المسرح.. رافدا في عملية التنمية
تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT
نتابع هذه الأيّام فعاليّات مهرجان المسرح العماني الثامن الذي انطلق الأحد الماضي، بعد توقّف دام سنوات، وفي فعاليات المهرجان الذي احتضنته قاعة مسرح العرفان، تداعى إلى ذاكرتي لقاء جرى فـي المهرجان الثاني الذي انطلقت فعالياته مساء يوم الاثنين الموافق 27 من مارس 2006م، وعدّ من الأحداث المهمة التي تمثّل علامة مضيئة فـي تاريخ المهرجان، هذا الحدث تمثّل فـي الزيارة التي قام بها الفنانون العرب المشاركون فـي المهرجان إلى جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- عندما كان يشغل منصب وزير الثقافة والتراث -سابقا- جرى ذلك فـي الدورة التي أقيمت ضمن فعاليّات مسقط عاصمة للثقافة العربية 2006م، تلك المبادرة التي نظمتها منظمة اليونسكو على غرار عاصمة الثقافة الأوروبية، وانطلقت الدورة بالتزامن مع احتفالات اليوم العالمي للمسرح وذلك يوم 27 مارس، وكنت من ضمن المشاركين الذين نالوا شرف هذا اللقاء إلى جانب النجمة المصرية ليلى طاهر، والسورية منى واصف والكويتي محمد المنصور والقطري غانم السليطي والعراقي قاسم مطرود -رحمه الله- وآخرين.
ومما علق فـي الذاكرة، حين دخلنا مكتب جلالته وجدناه واقفا باستقبالنا ومعه الشيخ حمد بن هلال المعمري وكيل الوزارة للشؤون الثقافية آنذاك، وكان المعمري حديث العهد بمنصبه، وبعد الجلوس وتناول الحلوى العمانيّة والقهوة رحّب جلالته بالضيوف، الذين قابلوا الترحيب بمثله، بعد ذلك تحدّث جلالته حول علاقته بالمسرح التي نشأت مع طفولته ومواظبته على حضور العروض المسرحية التي كانت تُقدَّم خلال دراسته الجامعية فـي كلية بيمبروك فـي جامعة أكسفورد ببريطانيا، ساعتها استللت قلمي وفرشت أوراقي لأدوّن حديث جلالته، وأنشره فـي جريدة «الشبيبة» التي كنت أعمل فيها رئيسًا للقسم الثقافي والفنّي، ممنّيا النفس بصيد ثمين، وبعد نهاية الجلسة اقترح الأخ يوسف البلوشي، الذي كان مشرفًا على نشرة المهرجان، نشر ما دوّنت فـي نشرة المهرجان اليومية، فرحّبت بالفكرة، ثمّ اقترح عليّ تطوير الحديث إلى حوار صحفي ينشر فيها، فوجدتها فرصة سانحة لمحاورة جلالته، وهذا يحتاج إلى موعد جديد، واختصارا للوقت وضعت أسئلتي وأعطيتها للبلوشي الذي سلّمها لمكتب جلالته، وفي اليوم التالي وصلتني الإجابات، ونُشر الحوار على مساحة صفحتين، ومما قال جلالته عن دور المسرح فـي دفع الحركة الثقافية إلى الأمام فـي ذلك الحوار «المسرح مجال ثقافي خصب يمتزج فيه الأدب والفكر بالفن والجمال، كما يمتزج الإبداع الفردي بالإبداع الجماعي، ولعل أروع ما فـي ذلك كله أنه يقدّم بشكل حي ومباشر مع الجمهور، فتحمل لحظة الإبداع الانطلاقة العفوية الآنية بقدر ما تحمل من الإعداد، والتخطيط المسبق، كما يجد الفنان استجابة فورية تقيّم ما قدّمه على خشبة المسرح كفعل ورد فعل متداخل ومتزامن. المسرح مجال قادر على استيعاب شتى أنواع الفنون كالتمثيل، الموسيقى، الغناء، الحركة التعبيرية، الفنون التشكيلية، الأزياء، الماكياج، فن الإضاءة وغيرها والمضي بهذه الفنون إلى أقصى ما تقدمه من عطاءات وانسجام وتناغم مع بعضها بعضًا، لذا يمكننا أن نعتبر كل عمل مسرحي هو حالة تفعيل وتحريك ثقافي فني عامة على مستوى المثقفين والفنانين وعلى مستوى الجمهور والمتابعين والمهتمين والنقاد والكتّاب والصحافة والإعلام بصفة عامة. إن هذا الزخم والثراء والتنوع الذي يمتاز به العمل المسرحي يجعلنا نعوّل على المسرح أن يكون أحد الروافد الرئيسية فـي بلورة الحركة الثقافية فـي سلطنة عمان».
وقبل أيام حضرت لقاء عقدته الجمعية العمانية للمسرح تحدّث به الدكتور شبير العجمي عن مشروع المسرح الوطني الذي بُوْشِر العمل به وسيكون جاهزًا فـي عام 2028م ومما ذكر أن المسرح الرئيسي يتسع لـ 1000 شخص جسديا وآلاف افتراضيا باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي، وكذلك يحتوي على تقنيات متطورة وقدرات لرفع الخشبة وسرداب للأوركسترا ومسرح تجريبي آخر متعدد الاستخدامات، وقاعات أخرى للعروض والتدريبات.
وهذا المشروع من أولى ثمار عهد النهضة المتجدّدة التي يقودها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- وها هو مهرجان المسرح العماني يعود ليؤكّد أهمية المسرح بوصفه رافدا من روافد عملية التنمية المستدامة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تجاعيدُ النصِّ المسرحيّ
آخر تحديث: 26 يونيو 2025 - 12:10 معباس منعثر تستدعي معرفةُ الزمن تحديدَ موضعِ اللحظةِ بين ما مضى وما سيأتي، ويُفهمُ كتعاقبٍ منّظمٍ للحظاتِ، حيثُ تحملُ كلُّ لحظةٍ طابعاً مميزاً وأحداثاً مختلفة. هذا التعاقبُ يتركُ لدينا شعوراً بالاستمراريةِ أو الديمومةِ للحدث. وهنا يَظهرُ التناقضُ بين مفهومِ التفرّدِ في كلِّ لحظةٍ وبين الترابطِ الذي يوحّدُ اللحظاتِ في سياق. إنَّ الجمعَ بين الحدثِ، الشخصياتِ، الموضوعِ، وطبيعتِها التكراريةِ المنظمةِ هو ما يضفي على الزمنِ وحدتَهُ وانسيابَهُ المتتابع. في المسرحِ التقليديّ، تنظرُ الحبكةُ إلى الوراء لو أرادت شيئاً مسترجَعاً من الماضي، وتنظرُ إلى الأمام لو أنَّ الشيءَ تنبؤٌ بالمستقبل. الماضي حَدَثَ والمستقبلُ ينتظرُ الحدوثَ، ومن الآن المستمرّ ينبعُ الحاضر. الأهمُّ في هذه الرؤيةِ أنَّ المراقِبَ ساكنٌ، والمنظور للزمنِ مكانيّ تمرُّ من أمامهِ الوقائعُ بترتيبٍ خطيّ. السببيةُ والإحساسُ بالتتابعِ المنطقيّ هي أساسُ هذا الفهم. ففي المسرحِ الأرسطيّ أو الكلاسيكيّ، يعودُ الاستقرارُ والتناغمُ إلى النظامِ بعدّ هزةٍ مؤقتة. وفي المسرحِ الواقعيّ، يبدو الزمنُ وكأنَّهُ يوازي الأحداثَ اليوميةَ وترتبطُ اللحظاتُ ببعضِها في تيارٍ متماسك من أجلِ تحقيقِ فرضيةِ الايهامِ بالواقع. الأمرُ أكثرُ تعقيداً في علاقةِ النصّ المسرحيّ بالزمنِ المتداخل والمتبادل بين الخشبة والواقع (ما يمكن تسميتُهُ بالزمنِ التبادليّ). هو جسرٌ بين النصّ والعالمِ الخارجيّ يستثمرُ السياقاتِ الاجتماعيةَ والسياسيةَ بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. في هذا الإطارِ، يقدّمُ المسرحُ الملحميُّ نموذجاً متميزاً للتعاملِ مع الزمنِ، عبر تقسيمِ الأحداثِ إلى لوحاتٍ أو مشاهدَ مستقلةٍ عن بعضِها، فتكونُ كلُّ لوحةٍ جزءاً من فكرةٍ أوسع، وتساهمُ في بناءِ الحكاية. كلُّ حدثٍ ينكشفُ على حِدَةٍ، يسمحُ ذلك بالتأملِ والنقدِ دون التورطِ العاطفيّ في الأحداث. ينتقدُ المشهدُ الواقعَ السياسي ويضعُ القارئَ أو المشاهدَ في مواجهةٍ مع القوى التي تضطهدهُ وتستغله. الفنّ، عند بريشت، ليس مهرباً بل ولوجٌ الى المعتركِ لاكتشافِ التناقضِ بين الحياةِ في النصّ والحياةِ الحقيقيةِ التي يختبرُها الإنسانُ في العالم. ورغمَ أنَّ الزمنَ الأفقيَّ والبريشتي قد شغلا مساحةً كبيرةً من تاريخِ المسرح، فإنَّ الجزءَ الأكبرَ من النصوصِ المسرحيةِ وأنواعها يعتمدُ على استخدامِ الزمنِ المتعلّقِ بقدرةِ الذهنِ الإنسانيّ على أن يتعاملَ بحريةٍ مع الماضي والحاضر والمستقبل بلا حدودٍ فاصلةٍ واضحة (ما يمكنُ تسميتُه بالزمنِ الذهني). أي الزمنُ كفكرةٍ عقليةٍ، تتشابكُ فيها اللحظاتُ دون تتابعٍ أو خصائصٍ ثابتةٍ، بما يتوازى مع مفاهيمِ العصرِ الذي يوجدُ فيه. ففي المسرحِ الرمزيّ، يكونُ الزمنُ كياناً مائعاً يتغيرُ مع الرموزِ والعلامات، وتتداخلُ الأزمانُ وتتبدلُ الحبكةُ تبعاً للدلالات، مما يتيحُ تباطؤَ الزمنِ أو توقفَه التام. ففي أعمالِ سترندبرك، كمسرحية “بعد الحريق” و”الحلم”، لا ينمو الموضوعُ، ولا تتطورُ الشخصياتُ، وكأنَّ النقطةَ التي بدأ بها النصُّ المسرحيُّ هي نفسُها نقطةُ الختام. وفي المسرحِ التعبيريّ، يُعتبرُ الزمنُ آليةً فلسفيةً تجسدُ الحالةَ النفسيةَ للشخصيات، وتكشف الصراعاتِ الداخلية. في نصوصِ ثيودور نولدكه، يُستخدمُ الزمنُ الذاتي ليبرزَ تأثيرِ القلقِ والمعاناة، وتَنكشفُ الشخصياتُ عن توتراتِها الداخليةِ ورغباتِها وخيباتِها. تكونُ الذاتُ هي المقياسُ الوحيدُ وتتساوى عشراتُ السنين مع لحظةٍ خاطفةٍ حينذاك، كما في أعمال جورج كايزر كـمسرحية “من الصباح إلى منتصف الليل”، و”جحيم – طريق – أرض”. وفي المسرحِ الوجوديّ، يُنظرُ إلى الزمنِ كتدفقٍ نفسيّ مستمرٍّ، وكمعادلٍ للصراعِ بين الشخصياتِ ووجودِها. في هذه الحالة، يُعززُ الزمنُ التوترَ بين الوجودِ الأصيلِ وغيرِ الأصيل، ويُثري التجاربَ الفرديةَ والقضايا الفلسفيةَ عبرَ الوعي بمحدوديته. ففي أعمالِ سارتر، يُبحرُ القارئُ في عقلِ وذهنِ الشخصياتِ أكثرَ مما يتجوّلُ مع أقدامِها، والتغيرُ يحدثُ في الوعي والتقييمِ الأخلاقيّ بصرفِ النظرِ عن التحولاتِ الزمنيةِ الخارجية. من جهةٍ أخرى، ينكسرُ الزمنُ في مسرحِ اللامعقول ليصبحَ هيكلاً متقلباً ومفككاً، حيث يُختزلُ (الآن) إلى حاضرٍ مطلقٍ، تتفككُ فيه الأحداثُ بلا تسلسل. تبقى الشخصياتُ عالقةً في دورةٍ متكررةٍ، والأحداثُ تجعلُ المستحيلَ أقربَ الى التصديق من الواقع (فنمو جثةٍ يصوّرُ التضخم الرأسمالي بطريقةٍ أكثر صدقاً على الواقع من قولك إن الرأسماليةَ تستغلّ بشراسةٍ مواردَنا الاقتصادية). هنا، ما يحدثُ قد لا يحدثُ، والزمنُ لا يتغيرُ إلا بوعي الشخصياتِ وإحالاتِهم الفنطازية. يتجسدُ ذلك في أعمالِ يوجين يونسكو بأوضحِ مثال في مسرحية “الكراسي” و”الدرس” و”المغنية الصلعاء”. إن ربطَ الزمنِ الخارجي بالزمنِ الشخصيّ يخلقُ إطاراً غنياً لاستكشافِ التوترِ بين الواقعِ والتجربةِ الذاتية، حيث يتقابلُ الزمنُ الذي يُقاسُ بالساعاتِ والأدواتِ الدقيقةِ مع الزمنِ الخاصِ الذي يُختبرُ داخلياً، فيفتحُ البابَ لأنواعٍ معينةٍ من النصوصِ المسرحيةِ التي تتناولُ مسارينِ هما الصراعُ النفسيُّ والتفاعلُ مع العالم. من ناحية، لدينا الزمنُ الخارجيُّ المتسلسلُ، ومن ناحيةٍ أخرى، يظهرُ الزمنُ الداخليُّ منقوصاً حدودَه الفاصلة. فمرورُ الزمنِ بالنسبةِ للشخصياتِ غيرَ موحدٍ: هو شديدُ البطءِ لشخصيةٍ تعيشُ حالةً من الحزنِ أو الانتظارِ، في حينَ تتسارعُ اللحظاتُ نفسُها لشخصيةٍ أخرى منشغلةٍ أو سعيدة. يتنازعُ هذان المفهومانِ داخلَ النصّ، ونرى الشخصياتِ وهي تحاولُ تجاوزَ حدودِ الزمنِ الموضوعيّ من خلالِ التجربةِ الذاتية. يُمّثلُ الزمنُ الكونيُّ الحتميةَ، بينما الزمنُ الشخصيُّ يُمّثلُ النسبية. وفي النهاية، كلُّ الأشياءِ تجدُ نفسَها محاصرةً بالزمنِ الكونيّ الذي لا مفرَّ منه. إجمالاً، يسيرُ الزمنُ في دوائرَ أو متاهاتٍ أو زوابع، ويُقاسُ بالحركةِ والمعنى، لا بالساعاتِ والدقائقِ، أما التجاعيدُ التي تظهرُ على وجهِ النصِّ المسرحيّ فليست علاماتِ شيخوخة، وانما خرائطُ لرحلةِ الوعي نحو الداخلِ والخارجِ في آنٍ واحد. ومع كلِّ مشهدٍ، يُعادُ رسمُ الزمن كضوءٍ يتكسرُ على موشورِ الذات. ولعلّ المسرحَ، أكثرَ من أي فنٍّ آخر، لا يقدّمُ لنا الزمنَ، بقدرِ ما يسائلُه، ويعطّلُه، ويفجّره. ومن بين كلّ الفنون، يحملُ المسرح تناقضهُ ويُتاجر به: انها محاولاتهُ اليائسةِ لجعلِ اللحظةِ أبديةً رغم جذورِ فنائهِ الكامنةِ فيه والمشابهةِ لمصيرِنا المشترك.