيًا، هو السائل والمسؤول. هو المحاسَب والمحاسِب، هو المنتقَد والناقِد، هو العين البصيرة والساهرة على مواطنته حقوقًا وواجبات. فمنْ تهاونَ يومًا، أي كان، في أداء واجباته، أو قصَّر فيها أو خان الأمانة الملقاة على عاتقه، حق عليه الردع والقصاص، وفقًا لقانون العدالة الحافظ للأمن والنظام العام؛ ومن بذل وأدى عمله بكل أمانة وإخلاص، حق له الثناء والشكر والتقدير، من الدولة وأفراد المجتمع. فينبغي وجوبًا، أن يكون العقاب أو الثواب من جنس الفعل والعمل.
وإذا وضعنا خصوصية الزمن الذي نعيش فيه، المتمثل في وجود كاميرات الصوت والصورة، في أيدي كل أبناء هذا الجيل المعاصر، الصغير منهم قبل الكبير، فهذا يعني أول ما يعنيه، أننا نعيش عصر التوثيق بالصوت والصورة لكل حدث، ولكل فعل أو قول يقع من أي إنسان كان بأي مكان، مهما تخيل أنه سري بعيد عن الأعين والآذان؛ مما يجعل كل أفراد المجتمع، وعلى كل فئاتهم ومستوياتهم الطبقية أو الاجتماعية أو الوظيفية، يعيش ضمن واقع يحصي عليه، من حيث يدري ولا يدري، أنفاسه، حركاته وسكناته، فيجرده في نهاية الأمر من حصانة الرفض أو الجحود، لحقيقة قيامه بأي فعل فيه مظلمة أو مثلبة أو تقصير. إنه عصر العيش تحت المجهر، عصر المكاشفة والشفافية الموضوعية التي تحتم على المرء أن يحسب ألف حساب وحساب قبل أن يقدم على أي تصرف أو فعل منحرف، فليس للجدران؛ بل ولكل ما حوله في الجهات الست، عيون وآذان!
وإننا لنعلم حق العلم "أن الحق مغضبة " كما قالت عنه العرب، من قديم الزمن. فصعبٌ على جُلّ البشر، إن لم يكن كلهم، الكشف عن سوءاتهم أو مساوئهم؛ فلا يتقبلون طواعيةً في الغالب، نقدًا ولا إشارةً أو توجيهًا من أحد، لا سيما إن كان ذلك الفرد من ذوي الجاه أو المال والمنصب؛ ولكن الخطأ أو الجرم الصُراح، يبقى خطًا وجرمًا؛ والحق يبقى حقًا، شاء من شاء وأبى من أبى، كالشمس التي لا تغطى بغربال، ولا يطفئ نورها غمض العيون عنها.. وهذه حقيقة تقودنا إلى مداخلة هامة في سياق موضوعنا؛ إنها مسألة النقد؛ من أين يبدأ، وأين ينتهي، وكيف يُطرح، وما الذي يجب أن يُتخَذ إزاءه؟
أما من أين يبدأ النقد؛ فإنه من حيث يبدأ الخطأ أو التقصير، أو أي نوع من الفساد، من أي فرد كان، وفي أي موقع من مواقع الحياة أو العمل.. وأما أين ينتهي، ففي بساطة شديدة، ينتهي عند الإصلاح والتقويم الفعلي للأمر أو الفعل، الذي هو موضع النقد؛ ولا ينبغي أن يتوقف النقد أو الإشارة إلى موضع الخطأ أو الفساد، طالما كان ذلك الفساد قائمًا بلا تغيير، ولا ينبغي لأية جهة التأفف، أو إبداء التبرم والاستياء، من استمرار النقد في مثل هذه الأحوال، وإلاّ كان النقد مجرد هرطقة وثرثرة في الهواء؛ بلا غاية أو معنى؛ إذ إن هدف النقد، في الأساس، هو التغيير لمُنكر حادث، أو علاج فساد واقع، أو الإصلاح لخطأ قائم، فما لم يتم فعليًا ذلك التغيير والإصلاح، لتلك الأخطاء أو المثالب ومعالجة الفساد المشار إليه معالجة حقيقية فعلية، بقيت مشروعية النقد وتصاعد نبرته قائمة إلى أن تتحقق أهدافه وتزول دواعيه ومسبباته. وأما كيف يكون النقد وما هو أسلوبه الأمثل؟ فإن القاعدة التي يجب أن يبنى عليها أي حوار هادف بناء، هي روح وجوهر الآيتين القرآنيتين الكريمتين "ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ" (النحل: 125) و"وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ". (فُصِّلت: 34- 35).
تلك هي أصول ومنهجية النقد والحوار الرصين، الذي علمنا إياه ديننا الحنيف، دين الإسلام العظيم. فلا قدح، ولا مهاترات أو ذم وقذف، ولا تجريح أو تشويه للشخوص المرتكِبة للأخطاء أو حتى المفاسد؛ النقد للأفعال والأعمال، أو الأقوال المشينة؛ لا لشخص الفاعل، مهما كان جاهلا أو فاضلًا. ومتى ما دخل النقد في الشخصنة، وانصرف إلى التوافه والمماحكة، فقد رسالته النبيلة، وانحرف عن جادة الصواب، وتحول إلى معول هدم، لا أداة إصلاح وبناء وتصحيح.
وفي الجانب الآخر؛ كل من يُوَجَّه إليه نقد أو ملاحظة أو توجيه، عليه تقبُّل ذلك بصدر رحب، وبلا تجبُّر أو تكبُّر ومُكابرة، وأن يكون له في سيرة السلف الصالح، قدوة حسنة؛ فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق، يقول عند مبايعة الصحابة له بالخلافة: "إني وُليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"، وذهب الفاروق إلى أبعد من ذلك، حين خطب قائلًا: "أيها الناس؛ إني وليت عليكم، ولست بأفضل منكم، فان رأيتم فيَّ اعوجاجًا، فقوموني بسيوفكم"؛ بل وشجع الناس والرعية على نقده وقول الحق، حين خاطبه واحد من رعيته بقول خشن، استفز بعض من حوله من الصحابة، فلما هموا بردع ذلك الرجل المتذمر؛ قال لهم عمر رضي الله عنه، قولته الشهيرة :"دعوه! لا خير فيكم، إن لم تقولوها، ولا خير فينا، إن لم نسمعها"؛ بل وعليه الاقتداء أيضًا، بروح الشعور بالمسؤولية التي يتحلى بها رجال الغرب، الذين لا يأنف الوزير منهم، تقديم استقالته الطوعية من منصبه، بمجرد وقوع الخطأ منه، أو من عناصر في وزارته أو إدارته. لا أن يستميت في تشبثه بالكرسي، حتى يحمل على الأربع، مهما كانت أخطاؤه أو فشله.
أما ما الذي ينبغي أن يؤل إليه النقد، أو ما الذي يجب أن يُفعل إزاءه من قبل صناع القرار، وأهل الحل والعقد؛ فهو أن يعرضوا كل نقد أو ملاحظة أو رأي، على غربال الضمير والعقل والمنطق المحايد، فما وجدوه فارغًا، لا محتوى فيه ولا دسم، طرحوه جانبًا، وغضوا الطرف عنه؛ فهو مجتهد، ولكن، ما كل مجتهد مصيب، فتحسب له حسنة اجتهاده؛ وأما ما وجدوا فيه الصلاح والصدق والمنطق، وخالص النية، والمنفعة الوطنية، وجب عليهم التصرف نحوه، وفق المنهج القويم القائل "شكرًا لمن أهداني عيوبي"؛ فيعمدوا إلى تبنيه، والأخذ به، تطبيقًا وتنفيذا عمليًا، دون أية مماطلة، أو تلكؤ أو تسويف؛ لأن المُماطَلة في فعل الخير، والتأخر في علاج الفساد، هو الفساد عينه؛ وطول الوقت يُنسي، ويؤدي إلى الإهمال، وبقاء الأحوال كما هي عليه، دون تغيير أو تحسين، فيذهب كل جهد نقدي، أو رأي بناء أدراج الرياح، ويخسر الوطن أروع ما أنتجته عقول أبنائه، من الأفكار المبدعة الخلاقة، التي كان بالإمكان- لو أُخِذ بها- أن ترتقي به إلى مصاف الدول الطليعية، في تقدمها والازدهار.
وهذا يأتي في مقدمة ما يعرف بهدر الطاقات البشرية للشعوب؛ فكم من رأي أو فكرة، صدرت من إنسان بسيط، حلت مشكلة، استعصت على الأفذاذ، أو رسمت دربًا، لانطلاق الأجيال وبناء الأوطان؛ والأمثلة في ذلك كثيرة، لا تُعَد ولا تحصى، غني بها التاريخ البشري؛ (كذلك العامل البسيط في محطة ناسا الأمريكية الذي حل معضلة علماء الفضاء في إيجاد قلم بوسع رواد المركبات الفضائية الكتابة به عكس الجاذبية باقتراحه لهم قلم الرصاص)، وغبية هي تلك الحكومات أو الأنظمة التي لا ترصد نبض شارعها، ولا تستمع لما يدور من همس في أذهان وعقول أبنائها المخلصين، من الآراء والأماني الوطنية، وتعمل على تحقيقها، قبل أن تتحول نتيجة الرفض والإحباط، إلى صوت هادر موحد يقول: "الشعب يريد التغيير"؛ ففي تبنيها للأفكار النقدية أو الإصلاحية، صمام أمانها، وضمان استمراريتها في الحكم، إلى أطول أمد ممكن؛ والعكس بالعكس صحيح تمامًا؛ عملها بنظرية "أنا ومن بعدي الطوفان" المتمثل في تغييب كل عقل، وإهمال كل رأي وفكر، يزيد من عوامل الاحتقان لدى المجتمع، ويعجل من نهاية الحكومات، بتجاهلها لعوامل الضغط والانفجار، عندما تنقطع الشعرة التي تربطها بشعوبها، الذي سيغدو بعد حين، حقًا كالطوفان، الذي لا تقوى سفينتها على الوقوف أمامه.
الشعوب دائمًا، تصبر وتُمهل ظالميها، ومغتصبي حقوقها؛ ولكنها، في نهاية المطاف، لحظة إحساسها الغامر بالانسحاق والاختناق، تنفجر كالبركان، ولا تهمل الرد على طُغاتها المتجبرين، مهما عظمُت التضحيات؛ لأنه، لحظتها، لا يكون لديها شيء أعظم وأهم من التخلص من ظَلَمَتِها، والخلاص من هوانها واسترداد حريتها والكرامة، دون أن تحسب، حتى لمن، أو لما، تأول إليه الأوضاع، من بعد ثورتها، وإطاحتها بالكابوس الجاثم على صدرها؛ كما حدث ذلك عند شعوب بلدان الربيع العربي!
على أنه في المقابل، رب قائل يقول: هذه يوتوبيا أو مثاليات وفنتازيا؛ إذ لا يمكن الأخذ بكل الأفكار والآراء، حتى لو كانت سليمة، صالحة ونافعة؛ لأن التنفيذ والتطبيق يحتاج إلى وقت ليس بالقصير، وإلى موازنات مالية غير متوافرة في غالب الأحيان. وهنا تبرُز أهمية الشفافية السياسية والاقتصادية الحكومية، في تبرير المعوقات التي تعترض تبني المطالب الشعبية المنطقية، أو تنفيذ الآراء القيمة والمقترحات الشبابية النيرة، ويصبح عندها، ليس من حق النخب المثقفة فحسب؛ بل ومن حق كل أفراد الشعب، أن يعرفوا أين، وكيف يصرف الدخل الوطني للبلاد، وكيف تدار الموارد العامة للدولة.
والحق أنه مهما حاجج أو ناكف أصحاب ذلك الرأي المحاذر المثبِط، فلن يستطيعوا نكران الشواهد العديدة في بلدان كاليابان وتايوان وسنغافورة وموريشيوس، التي نهضت وازدهرت في شتى مجالات الحياة، وصارت، في فترات قياسية قصيرة، يشار إليها بالبنان، رغم فقرها المدقع من الموارد الأولية والثروات المعدنية، عدا ثروة الإنسان، وعقله الثري الفذ، الذي آثرت تلك الدول الحفر والتنقيب في كنوزه، أكثر من حفرها وتنقيبها في كنوز باطن الأرض أو جبالها والوديان؛ فاستثمار العقل، وأفكاره الخلاقة العظيمة، هو الذي يأتي بالأموال والموارد الأولية، ويخلق التطور والحضارة؛ وليست الموارد المادية، هي ما يصنع التقدم والرقي والازدهار؛ وإلاّ كانت أمة العرب اليوم، من أعظم الأمم رقيًا وتقدمًا وحضارة، لأنها أغنى أمم الأرض في مواردها وثرواتها الطبيعية.
إذن؛ فالخير موجود، والثروة موجودة، والإشكالية ليست في وجودهما من عدمه، وإنما الإشكالية الحقيقية، تكمن في تصريف تلك الثروة، وكيفية استغلال واستثمار المال العام؛ فإن كان صرفه للبلاد وعموم العباد، وفي تخطيط سديد ووعي ورشاد؛ بلغت الأوطان شأن ومصاف الدول المتقدمة الراقية، وعمَّ شعبها الرخاء والرضا والأمان.. وإن استأثرت به واستحوذت عليه الطُغم الفاسدة في الحكومات، وآثرت به جيوبها وبطونها، وتنمية أرصدتها الشخصية في خزائنها والبنوك، ساد الفقر والتخلف والهلاك، وكثر بين أفراد الشعب السخط والتذمر والاستياء وعدم الاستقرار في البلاد، كما هو حادث في غالبية، إن لم نقل كل بلداننا العربية.
فحذار حذار من دخول بلادنا الحبيبة في هذا النفق المُخيف.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
انفجار صور.. الشرارة التي قد تشعل بركان لبنان.. .!!
حادث دموي يفتح أخطر ملف في البلاد.. وسؤال واحد يفرض نفسه: تفكيك السلاح أم الانزلاق إلى جحيم الحرب الأهلية؟
الانفجار الذي هزّ الجنوب
في بلد يختزن الأزمات كما تختزن الأرض حمم بركان خامد، جاء انفجار مخزن سلاح قرب مدينة صور في الجنوب اللبناني ليهزّ المشهد برمته. لم يكن الأمر مجرد حادث عرضي، بل جاء كجرس إنذار مدوٍّ في لحظة سياسية وأمنية شديدة الهشاشة. التقارير الأولية أشارت إلى أنّ المخزن يتبع لحزب الله، وأنّ الانفجار وقع أثناء محاولة تفكيك أو نقل محتوياته، ما أسفر عن سقوط ضحايا بينهم ستة من عناصر الجيش اللبناني، إلى جانب إصابات بين مدنيين.
-- معضلة السلاح خارج الدولة
هذا الحادث لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للصراع الداخلي والخارجي الذي يعيشه لبنان، فالبلد الغارق في أزمات اقتصادية وانهيار مؤسسات الدولة، يواجه منذ سنوات معضلة سلاح الفصائل، وفي مقدمتها سلاح حزب الله، الذي يُعَدّ بالنسبة لخصومه سلاحًا خارج الشرعية، وبالنسبة لمؤيديه "ضمانة ردع" أمام إسرائيل. انفجار صور جاء في وقت تتزايد فيه الضغوط الإقليمية والدولية على الحزب، مع تصاعد العمليات الإسرائيلية في العمق اللبناني، وارتفاع نبرة المطالبة بتطبيق القرار 1701 بحذافيره، بما يشمل حصر السلاح بيد الدولة. خلفية تاريخية: الجنوب وسلاح الظل
منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، ظل الجنوب اللبناني منطقة حساسة عسكريًا وأمنيًا، وبعد انسحاب إسرائيل عام 2000، تعزز نفوذ حزب الله في تلك المنطقة، ليس فقط كقوة مقاومة، بل كسلطة فعلية تمتلك شبكة مخازن وأنفاق ومنصات صاروخية موزعة بين القرى والبلدات. وقد شهدت السنوات الماضية عدة حوادث مشابهة لانفجار صور، أبرزها انفجار مخزن في بلدة خربة سلم عام 2009، وحوادث متفرقة في أعوام لاحقة، كانت غالبًا تُبرَّر بأنها عرضية أو بسبب خلل فني. هذه المخازن كانت دائمًا موضع جدل داخلي ودولي، إذ يرى خصوم الحزب أنها تُعرّض المدنيين لخطر دائم وتضع الجنوب في قلب المواجهة مع إسرائيل، فيما يعتبرها الحزب جزءًا من معادلة الردع التي منعت تل أبيب من شن حرب جديدة شاملة منذ 2006. ومع كل حادث، يتجدد السؤال الكبير: هل يمكن للبنان أن يحسم معضلة السلاح خارج الدولة من دون أن ينفجر داخليًا؟
-- سيناريوهات ما بعد الانفجار
المشهد الآن مفتوح على احتمالات خطيرة: تصعيد داخلي قد يُستغل فيه الحادث سياسيًا من قبل قوى لبنانية معارضة للحزب لفتح ملف سلاحه في الشارع والبرلمان، ما قد يجر البلاد إلى مواجهة سياسية وربما أمنية، أو تسخين جبهة الجنوب إذا تسارعت ردود فعل الحزب على الضربات الإسرائيلية الأخيرة، ما يزيد احتمالية انزلاق لبنان إلى حرب شاملة مع إسرائيل، خاصة إذا استمرت عمليات استهداف المخازن والبنية التحتية العسكرية، أو حرب أهلية مقنّعة في ظل الانقسام الطائفي والسياسي الحاد، حيث أي شرارة قد تشعل اشتباكات متنقلة بين مناطق محسوبة على أطراف متنازعة، في تكرار شبيه بمشاهد 1975 لكن بأدوات وأجندات جديدة.الدور الفرنسي والحسابات الدولية
منذ انفجار مرفأ بيروت عام 2020، تحاول فرنسا لعب دور الوسيط بين القوى اللبنانية المتصارعة، واضعة ملف السلاح على طاولة النقاش وإن بشكل غير مباشر، تجنبًا لنسف أي تفاهمات. باريس، المدعومة أوروبيًا، تطرح مبادرات لحصر السلاح بيد الدولة مقابل دعم اقتصادي وسياسي للبنان، لكن هذه الجهود تصطدم برفض قاطع من الحزب وحلفائه، وبواقع إقليمي يجعل أي تفكيك للسلاح جزءًا من معادلة أكبر تشمل إيران وسوريا. إلى جانب فرنسا، تتحرك الولايات المتحدة وبعض دول الخليج بضغط سياسي واقتصادي متدرج، بينما تتعامل إسرائيل مع الملف بأسلوب الضربات الموضعية لفرض أمر واقع أمني في الجنوب.
-- لبنان على فوهة البركان
لبنان اليوم يقف على فوهة بركان، حيث تتقاطع نيران الخارج مع حسابات الداخل، وتتحرك الملفات الملغّمة من السلاح إلى الاقتصاد بلا أي غطاء وطني جامع. انفجار صور ليس مجرد حادث، بل قد يكون بداية فصل أكثر سخونة في تاريخ بلد اعتاد أن يعيش بين حافة الحرب وهاوية الانهيار، ويبقى السؤال: هل تنجح الجهود الدولية في تفكيك السلاح وضبطه تحت سلطة الدولة، أم أن لبنان يسير بخطى سريعة نحو جحيم حرب أهلية جديدة؟ إنّ رائحة البارود التي ملأت سماء صور قد تكون مقدمة لعاصفة لا تبقي ولا تذر، وحين يشتعل البركان، لن يملك أحد ترف السيطرة على مساره أو حجم دمارِه.. .، !!
-- محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية، ، !!