شهدت العاصمة السعودية الرياض، يوم 9 سبتمبر 2024، عقد اجتماعات للحوار الاستراتيجي بين دول مجلس التعاون الخليجي وعدد من الدول الأخرى، وذلك على هامش اجتماع المجلس الوزاري الـ161 لمجلس التعاون؛ إذ عُقد الاجتماع الوزاري المشترك السابع للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون وروسيا بحضور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والاجتماع الوزاري المشترك للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون والهند بحضور وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكر، والاجتماع الوزاري المشترك بين مجلس التعاون والبرازيل بحضور وزير الخارجية البرازيلي ماورو فييرا.

ويتناول هذا المقال أهم دلالات ورسائل هذه الحوارات الاستراتيجية، ومستقبل العلاقات الخليجية مع تلك الدول الثلاث في ضوء نتائج تلك الاجتماعات.

المكانة والشركاء:

تعكس هذه الاجتماعات حقيقتين مهمتين بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، هما:

1- المكانة الدولية المتزايدة الأهمية لدول الخليج على المستوى الدولي، والتي تدفع بالقوى الدولية الكبرى والصاعدة إلى تعزيز التعاون معها والاستفادة من عناصر القوة المتوفرة لديها في النظام الدولي. وهذه العناصر متعددة، وبعضها تقليدي معروف يرتبط بالموارد المتوفرة في دول الخليج، ولاسيما النفط، والآخر مُستجد ويتعلق بالسياسات الفاعلة التي أصبحت دول الخليج تمارسها وجعلت منها فاعلاً أساسياً في العديد من القضايا الدولية والإقليمية. ومن أهم عناصر هذه القوة الخليجية، ما يلي:

أ- التحكم في مصادر الطاقة العالمية: تُعد دول الخليج من أكبر مُصدري النفط والغاز الطبيعي في العالم، ولقراراتها المتعلقة بالإنتاج والتصدير تأثير كبير في حركة الاقتصاد العالمي. والأمر المهم هنا هو أن هذا الدور المؤثر في أسواق الطاقة لا يقتصر فقط على مصادر الطاقة المولدة من الوقود الأحفوري، وإنما يمتد إلى أسواق الطاقة النظيفة، والتي شهدت تنامياً ملحوظاً في الاستثمارات الخليجية فيها، سواء داخل دول المجلس، أم على مستوى العالم كله.

ب- قوة الاقتصاد الخليجي: يشهد الاقتصاد الخليجي تنامياً ملحوظاً في قوته ومكانته العالمية. ووفقاً لتصريحات الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، جاسم البديوي، في سبتمبر 2023، أصبح اقتصاد دول الخليج الست مجتمعة يحتل المرتبة الثامنة على مستوى العالم من حيث الحجم، مشيراً إلى أن إجمالي الناتج المحلي لها يصل إلى أكثر من 2.4 تريليون دولار، ومتوقع له أن يصل إلى ستة تريليونات دولار بحلول عام 2050. بينما يصل حجم الصناديق السيادية في الدول الست إلى 3.225 تريليون دولار. وهذه القوة الاقتصادية الكبيرة تدفع كل الدول الأخرى للتعاون معها.

ج- الدور المؤثر في السياسات العالمية: أصبحت دول الخليج فاعلاً رئيسياً في مختلف القضايا الإقليمية والعالمية. ومن الأمثلة على ذلك، الدور المهم الذي أدته دولة الإمارات في الصفقات الناجحة لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، والدور الإيجابي الذي تقوم به أيضاً مع دول خليجية أخرى مثل السعودية لتسوية بعض الأزمات المتفجرة في الإقليم من غزة إلى السودان واليمن وليبيا، إضافة إلى الدور الإنساني المؤثر الذي تؤديه دول الخليج على المستوى العالمي.

2- تمسك دول الخليج بسياسة تنويع الشركاء وفق قاعدة “رابح – رابح للجميع”: فهذه الحوارات الاستراتيجية مع قوى دولية كبرى قائمة أو صاعدة، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن سياسة دول الخليج الرامية إلى تنويع شراكاتها وعلاقاتها الدولية، والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط. والدليل على ذلك، أن الرياض شهدت أيضاً يوم 11 سبتمبر الجاري جلسة مباحثات خليجية صينية برئاسة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، جاسم البديوي، ورئيس مجلس الدولة الصيني، لي تشيانغ، وتناولت الجلسة عرض وجهات النظر في عدد من القضايا الإقليمية والدولية، وتعزيز التعاون بين الجانبين وترجمة مخرجات القمة الأولى الخليجية الصينية التي عُقدت في السعودية في ديسمبر 2022.

ومن ثم يُلاحظ هنا أن هذه الحوارات الخليجية تتسع لتشمل كل دول العالم وقواه الرئيسية، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وتركيا وإفريقيا وغيرها. وقد أثمرت بعض هذه الحوارات الاستراتيجية بالفعل عن نتائج مهمة واتفاقيات للتجارة الحرة، مثل: اتفاقية التجارة الحرة مع كوريا الجنوبية في ديسمبر 2023، والتي جاءت بعد ثلاثة أشهر من توقيع اتفاق مماثل مع باكستان. وسبق أن وقّعت دول مجلس التعاون الخليجي اتفاقيات تجارة حرة مع كل من سنغافورة في 15 ديسمبر 2008، ودول رابطة الإفتا (تضم سويسرا والنرويج وأيسلندا وليختنشتاين) في 22 يونيو 2009، ونيوزيلندا في 31 أكتوبر 2009. وفي 8 سبتمبر 2023، أقرت دول المجلس تمديد خطة العمل المشترك مع اليابان للفترة من 2024 إلى 2028. وتستهدف دول مجلس التعاون خلال مفاوضاتها الحالية توقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع كل من الاتحاد الأوروبي وتركيا والصين، وكذلك اليابان والهند وروسيا وأستراليا.

مستقبل واعد:

لا خلاف على أن أي حوار استراتيجي بين دولتين أو تكتلين ينطلق من الاتفاق المبدئي على وجود مصالح كبيرة ومهمة بين الطرفين تحتاج إلى مأسسة من أجل تعظيم هذه المصالح. وهذا الأمر ينطبق على الحوارات الاستراتيجية الخليجية مع كل من روسيا والهند والبرازيل، ومستقبل هذه العلاقات، وذلك على النحو التالي:

1- الحوار الخليجي الروسي: تشكل روسيا فاعلاً دولياً رئيسياً، فهي أكبر دولة إنتاجاً للنفط من خارج “أوبك” وتندمج في حوار بنّاء مع دول الخليج وباقي دول “أوبك” من أجل ضبط أسواق النفط العالمية من خلال ما يُعرف باسم مجموعة “أوبك بلس”. كما أن روسيا من بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي التي تملك حق النقض (الفيتو)، ولديها أكبر مخزون من الرؤوس الحربية النووية، وجيشها الثاني عالمياً من حيث القوة العسكرية، وهي كذلك أكبر دولة من حيث المساحة وتشمل أراضيها شمال آسيا وحوالي 40% من مساحة أوروبا. وهذه الحقائق وغيرها تؤكد أهمية الحوار الاستراتيجي بين دول الخليج وموسكو، والذي تزداد أهميته في ضوء مستجدات عدة مهمة، أبرزها تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، التي دخلت منعطفاً أكثر خطورة يُنذر باتساع نطاق الحرب وخروجها عن السيطرة، وتنامي التنسيق الخليجي الروسي في أسواق الطاقة العالمية.

ويُمثل الحوار الاستراتيجي بين الجانبين أهمية كبيرة، ليس فقط للطرفين، بل للعالم كله. فهذا الحوار يمكن أن يُتيح المجال لدول الخليج لأداء دور أكبر في محاولة تسوية أزمة الحرب في أوكرانيا ومنع خروجها عن السيطرة، ولاسيما في ضوء امتلاك دول المجلس علاقات إيجابية مع طرفي الصراع، وإمكانية البناء على النجاحات التي حققتها دولة الإمارات في صفقات تبادل الأسرى بين الجانبين الروسي والأوكراني. كما أن هذا الحوار يفتح المجال لمزيد من التعاون الخليجي الروسي في أسواق النفط العالمية من خلال تجمع “أوبك بلس”، وكذلك لتنسيق المواقف بشأن كيفية مواجهة الأزمات المشتعلة في المنطقة.

ونتيجة لذلك، هيمن ملف الأزمة الأوكرانية وصراعات المنطقة على مناقشات الحوار الاستراتيجي بين وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا الذي عُقد في الرياض يوم 9 سبتمبر الجاري؛ إذ جرى خلال الاجتماع استعراض العلاقات الخليجية الروسية وسُبل تعزيزها وتطويرها في مختلف المجالات، بالإضافة إلى مناقشة مستجدات الأزمة الروسية الأوكرانية والجهود الدولية الرامية لحلها سياسياً، ودعم كافة الجهود التي تحقق الأمن والسلم الدوليين.

2- الحوار الخليجي الهندي: ترتبط منطقة الخليج العربية بعلاقات تاريخية قوية مع الهند تعود إلى قرون طويلة. وتتميز هذه العلاقات بأنها متنوعة وتمتد من الثقافي إلى السياسي، ومن الاقتصادي إلى الاستراتيجي. وعلى الرغم من أن هذا الحوار الاستراتيجي بين وزراء خارجية دول الخليج ونظيرهم الهندي، هو الأول من نوعه بين دول المجلس ونيودلهي؛ فإن هناك العديد من الجهود التي بُذلت لمأسسة العلاقات بين الجانبين؛ إذ وافق المجلس الوزاري لمجلس التعاون في دورته التاسعة والثمانين (ديسمبر 2004) على الدخول في مفاوضات لإقامة منطقة تجارة حرة بين دول المجلس والهند. وفي أغسطس من العام نفسه، وقّع الطرفان اتفاقية إطارية للتعاون الاقتصادي تتضمن اتفاقهما على الدخول في مفاوضات لإقامة منطقة تجارة حرة بينهما.

ويُمثل البُعد الاقتصادي المرتكز الأهم في علاقات الطرفين الوثيقة؛ إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين دول مجلس التعاون والهند في عام 2022 نحو 174 مليار دولار؛ أي نحو 11% من إجمالي حجم التبادل التجاري السلعي لمجلس التعاون. فيما بلغت استثمارات دول مجلس التعاون في الهند نحو ستة مليارات دولار في مشروعات متنوعة. في حين يعمل أكثر من سبعة ملايين هندي في دول الخليج المختلفة وتمثل تحويلاتهم المالية عنصر دعم قوي لاقتصاد بلادهم. في المقابل، تُعتبر الهند مهمة لدول الخليج؛ بالنظر إلى أنها تمثل أسرع اقتصاد نمواً في العالم، كما تُعد سوقاً كبيرة وذات أهمية متزايدة بالنسبة للبلدان الأخرى.

وما من شك في أن انطلاق هذا الحوار الاستراتيجي الأول بين الطرفين سيُعزز الآفاق الإيجابية لعلاقاتهما المشتركة، ولاسيما في ظل وجود بعض المشروعات الاستراتيجية الطموحة، وفي القلب منها مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي تم التوقيع عليه خلال قمة العشرين التي عُقدت في الهند في سبتمبر 2023؛ إذ يتوقع أن يكون لهذا المشروع فوائد كبيرة كشريان رئيسي يربط بين المراكز الصناعية الكبرى، وقواعد التصنيع، والمراكز اللوجستية والمرافئ الأساسية في دولة الإمارات.

3- الحوار الخليجي البرازيلي: تُعتبر البرازيل سادس قوة اقتصادية في العالم، بالإضافة إلى كونها تحتل المرتبة السابعة عالمياً من حيث تعداد السكان، الذي زاد على 210 ملايين نسمة في عام 2024، وهي تُعد القوة الاقتصادية الأولى في أمريكا اللاتينية. وهذه المؤشرات تؤكد أهمية الحوار الاستراتيجي الأول من نوعه الذي عُقد بين هذه القوة الاقتصادية الصاعدة عالمياً وبين دول مجلس التعاون الخليجي، والذي توصل بالفعل إلى نتائج تُعزز مسيرة التعاون المشترك في المستقبل، وأهمها التوقيع على مذكرة للتفاهم وخطة عمل مشترك للفترة من 2024 إلى 2028، تحتوي على عدد من مجالات التعاون، وهي الحوار في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة والإعلام، وكذلك مجالات الشباب والرياضة والزراعة والأمن الغذائي.

ثلاث ملاحظات:

تشير الحوارات الاستراتيجية التي استضافتها الرياض بين وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ونظرائهم من روسيا والهند والبرازيل، إلى عدة ملاحظات مهمة، هي كالتالي:

1- الحرص الخليجي على التحرك المشترك والجماعي لتنسيق العلاقات والمواقف مع القوى الصاعدة دولياً، وبما يؤكد الوحدة والتضامن بين دول المجلس، وسعيها لتحقيق مصالحها في إطار منظومة العمل الخليجي المشترك.

2- إن الدول الثلاث التي تم الحوار معها هي أعضاء في تجمع “بريكس”، الذي وافق على انضمام دولة الإمارات، والسعودية إليه، وهذا يعزز التعاون والتنسيق مع هذه القوى ليس فقط على المستوى الثنائي، ولكن أيضاً في إطار مجموعة “بريكس”.

3- تأكيد النهج الاستقلالي في سياسة دول الخليج العربية، والذي يضمن لهذه الدول مرونة الحركة خارجياً ويتيح لها فرصة التأثير في مسار القضايا الدولية والإقليمية بعيداً عن سياسات الاستقطاب.

 


المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: دول مجلس التعاون الخلیجی الحوار الاستراتیجی بین لمجلس التعاون دولة الإمارات هذه الحوارات بین الجانبین دول المجلس دول الخلیج هذا الحوار بین دول من حیث

إقرأ أيضاً:

ضربة على الخاصرة.. اليمن المُعادِل الاستراتيجي المفاجئ

 

في اللحظة التي تُسقِط فيها طائرة مسيّرة يمنية مظلة من القلق، فوق أجواء “مدينة إسرائيلية”، لا يكون الهدف مجرد منشأة أو مطار، بل البنية العميقة لمشروع الهيمنة “الإسرائيلي” نفسه. ما نشهده، اليوم، من اختناق اقتصادي وتوتر تجاري في كيان الاحتلال ليس صدفة عابرة، هو نتيجة منطقية لتراكمات استعمارية وسلوك استيطاني قائم على منطق الإفلات من المحاسبة الدولية، والرفض التام لأي بنية إقليمية عادلة.
الاقتصاد في خدمة القوة… والانعكاسات حين تهتزّ السيطرة
لطالما وُظّف المشروع الصهيوني الاقتصاد أداة لإنتاج الاستقرار الداخلي والتفوّق الإقليمي، مستندًا إلى دعم غربي غير مشروط، واستثمار أجنبي يغذّيه وعد الاستقرار المزيف. غير أن الضربات الصاروخية والمسيّرات اليمنية، بما تُمثّله من تحدٍ رمزي واستراتيجي، بدأت تعيد رسم حدود الجغرافيا السياسية، لا من خلال التوغّل الجغرافي، بل عبر خنق المسارات الاقتصادية.
في نظام عالمي مهووس بسلاسل التوريد وكفاءة المرافئ البحرية، تتحوّل كل سفينة مؤمّنة بثلاثة أضعاف تكلفتها السابقة إلى رصاصة ضد رواية “إسرائيل القوية”، وإلى مؤشر على أن التكاليف لم تعد تُدفَع فقط في غزة أو جنوب لبنان، أيضًا في “تل أبيب” وحيفا ومطار “بن غوريون”.
اليمن يرسم حدود النار على جسد الهيمنة “الإسرائيلية”
إن ما يقوم به اليمن، في استهداف خطوط الملاحة البحرية المرتبطة بـــــ”إسرائيل”، لا يُقاس فقط بمدى تدمير السفن أو تعطلها، أيضًا بقدرته في تحطيم هيكل “القوة النّاعمة” التي حاولت “إسرائيل” بناءها منذ اتفاقات أوسلو مرورًا بـ”أبراهام”، وانتهاءً بتسويق نفسها مركزًا آمنًا للاستثمارات والتكنولوجيا.
عندما ترتفع أقساط التأمين بنسبة 300 %، ويتردد المستثمرون في دخول السوق “الإسرائيلية” بسبب المخاطر الإقليمية، فذلك يعكس خللًا في “البيئة الأمنية”، ويعكس تبدّلًا في مفهوم الردع نفسه، حيث لم تعد “القبة الحديدية” ولا السياسات التحفيزية كافية لطمأنة رؤوس الأموال.
مهدي المشاط (القائد الأعلى للقوات المسلحة) لا يتحدث بلغة رجل سياسة، بل بلغة “السوق العالمية”. يعرف كيف يقرأ بيانات الاستثمار العالمي، ويوجّهها كسلاح استراتيجي. تصريحه العلني بدعوة الشركات للانسحاب من “إسرائيل” هو بحد ذاته إعادة صياغة لمفهوم “المقاومة الاقتصادية”، وللتفاعل مع رأسمالية معولمة باتت أكثر حساسية تجاه التهديدات غير المتماثلة.
أزمة السيارات.. رفاهية السوق في مهبّ الانكماش الأمني
لا يمكن فصل ما يجري في سوق السيارات الكهربائية، من ارتباك الوكلاء وتخزينهم آلاف المركبات، عن مشهد أوسع من فقدان القدرة في التنبؤ. إذ أن الاقتصاد “الإسرائيلي”، والذي كان يُفاخِر بنموذجه المرن، يجد نفسه اليوم أسيرًا لسياسات جمركية متعجلة وانكشافات لوجستية وهجمات خارجية أربكت انتظام السلاسل التجارية. هذه الأزمة الكامنة في تفاصيل تسجيل “مالك ثانٍ” لمركبات كانت تُعدّ واجهة للحداثة الاقتصادية، تعكس هشاشة العمود الفقري لسوقٍ يعتمد على السرعة والثقة والتصدير الاستهلاكي. أما الخصومات الحادة التي تتجاوز 20 %؛ فهي ليست إلا محاولة للالتفاف على حقيقة أعمق، وهي: الركود قادم، وإن ارتفعت الأرقام الظاهرة.
الطيران في سقوط تدريجي
قطاع الطيران هو القطاع الأكثر حساسية لأي خلل أمني، لأنه يتعامل مع الخوف بأنها نقطة ارتكاز. تقليص الرحلات من شركات كبرى مثل Lufthansa وKLM ليس قرارًا اقتصاديًا فحسب، هو قرار سياسي – أمني يحمل رسالة واضحة: “إسرائيل” لم تعد استثناءً، هي باتت ساحة نزاع مكشوفة، كما باقي المناطق غير المستقرة في العالم. وحين تُجبر خطوط الشحن الجوي على رفع أسعار التأمين أو مراجعة رحلاتها، فذلك لا يعني فقط تراجع حركة الطيران، أيضًا يعني تعطّل منظومة كاملة من التجارة الدولية العابرة، ترتكز فيها “إسرائيل” على الاستيراد والتصدير عالي الكفاءة.
رأس المال الخائف لا يصنع استقرارًا
حين يتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 22 %، في عام واحد، فهذا ليس رقمًا عارضًا، هو علامة تحذيرية على مستوى الثقة الدولي في استمرار “المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية”. لم تكن هذه الثقة يومًا ناتجة عن مؤشرات اقتصادية مجرّدة، كانت ضمانات استراتيجية أمريكية وغربية بعدم المساس بالبنية الاقتصادية.
لكن ماذا يحدث حين تبدأ هذه الضمانات بالتآكل تحت وقع الطائرات المسيّرة، وصور السفن المشتعلة في البحر الأحمر، وتصريحات يمنية تصيب المستثمرين في مقتل؟ ببساطة: يتحوّل رأس المال إلى طائر خائف يفرّ من مواقع التوتر، ويترك خلفه فراغًا لم تعتد عليه “إسرائيل” في اقتصادها.
قراءة في العمق.. “إسرائيل” ليست استثناءً
إن الإمبراطوريات تسقط حين تفقد قدرتها في إدارة التناقضات بين الداخل والخارج. هذا هو تمامًا ما تواجهه “إسرائيل”: اقتصادٌ قائم على استيراد شبه كلي، يواجه تدهورًا في أمن الموانئ والمطارات؛ و”مجتمع” استهلاكي مشحون، يواجه تضخم التكاليف وخوف المستثمر.
تقرير وزارة المالية “الإسرائيلية” يقدّر الخسائر المحتملة بـ1.2 % من الناتج المحلي. وهذا ليس مجرد رقم، هو إقرار داخلي بأن “الهامش” – أي اليمن، أو غزة، أو حتى حزب الله – بات قادرًا على إحداث شلل نسبي في المركز.
نهاية الحصانة؟
لم تعد “إسرائيل” قادرة على الحفاظ على “الحصانة الاقتصادية” التي كانت سلاحها السري أمام الانتقادات السياسية أو المقاومة الشعبية. وحتى لو ظلّ الدعم الأمريكي على حاله، فإن العالم والأسواق والمستثمرين، يتعاملون مع منطق آخر: المخاطرة والربح، لا الأخلاق أو التحالفات.
لقد كُسِرت صورة الكيان الاقتصادي النموذجي، ليس فقط في الأسواق، حتى في الوعي العام الإقليمي. لم يعد ممكنًا النظر إلى “تل أبيب” أنها وجهة موثوقة، لا للسياحة ولا للاستثمار ولا حتى حلقة وصل بين الشرق والغرب.
الاقتصاد مرآة للاختلال الأخلاقي
حين تنهار الثقة بالاقتصاد، لا يكون السبب فقط في ضربات عسكرية أو مسيّرات دقيقة، بل في طبيعة المشروع نفسه: كيانٌ بُني على نفي الآخر، واستغلال الأرض، وتكريس القمع أداةً للاستقرار. في النهاية، يدفع الاقتصاد ثمن الغطرسة السياسية. وحين تُصاب سلسلة التوريد بالشلل، وتُفرّغ الأسواق من المشترين، يُضرب الاقتصاد، وتُضرب معه أسس الفكرة الصهيونية نفسها ككيان قابل للحياة.
النصف الثاني، من العام 2025م، هو لحظة اختبار اقتصادي، ولكن الاختبار الأكبر أنه اختبار وجودي لفكرة “إسرائيل” في محيط بات أكثر جرأة ووعيًا وقدرة على المسّ بنقاط ضعف لم تكن مرئية من قبل.

كاتب صحفي فلسطيني

مقالات مشابهة

  • تعزيز التعاون مع روسيا.. بوتين يوجه دعوة لـ«المنفي» لحضور القمة المقبلة
  • تتويج الفائز بالجائزة الكبرى في النسخة الرابعة من "يوريكا الخليج"
  • ضربة على الخاصرة.. اليمن المُعادِل الاستراتيجي المفاجئ
  • لافروف: نأمل في إحياء التعاون الثلاثي بين روسيا والهند والصين
  • “غرف دبي” تنظم فعاليات توعوية حول قوانين الشركات والامتثال والجمارك والضرائب
  • «غرفة الشارقة» ومجلس العمل البرتغالي يبحثان تعزيز التعاون
  • «غرف دبي» تنظم فعاليات توعوية حول قوانين الشركات
  • الأمين العام لمجلس التعاون يلتقي أمين منظمة الدول الأمريكية
  • إيران تحذر من رد قوي إذا اتخذ مجلس محافظي الوكالة الذرية قرارا ضدها
  • المؤتمر: الحوار المجتمعي لتغير المناخ يعكس وعي الدولة بأهمية العمل البيئي المشترك