لا تعد كثيرًا إلى التاريخ.. بين يديك غزة!
تاريخ النشر: 7th, October 2024 GMT
ما الذي يحصل لك حين تقرأ قصة بطوليّة وقعت في العصور الأولى؟
تقول لنفسك إن قلمَ كاتبها تصرّف فيها بعض التصرّف، وزيّنها ببلاغة أسلوبه، ولم يتوخَ نقلَ الوقائع بدقة، بل غلبَ عليه مزاجُ الوعظ، ولم يلتزم بصرامة التأريخ. وهذا أمرٌ طبيعي لأن وعيَ الإنسان ابنٌ لبيئته، فكل معنى لم يشهده المرء بعينيه، يصعب عليه تصديق وقوعه في التاريخ البعيد.
لم يكن لإنسانٍ في عصرنا أثرٌ في وعي أهل غزّة مثل أثر الشيخ أحمد ياسين، من يوم كانوا يسمّونه الأستاذ أحمد، حتى لقّبه خصومه قبل مريديه بلقب "شيخ فلسطين"، وهو اللقبُ الذي كان يحبُّ أن يناديه به الرئيس الراحل ياسر عرفات.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف غرقت إسرائيل في مستنقع الجنوب وانتصر حزب الله في حرب تموز؟list 2 of 2ولاية قيس سعيد و5 سنوات من بورقيبة وبن علي والثورةend of listكان الشيخ رحمه الله في السبعينيات والثمانينيات يتحرّكُ دعويًّا في دوائر متعددة، تبدأ من المدرسة التي يدرّس بها اللغة العربية والتربية الإسلاميّة، ومسجده بمخيم الشاطئ، المسجد الشمالي، الذي سمّي باسمه بعد استشهاده، ثم من خلال المجمع الإسلاميّ على مستوى القطاع، ثمّ في دائرة واسعة تشملُ فلسطين كلّها، حيثُ كان ينطلقُ في رحلات دعويّة تطالُها من أعلاها إلى أدناها، برغم التّعب والمشقّة اللتين تتضاعفان بسبب ظرفه الصحيّ.
بعد تحرر الشيخ من سجون الصهاينة سنة 1997، ابتدأت مرحلةٌ جديدةٌ من حياة الشيخ الدعويّة بغزّة، كانت السلطة الفلسطينية تلاحقُ قيادات الحركة الإسلامية بانتظام، بُعيد "ضربة 1996" التي كادت تستأصلُ الحركة أو وجودها الظاهر على الأقل، كانت السلطة تلاحقُ كوادر حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتمنعهم من أدنى النشاطات وأبسطها، وتعتقلُ وتعذّب بلا حسيب أو رقيب، لكن الشيخ بعزيمته الحديديّة ورمزيّته الكبيرة وحالته الصحيّة التي تجعلُ اعتقاله مغامرةً كبيرة، انتزع لنفسه مساحةً لم تكن لغيره من قيادات العمل الإسلاميّ الحركيّة والدعويّة، وقام بواجب نفسه وإخوانه خير قيام، وقد أغضب ذلك السلطة منه مرارًا حتى فرضت عليه الإقامة الجبرية، ومنعت الناس من زيارته ولقياه عدّة مرات.
كان الشيخُ لا يفترُ عن الدعوة والتربية، له جدولٌ ممتلئٌ تمامًا بزيارات المساجد والوعظ والتعليم فيها، على طول القطاع وعرضه، والقطاع كثيرُ المساجد زاخرُها، وكان لا يدعُ مناسبة اجتماعيّة هامّة إلا ويحضرُها، قيامًا بالواجب الأخويّ، واستثمارا لها في الدعوة إلى الله عزّ وجل وحمل همّ فلسطين.
من أهمّ ما يُذكر للشيخ رحمه الله عنايته بالصّغار، فلم يكن يدانيه في اهتمامه بهم أحد، كانوا دائما محطّ نظره، وأولى أولوياته، وما صورتُه معهم في مسجد الخلفاء الراشدين وهو يجلسُ إليهم وحدهم، ويخصّهم دون الكبار بنفسه وبكلماته، إلا نقطةٌ في بحر اهتمامه بهم، وما فسح لهم من وقته وأفكاره ووصاياه.
كان يقول: "نحن واليهود في صراع على هذا الجيل، فإما أن يأخذه اليهود منا، أو ننقذه من أيدي اليهود"، كما روى عنه الوالد نزار ريان الذي استشهد في عام 2009 مع 15 من أفراد أسرته في قصف جوي على منزله في مخيم جباليا.
كان الشيخ ياسين رحمه الله إذا خرج في أيّ أمر من أموره، يلتفُّ الصغار حول سيّارته، فيأبى أن يتحرّك حتى يسلّموا عليه فردًا فردًا ويعرّفوا بأنفسهم ويحادثهم ويسألهم، مهما كلّفه ذلك من وقت، أو تسبب له في التأخّر.
كما كان يستقبلُهم في بيته مرحّبًا أعظم ترحيب، وكان يعاملهم كما يعامل أكابر الضيوف، وأذكر أنّ أجمل المجالس التي جمعتني بالشيخ، هي زياراتي له طفلا ضمن الأنشطة المسجدية أو الكشفية أو غير ذلك من النشاطات.
وكان للشيخ في نفوس أهل غزّة مكانةٌ عجيبة، كان بالنسبة إليهم مُدهشًا دهشةً لا تزيدُها الأيام إلا بهاء، فلا يتعوّدون وجوده، ولا يعتادون هذه المعجزة الإلهية السائرة فيهم اعتياد من يراها كلّ يوم، بل كلما اقترب منه أحدٌ ازداد به انبهارًا.
كان إذا حضر إلى مهرجان أو فعالية وقف الناسُ كلّهم على رؤوس أصابعهم، بل ربّما ارتقوا الكراسيّ، ينظرون إليه كأنّهم يرونه لأول مرّة، وهو الذي يعيش بينهم، ويصلّي معهم، ولا أظنّ أحدًا فاته السلامُ عليه ولو مرّة.
كان الشيخ رحمه الله انتصار الله عزّ وجلّ لعظماء الهمم من ضعفاء الأبدان، وإظهاره إعجازه فيهم، وإيداعهم سرّه العظيم، وكان أوضح مثالٍ لما يُسمّى أثر الفراشة، بضعف بدنها وجمالها، وأثرها الذي لا يزول.
المخيمات الصيفية والأنشطة اللامنهجيةيمتاز الشعب الفلسطينيّ، وخاصّة أهل غزّة، بالخصوبة العالية، وكثرة الإنجاب، نصفُ سكّان غزّة من الأطفال، يعتني أهلُ غزّة أعظم عنايةٍ بالتّعليم، التّعليم هو الطريقُ نحو التميّز في الصغر، والفلاح في الكبر، هو فخرُ الآباء والأمّهات، والبوابة الوحيدة -تقريبا- إلى الحياة الكريمة الممكنة، ينهمكُ الصغار في الدراسة عامهم الدراسيّ طوعًا أو كرها، فإذا أتى الصيّفُ ضجّت بالصغار البيوت، فتتلقّفهم المخيّمات الصيفيّة، تشغلُهم عن الشغب على أهاليهم ومشاكسة أقرانهم، ولم تكن من مخيمات أعظم شعبيّة وأشدّ إقبالا عليها واطمئنانا من الأهالي من مخيّمات الحركة الإسلامية.
كان الناسُ يتفرّقون في السياسة، وتجمع أولادهم المساجد طيلة العام، ومخيمات الحركة الإسلامية في الصيف، تجدُ الكبار ذوي مناصب في هذا التنظيم أو ذاك، لكنّ أكثر الأولاد مع المدّ الإسلاميّ الصاعد، لا يملكُ الآباء له صرفًا، ولا يجدون لردّه دافعًا، بل لعلّهم أرضى وأكثر اطمئنانا.
هذه المخيّمات كانت أخصب تُربة تنبتُ فيها بذور الجيل الجديد، الذي امتلأ إيمانًا ثم حمل البنادق بأياديه النحيلة، وقاتل إسرائيل مرة بعد مرّة وصولًا إلى هجوم الطوفان.
كانت المخيمات نشاطا جامعا، وإلى جوارها كان كثيرٌ من الأنشطة الأخصّ والأكثر نخبويةّ، مثل مخيمات القادة الصغار، وكانت تُعنى بشكل خاصّ بأوائل الطلبة، وكان يُحاضر فيها كبارُ قادة الحركة، مثل الأستاذ عبد الفتاح دخان، والشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والدكتور إبراهيم المقادمة، وعندي حتى الآن ورقاتٌ خطّها أخونا القساميّ إبراهيم نزار ريان والذي استشهد في 2001 إثر اقتحامه مستوطنة “ايلي سيناي” شمال قطاع غزة وتمكنه مع زميله عبدالله شعبان من قتل 3 صهاينة وإصابة 17 آخرين، كان قد دوّنها من محاضرات في أحد مخيمات الأوائل، وعليها هذه الأسماء الكبيرة، وحسبُك بها لتعلم اهتمام القوم بالنشء وتربيته، وما أولوه من أوقاتهم وعنايتهم.
أثر المساجد كمّا وكيفايكادُ المسجدُ في غزّة يكون مركزًا لكلّ شيء، المناطقُ تُسمّى بأسماء المساجد، فهذا حيُّ الخلفاء الراشدين، وذاك حيُّ التوبة، وذاك حيُّ الرباط، وهكذا، هذه كلّها أحياء متجاورة في "معسكر جباليا" تسمّت بأسماء مساجدها.
ثمّ المسجد مجتمع الناسُ في كلّ أمر، في طابقه الأول يُصلّون صلاتهم، وفي الطابق المتوسّط مصلّى النساء، وفي الطابق الأول فرعُ دار القرآن، ومكتبة المسجد، وفي الطابق الثاني قاعة الأنشطة، يُسمع فيها النشيد ويُعرض المسرحُ الإسلاميّ الشعبيّ، وتقام المعارض الفنيّة الثورية، فإذا حضر رمضان استحال معظم الطوابق مناماتٍ للمعتكفين في المسجد، يعتكفُ الشبابُ العشر الأواخر كاملةً، من مغرب يوم عشرين رمضان حتى صبيحة العيد، يصلّون الليل بطوله، ولا ينامون إلا قليلا بُعيد الفجر أو الشروق، يخرجون إلى أشغالهم وحياتهم من المسجد وإليه يعودون.
وهكذا أصبح المسجد هو بيت الله ودارُ أهله بغزة بكلّ تعنيه الدّار من معانٍ، ففيه يُكرّم أوائل الطلبة، أو في ساحته، وفيه يُعقد قرانُ كثيرٍ من المقبلين على الزواج، وفيه تُوزّع الحلويات في المناسبات الخاصّة والعامّة، لا سيّما عند انتصار المقاومة أو خيبة العدوّ.
ولعلّ الأثر العظيم للمساجد في غزّة، هو سببُ حقد العدوّ عليها، واستهدافه لها بالقصف الانتقاميّ، ولم ينجح العدوّ في إثبات ما ادّعاه حول احتوائها على وسائل قتالية، أو استعمالها في الأعمال العسكريّة، إنّما يلاحقُ فيها الفكرة التي عجزت صواريخه عن اقتلاعها!
أعاد الغزيّون للمسجد سالف عهده زمن النبيّ صلى الله عليه وسلّم وصدر الإسلام، حين أحيوا ذكر نبيّهم بتدراس أحاديثه وسيرته، وعملوا بسننه ووصاياه، وأسسوها على ما أسسه وأصحابه الكرام من التقوى والإيمان، وأنصفوها بعض الإنصاف بعد أن جارت عليها الدنيا ومعانيها المادّية، وأرادت لها أن تنزوي في حياة الناس مبنى وبعض معنى، "لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه".
مجتمع قرآنيلأهل غزة مع القرآن الكريم خصوصية وفضل عناية، وهو أوّلُ تفسيرٍ خطر لي عندما كان الناسُ يسألون عن سرّ صبر أهل غزّة على الفظاعات المروّعة، هل يصبرُ شعبٌ على الإبادة! هل ما تحمّله أهل غزّة في قدرة البشر! ليس السؤال عن النجاة، وإنّما عن الصّبر، والتعبير الصادق الحارّ عنه، عن تحدّي العدوّ بالله وباسم الله، هذا كلُّه له أسرار، لكن القرآن الكريم هو سرُّه الكبير.
بعد الطوفان، بدأ الناسُ يكتشفون غزّة، يسمعون عن مخيّمات حفظ القرآن، ويرون صورها، وصور الشهيد فلان، والشهيدة فلانة في أروقتها، ويتابعون في دهشةٍ أخبار صفوة الحفاظ، وجلسات سرد القرآن الكريم غيبًا على جلسةٍ واحدة، من الصباح إلى الليل! من كان يعلم أن هذا ممكنٌ أصلا! لا أنّه يحدث، كان يحدثُ وطالما حدث في غزّة، كانت غزّة تخرّج عشرات آلاف الحُفّاظ كل عام، ومنذ حكمت حماسُ غزّة مرّ جيلٌ كاملٌ لا تكادُ تجدُ فيه طالبا متفوقا إلا ويحفظ الكتاب الكريم، ولا تكادُ تجدُ فيه مصلّيًا إلا ويقرأ القرآن بأحكام التجويد.
كان لدار القرآن الكريم والسنّة، المؤسسة الغزيّة العريقة، جهودٌ كبيرةٌ في نشر علوم القرآن الكريم بغزّة، إن في مراكزها الكبيرة، أو في فروعها بالمساجد، لا تمرُّ على بقعةٍ في غزّة إلا وتجدُ فيها دورات تجويد منعقدة لجميع المستويات، وبرامج حفظ تناسب جميع الأعمار، ودورات تثقيفية في علوم الكتاب الكريم تبُزُّ أفضل المعاهد والكليات المتخصصة.
ولم يكن الكتابُ الكريم حاضرا في أهل غزّة حضوره السمعيّ والبصريّ فحسب، بل أهمُّ حضور له كان في قلوبهم، لا سيّما لحظة الفزع، حين "يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت".
في أحد مواقع التواصل، سأل ملحدٌ فتاةً عشرينية من غزّة عن الله أين هو؟ ولماذا يصنع بهم هذا!
فأجابته بالعاميّة:
"الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة
ربنا خلقنا وهو يعمل فينا ما يريد
الله الغنيّ ويؤخر الظالمين ليوم تشخص فيه الأبصار
الدنيا لا تساوي شيئا
اعمل اللي بدّك إياه، يوجد حساب بالنهاية وكل هذه المعاناة لا تساوي شيئا مقابل الجنّة".
فتأمّلتُ الجواب فإذا هو كلّه معانٍ قرآنية صافية، فعقّبتُ بهذه الآيات:
"الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم"، "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون"، "لا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون".
هذا أثرُ القرآن فيمن قرأ القرآن بقلبه، وتشرّبه بروحه، وتمثّل معانيه، وثبته الله به أيام الفزع في الدنيا، وهو المأمول أن يثبته به يوم الفزع الأكبر.
مدرسة الإخوان المسلمينتنتمي حركة حماس -روحيًّا وتربويًّا- إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك فإنّ حركة الجهاد الإسلاميّ انبثقت من فرع الجماعة في فلسطين أيضًا، ولم يكن خلافُها مع الجماعة الأمّ إلا خلافًا حول أولويات العمل، لا حول الفكر وخاصّة الشقّ التربويّ منه. وإن كانت التنظيمات الإسلامية -خصوصا حماس والجهاد- شهد الصعود الأكبر في فلسطين منذ ثمانينيات القرن الماضي، مقابل انحسار لفصائل منظمة التحرير، فإنّ الفكر التربويّ الإخوانيّ وجد طريقًا لاحبة إلى عالم الأفكار في الجيل الغزّي، تأثّرت به الأجيال داخل فصائل العمل الإسلاميّ وخارجها.
ينتظمُ شبابُ حماس في نظام الأسرة الإخوانيّة المعروف، وهو عملٌ يشملُ جميع أفراد التنظيم، بما فيه المقاتلين، ويشملُ كذلك المقرّبين منه فيما يُعرفُ بالأسر التنشيطية، حيثُ يجلسُ الشبابُ مع أستاذٍ لهم ذي بصرٍ بالعلوم الشرعية، مزوّدٍ بعدّة منهجية من الكتب الفكرية المشهورة في مدرسة الإخوان، مثل تفسير في ظلال القرآن لسيّد قطب، ورسائل الإمام حسن البنّا، وسلسلة إحياء فقه الدعوة لمحمد أحمد الراشد، والسيرة الحركية لمنير الغضبان، ويتعلّمون طرفًا من الفقه على مذهب الشافعيّة، أو من كتاب "فقه السنّة" لسيد سابق، أما دروس العقيدة فكانت تجري في الغالب على مذهب الحنابلة، حيثُ درس أكثرُ مشايخ الحركة في الجامعات السعودية، ورجعوا منها حنابلة في الأصول، شافعيّة في الفروع.
كانت الأسر التنظيمية الدعوية تحظى بدرجةٍ لا بأس بها من الحريّة العلمية، فبوسع الشيخ/الأستاذ أن يقدّم ويؤخّر ويبدّل، وبوسع المنتظمين أن يختاروا، الثابتُ الوحيد هو الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة، ولهم أن يختاروا أيضًا ما يحفظون منهما وما يدرسون، ويتعاونون على ذلك، وكانت الأسرة برغم كونها لقاء أسبوعيًّا واحدًا، مزدحم البرنامج والتفاصيل، بابا مهمًّا من أبواب العلم والتربية، نظرًا لدوامها، وطبيعة العلاقة التي تربطُ أفرادها.
زاد المقاتلينكل مقاتلٍ في القسّام هو عضوٌ في تنظيم الإخوان الفلسطينيّ بالضرورة، له أسرته الإخوانية التي يلتزمُ بها وبواجباتها، والتزامُه بها هو جزءٌ من التزامه الجهاديّ، لكنّه أيضًا يحظى بعنايةٍ تربويّة خاصّة وإضافيّة، فتُعقد لهم دوراتٌ وأنشطة، على مستوى المجموعة أو الفصيل أو الكتيبة، تقامُ بالتنسيق والتعاون مع التنظيم الدعويّ.
وكثيرا ما كان القادة التربويون والعسكريون يطوفون على المرابطين في أيام الأمن والخوف عل السواء، يعظونهم ويثبّتونهم ويذكّرونهم بما هم عليه من شرف القيام بالواجب، وما يتطلّبه ذلك منهم من مراجعة النيّة وتجديد الإخلاص، وتهذيب الأخلاق، واستحضار معاني الصبر والثبات وحبّ الاستشهاد.
كما لم تخلُ الدورات العسكريّة من محاضرات تثقيفية، دينيّة ووطنيّة وعسكريّة، وكما نقل أحدُ المطّلعين، وقف يومًا قائدُ كتيبة في القسّام، في محاضرةٍ بدورة قنصٍ نُخبويّة، وقال: "إنّ فعل القتل ليس فعلا سهلا، إنّه إزهاق روح، وهو ليس سهلا على النّفس السويّة، وإن كانت روح عدوّ، يجبُ أن تدرّب نفسك على قرار قتل جنود الاحتلال وتستعدّ لذلك، تستحضر في نفسك عدوانه وإجرامه، وما سيصنعه إن لم توقفه، وتستجمعُ غضبك المقدّس عليه وعلى ما يمثّله، وتضغطُ برفقٍ على الزناد، لتنظّف بلادنا والعالم منه ومن أمثاله، ثم تسعد بذلك وتقرّ عينُك، وتنطلق في طلب المزيد".
كان من تربية المجاهدين لمنتسبي القسّام إشراكُهم في الدفع على تجهزيهم، فيدفعُ المجنّد على تسليح نفسه، وكان من مذهبهم أن يجعلوا الأولوية في السلاح لمن يدفع نصف ثمنه، وهنا يكتسبُ الجنديّ والسلاح والانتماء العسكريّ معاني عظيمة، يقول الجنديّ لنفسه: هذا سلاحي الذي اشتريته بلقمة صغاري، وهذا مشروعي الذي أدفعُ فيه دمي ومالي، ولا أتكسّبُ منه غير الجهاد والاستشهاد على طريق تحرير بلدي.
وهذا الإشراك في المشروع والاستثمار فيه لم يقتصر على المقاتلين فحسب، بل كانت كتائب القسام كلّما شحّ عليها المالُ أعلنت حملة تبرعات شعبيّة، وما كان أكثر من يستجيبُ لهم محبًّا راضيًا، لا سيّما من النساء، كنّ يلقين حليّهنّ ومجوهراتهنّ في عباءة القسّام المنشورة للمتبرّعين، راضيات سعيدات، حامدات داعيات.
شخصيّة القادةحظيت الحالة الجهاديّة الغزّية بقادةٍ شجعان، فكلُّ قادة حماس السياسيين كانوا يشاركون في الرباط على الثغور، بعضهم يشاركُ من وقتٍ لآخر، وبعضهم منتظمٌ في كتائب القسام مثل أصغر جنديّ فيها.
وهنا يحضُر ذكر الوالد رحمه الله، الشيخ الشهيد نزار ريان، أستاذ الحديث الشريف، والداعية والخطيبُ والقائد السياسيّ والجماهيريّ، فقد كان يشغلُ منصبًا في أعلى القيادة السياسية للحركة بغزة، وهو مع ذلك جنديٌّ في كتائب القسام بأصغر رتبة، وكان شديد الحرص والالتزام العسكريّ، يحضرُ إلى نقطة الرباط أول أفراد مجموعته، ولم تكن مشاركتُه رمزية أو معنويّة، بل كان إذا حميت المعركة تقدّم الصفوف حتى يقف على أقرب النقاط إلى العدوّ، ويطوفُ على المجاهدين من جميع الفصائل؛ دخل مرّة على مجموعةٍ فقالوا له: يا شيخ نحن من فتح، ظنّوه يقصدُ غيرهم، فقال لهم: وأنا من فتح، فتح التي تقاتل العدوّ وتصدّ العدوان عن المعسكر أنا منها!
واستيقظتُ ذات مرّة على صوت مروحيات العدوّ، فسمعتُ صوت إطلاق نارٍ قويّ، كان صوت مضادّات أرضيّة من العيار الثقيل، وكنتُ أسمعه لأول مرة، فقمتُ من نومي فزعًا حتى توقّف الصوتُ، ورحلت المروحيات، فلم يلبث أن طُرق باب البيت، فإذا بالوالد يدخل وبيديه فوارغ رصاصٍ كبير، فوضعها في غرفة أماناته، وقال لي: "إذا متُّ فاجعلوها في قبري!" فإذا هو الذي كان يطلق النار على المروحيّة، كان ذلك الموقف العظيم أشبه بعملية استشهادية، وكان احتمالُ أن تستهدفه مروحية الأباتشي أكبر بكثير من أن تدعه، لكنّ المفاجأة أذهلت العدوّ -وكان أمرا يحصل لأول مرة- ففرّت الطائرة الحربية من أمامه.
كان لحضور الوالد رحمه الله وغيره من قادة الحركة السياسيين والدعويين والتربويين في ميادين القتال، يتقدمون الصفوف ويثبتون الجند، ويغامرون بأرواحهم وهم المطلوبون للعدوّ، أثرٌ كبير في نفوس الجند والحاضنة الشعبية جميعًا، ثم كان بموقف الوالد وأهله وثباتهم في دارهم تحت تهديد القصف، حتى ارتقوا جميعا شهداء، ستة عشر إنسانا هم رجل واحد وأزواجه وأطفاله، أعظمُ درسٍ في الثبات أدّى إلى رفض مخطط التهجير وإفشاله.
لقد كان موقفًا صادرًا عن وعيٍ عميق، وفهمٍ للماضي والحاضر والمستقبل، أدرك نزار ريان رحمه الله أنّ أفضل خيارات الفلسطيني إذا قيل له: مُت أو اخرج من بيتك أن يختار الموت، فاختاره لنفسه وأهله راضيًا مدركًا أنّه أحسن خياراتهم الدنيوية قبل الأخروية.
وكان الوالد رحمه الله على رأس الحملة الشعبية للتصدّي لتهديد العدوّ بقصف البيوت، وطلبه إخلاءها قبل دقائق من القصف، عقابًا جماعيّا للحاضنة الشعبية للمقاومة، فكان أول الصاعدين على سطح بيت آل بارود الذي انطلقت منه حملة حماية البيوت المهددة بالقصف، ومن معسكر جباليا انطلقت الحملة حتى شملت القطاع بطوله، كان ذلك التمرين المرُّ إعدادا للحظة الأعظم بُعيد الطوفان.
فلمّا هجم العدوّ على شمال غزّة، وصبّ الحمم على رؤوس أهلها يريد تهجيرهم، صمد أكثرهم، وفي معسكر جباليا تحديدًا صبر أكثر من 70% من الناس، أمام موتٍ يحصد الأرواح بالمئات، ولم يكن المثال الصارخ الذي قدّمه شيخ المعسكر وداعيته بعيدًا منهم، لقد رأى الوالد ببصيرته طمع العدوّ ورغبته الدائمة في إخراج الفلسطيني من أرضه، فقدّم روحه وأرواح أعزّ الناس عليه ليقدّم المثال، ونسأل الله ألا يذهب دمه ودماء جميع من استشهد على دربه ثابتًا هدرًا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد القرآن الکریم أحمد یاسین رحمه الله کان الشیخ ولم یکن القس ام فی غز ة ة التی جمیع ا لم یکن ما کان
إقرأ أيضاً:
فتاوى وأحكام| هل يجوز للمرأة قراءة القرآن وهي كاشفة شعرها؟.. هل المتوفى بسبب السرطان يُعتبر من الشهداء؟
فتاوى وأحكام:
هل يجوز للمرأة قراءة القرآن وهي كاشفة شعرها؟
هل المتوفى بسبب السرطان يُعتبر من الشهداء؟
حكم إخراج الزكاة لمؤسسة رعاية مرضى أمراض معينة
نشر موقع صدى البلد خلال الساعات الماضية عددا من الفتاوى والأحكام التى تهم كثير من المسلمين نستعرض أبرزها في التقرير التالي:
هل يجوز للمرأة قراءة القرآن وهي كاشفة شعرها؟
هل يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن في البيت وفي خارج الصلاة، وهي كاشفة شعرها؟.. سؤال أجاب عنه الدكتور مجدي عاشور مستشار مفتى الجمهورية السابق وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية.
وقال عبر صفحته الرسمية على فيس بوك: “نعم يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن ولو من المصحف من غير أن تغطي شعرها ؛ لأن تغطية الرأس بالنسبة للمرأة شرط في صحة الصلاة، وليست شرطا للقراءة خارج الصلاة والمرأة في بيتها”.
هل يجوز للمرأة قراءة القرآن في بيتها بدون حجاب
وقال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إنه يجوز للمرأة قراءة القرآن في بيتها غير مرتدية الحجاب، وإن كان ارتداؤه من آداب تلاوة القرآن الكريم التي لها مزيد فضل وثواب.
حكم قراءة القرآن للمرأة مكشوفة الرأس
وقالت دار الإفتاء إنه لا يشترط ستر العورة لقراءة القرآن، ولكن يستحب للمسلم إذا قرأ القرآن أن يكون ساترًا لعورته، وأن يكون على هيئة حسنة، فقد قال الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول في أحاديث الرسول" (3/ 253): "من حُرْمَة الْقُرْآن أَن لَا تمسه إِلا طَاهِرا وَأَن تَقْرَأهُ وَأَنت على طَهَارَة وَأَن تستاك وَأَن تتخلل وتطيب فَإِن هَذَا طَرِيقه وَأَن تستوي قَاعِدا إِن كنت فِي غير صَلاة وَلَا تكون مُتكئا، وَأَن تتلبس لَهُ كَمَا تتلبس للدخول على الأَمِير لِأَنَّك مناج وَأَن تسْتَقْبل الْقبْلَة".
وأضافت الدار، فى فتوى لها، أنه "يجوز للمرأة أن تقرأ القرآن من غير أن تضع حجابًا على رأسها؛ إذ لم يرد في الكتاب والسنة ما يأمرها بتغطية رأسها عند تلاوة القرآن، ولو غطته من باب كمال الأدب مع كتاب الله فهو أفضل".
وأشارت إلى أن لقراءة القرآن آداب ينبغي مراعاتها لتحصيل أكبر قدر من ثوابها منها: "ستر العورة، والطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، واستقبال القبلة، واتباع أحكام التلاوة".
هل المتوفى بسبب السرطان يُعتبر من الشهداء؟
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا مضمونه: كثير من الناس يموتون الآن بسبب مرض السرطان، فهل الذي يموت بسبب هذا المرض الخطير يُعَدُّ شهيدًا؟
وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة: إن الموت بسبب مرض السرطان تشمله أسباب الشهادة الواردة في الشرع الشريف؛ بناءً على أن هذه الأسباب يجمعها معنى الألم لتحقق الموت بسبب خارجي، فليست هذه الأسباب مسوقة على سبيل الحصر، بل هي منبهة على ما في معناها مما قد يطرأ على الناس من أمراض، وبناءً على أن مرض السرطان داخل في عموم المعنى اللغوي لبعض الأمراض، ومشارك لبعضها في بعض الأعراض، وشامل لبعضها الآخر مع مزيد خطر وشدة ضرر، فمن مات بسببه يرجى له أجر الشهادة في الآخرة؛ رحمةً من الله سبحانه وتعالى به، غير أنه تجري عليه أحكام الميت العادي؛ من تغسيلٍ، وتكفينٍ، وصلاةٍ عليه، ودفنٍ.
أنواع الشهداء في الإسلام وبيان كل نوع وسببه
وأوضحت انه قد تقرر أن الشهداء على ثلاثة أقسام:
الأول: شهيد الدّنيا والآخرة: الّذي يقتل في قتال الحربيين أو البغاة أو قطاع الطريق، وهو المقصود من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قاتلَ لِتَكُونَ كلِمةُ اللهِ هيَ الْعُليا فهوَ في سبيلِ اللهِ» متفقٌ عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وتسمى هذه الشهادة: بالشهادة الحقيقية.
والثاني: شهيد الدّنيا: وهو من قتل كذلك، ولكنه غلّ في الغنيمة، أو قتل مدبرًا، أو قاتل رياءً، ونحو ذلك؛ فهو شهيد في الظاهر وفي أحكام الدنيا.
والثالث: شهيد الآخرة: وهو من له مرتبة الشهادة وأجر الشهيد في الآخرة، لكنه لا تجري عليه أحكام شهيد الجهاد في الدنيا من تغسيله والصلاة عليه؛ وذلك كالميّت بداء البطن، أو بالطّاعون، أو بالغرق، ونحو ذلك، وهذه تُسمَّى بالشهادة الحكمية.
ووسَّعت الشريعة الغرّاء هذا النوع الثالث؛ فعدَّدت أسباب الشهادة ونوَّعتها؛ تفضلًا من الله تعالى على الأمة المحمدية، وتسليةً للمؤمنين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا تَعُدّونَ الشّهيدَ فِيكُم؟» قالوا: يا رسول الله، من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، قال: «إنّ شُهَدَاءَ أمّتي إذًا لَقَلِيلٌ»، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: «مَنْ قُتِلَ فيِ سَبيلِ اللهِ فَهُو شَهِيدٌ، وَمَن مَاتَ في سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَن مَاتَ في الطَّاعُونِ فَهُو شَهِيدٌ، وَمَن مَاتَ في البَطنِ فَهُو شَهِيدٌ» قال ابن مقسمٍ: أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: «وَالغَرِيقُ شَهِيدٌ» رواه مسلم في "صحيحه".
ورواه الإمام البخاري في "صحيحه" من طريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بلفظ: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطعُونُ، والمَبطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدمِ، والشّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ».
ورواه الطبراني في معجمَيْه "الكبير" و"الأوسط" من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه مرفوعًا، وزاد فيه: «وَالسُّلُّ شَهَادَةٌ».
وعن جابر بن عَتِيك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الشّهادة سبعٌ سوى القتل في سبيل الله؛ المطعونُ شهيدٌ، والغرقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجنب شهيدٌ، والمبطونُ شهيدٌ، وصاحبُ الحريق شهيدٌ، والّذي يموت تحت الهدم شهيدٌ، والمرأةُ تموتُ بجمعٍ شهيدٌ» رواه أبو داود وغيره.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْحُمَّى شَهَادَةٌ» أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس"، وصححه الحافظ السيوطي في "الجامع الصغير".
فهذه الأسباب المتعددة وغيرها قد تفضَّل الله تعالى على من مات بها صابرًا مُحتسبًا بأجر الشهيد؛ لِما فيها من الشِدَّة وكثرة الألم والمعاناة:
قال الإمام أبو الوليد الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (2/ 27، ط. دار السعادة): [وإنما سألهم عن جنس جميع الشهادة فأخبروه عن بعضها؛ وهو جميع ما كان يسمى عنده شهادة فقالوا: القتل في سبيل الله، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الشهادة سبعة سوى القتل في سبيل الله؛ تسليةً للمؤمنين، وإخبارًا لهم بتفضل الله تعالى عليهم، فإنَّ الشهادة قد تكون بغير القتل، وإن شهداء أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مما يعتقدهُ الحاضرون.. وهذه ميتات فيها شِدَّة الأمر، فتفضل الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم زيادةً في أجرهم حتى بلَّغهم بها مراتبَ الشهداء] اهـ.
قال العلامة ابن التين -فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 44، ط. دار المعرفة)-: [هذه كلها ميتات فيها شدة، تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم، يبلغهم بها مراتب الشهداء] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم" (13/ 63، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقد قال العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة بتفَضُّل الله تعالى بسبب شِدَّتها وكثرة ألَمِهَا] اهـ.
والعدد في هذه الأحاديث غير مراد؛ فقد نص جماعة من العلماء على أن خصال الشهادة ليست محصورة في هذه الخِصال؛ بل أوصلها العلماء إلى أكثر من ذلك:
فعن محمد بن زياد الألهاني، أنه قال: ذكر عند أبي عِنَبَةَ الخولاني الشهداءُ؛ فذكروا المبطون، والمطعون، والنفساء: فغضب أبو عنبة، وقال: حدثنا أصحاب نبينا رضي الله عنهم، عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنَّ شُهَدَاءَ الله في الأرضِ، أمناء الله في الأرضِ في خَلقه، قُتِلُوا أو مَاتُوا» رواه الإمام أحمد.
وقال العلامة ابن المُنيِّر في "المتواري على أبواب البخاري" (ص: 154، ط. مكتبة المعلا): [ويحتمل عندي أن يكون البخاري أراد التنبيه على أن الشهادة لا تنحصر في القتل، بل لها أسباب أخر، وتلك الأسباب أيضًا اختلفت الأحاديث في عددها: ففي بعضها خمسة، وهو الذي صح عند البخاري، ووافق شرطه، وفي بعضها سبعة، ولم يوافق شرط البخاري، فنبه عليه في الترجمة، إيذانًا بأنَّ الوارد في عددها من الخمسة أو السبعة ليس على معنى التحديد الذي لا يزيد ولا ينقص؛ بل هو إخبار عن خصوص فيما ذكر الله، والله أعلم بحصرها] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 43): [والذي يظهر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بالأقل، ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقتٍ آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة] اهـ.
وقال العلامة الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (6/ 551، ط. دار السلام): [ولا أعلم أنه تعرض أحدٌ لوجهِ غير هؤلاء من الشهداء؛ فإنَّ ثمة أمراضًا أعظم من هذه المذكورة، وقد ألحق في الأحاديث ما بلغه أربعين شهيدًا] اهـ.
وقد صنف في أسباب الشهادة جماعة من العلماء: منهم الحافظ جلال الدين السيوطي في رسالته "أبواب السعادة في أسباب الشهادة"، وأوصلها إلى سبع وخمسين خصلة، وعدَّهم الأَجْهُوري المالكي ستين خصلة، والعلامة السيد عبد الله بن الصدّيق الغماري في رسالته "إتحاف النبلاء بفضل الشهادة وأنواع الشهداء".
والتحقيق أن الشهادة لا تنحصر في خصوص هذه الخصال؛ بل يلحق بها ما كان في معناها، أو جرى مجراها، وقد استنبط الإمام التقي السبكي السبب الكلي العام للشهادة الذي يشمل تحته أسبابَها الجزئية المتنوعة؛ فقال في "الفتاوى" (2/ 343، ط. دار المعارف): [إذا عرفت حقيقة الشهادة فاعلم أن لها أسبابًا؛ أحدها: القتل في سبيل الله وقد ذكرناه، الثاني: أسبابٌ أُخَرُ وردت في الحديث.. ووجدنا في السبب الأول أمورًا ليست فيها، فلما رأينا الشارع أثبت اسم الشهادة للكل وجب علينا استنباطُ أمرٍ عامٍّ مشترك بين الجميع وهو: الألم بِتَحَقُّقِ الموتِ بسببٍ خارجٍ، وإن اختلفت المراتب وانضم إلى بعضها أمورٌ أُخَرُ] اهـ.
هل المتوفى بسبب السرطان يعتبر شهيدا
وبناء على ذلك فالموت بسبب مرض السرطان داخلٌ في أسباب الشهادة من جهات متعددة:
الأولى: تفاقم أمره واستفحال شره وشِدَّة ألَمِه، والتي جعلها العلماء علةَ أجر الشهادة في الخِصال المنصوص عليها؛ كما سبق.
قال العلامة الكشميري (ت1353هـ) في "فيض الباري" (2/ 248، ط. دار الكتب العلمية): [لمَّا رأيت أن الأحاديثَ لا تستقرُّ فيه على عددٍ معيَّن، بدا لي أن تُوضَعَ له ضابطة، فاستفدتُ من الأحاديث: أن كل من مات في عِلَّةٍ مُؤْلمةٍ متماديةٍ، أو مرضٍ هائلٍ، أو بلاءٍ مفاجئٍ: فله أجر الشهيد] اهـ.
والثانية: أن مرض السرطان داخل في المعنى اللغوي العام لبعض الأمراض المنصوص عليها في أسباب الشهادة؛ كالمبطون، وهو عند جماعة من المحققين: هو الذي يشتكي بطنه مطلقًا؛ كما قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (13/ 63).
وهذا متحقق في أعراض كثيرة من الحالات المصابة بمرض السرطان؛ مثل: سرطان الأمعاء، وسرطان الكلى، والتهابات الكبد، والسُّعال المستمر، وتغيرات أنماط عمل الأمعاء والمثانة، وعُسر الهضم؛ كما سبق بيانه.
والثالثة: أن هناك أمراضًا جعلها الشرع سببًا في الشهادة إذا مات بها الإنسان؛ كالحمى، والسل، ونحوهما، وهذا المرض شامل لأعراضهما وزائد عليهما بأعراض أخرى ومضاعفات أشد.
والرابعة: أنَّ أحاديث الشهادة إنما نصت على الأمراض التي كانت معروفة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تأت لتخصيصها بثواب الشهادة بذاتها، بقدر ما جاءت منبهةً على ما في معناها من الأمراض التي قد تحدث في الناس جيلًا بعد جيل.
حكم إخراج الزكاة لمؤسسة رعاية مرضى أمراض معينة
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: ما حكم إخراج الزكاة لمؤسسة تعمل على رعاية مرضى الأنف والأذن والحنجرة؟وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة: إنه يجوز الصَّرفُ من أموال الزكاة للحالات المرَضية الواردة على المؤسسة من الفقراء والمساكين، على أن يكون ذلك بطَريق تمليكهم أموال الزكاة وتسليمهم إياها لينفقوها بأنفسهم فيما يحتاجون إليه من علاج وغيره، أو بطَريق استئذانهم في التصرف نيابةً عنهم في أموال الزكاة التي هي حق لهم في أموال الأغنياء، مع مراعاة اللوائح والقوانين المنظِّمة لهذا الشأن.
مصارف الزكاة
وبينت ان الزكاة ركنٌ مِن أركان الإسلام، نظَّم الشرعُ الشريفُ كيفية أدائها بتحديد مصارفها في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].
وقد اشترط جمهورُ الفقهاء فيها التمليكَ، فأوجَبُوا تمليكَها للفقير أو المسكين حتى يتصرف فيها كما يشاء، وينفقها في حاجته التي هو أدرى بها وأعلَمُ مِن غيره، كما في "المبسوط" لشمس الأئمة السَّرَخسِي الحنفي (2/ 202، ط. دار المعرفة)، و"مغني المحتاج" للإمام شمس الدين الخطيب الشِّربِينِي الشافعي (4/ 173، ط. دار الكتب العلمية)، و"المغني" للإمام موفَّق الدين بن قُدَامَة الحنبلي (2/ 500، ط. مكتبة القاهرة).
ومِن ثَمَّ كان مقصودُ الزكاة كِفايةَ الفقراء والمساكين وإغناءَهم، وإقامة حياتِهم ومَعاشِهم، أي أنها لِبِناء الإنسان قبل البُنيان، فكِفاية الفقراء والمحتاجين مِن المَلْبَسِ والمَأكلِ والمَسْكَنِ والمعيشةِ والتعليمِ والعلاجِ وسائرِ أمورِ حياتِهم يجب أن تكون مَحَطَّ الاهتمام في المقام الأول، تحقيقًا لحكمة الزكاة الأساسية، والتي عبر عنها العلماء بـ"سَدِّ خَلَّةِ المُسلِمِينَ" -كما في "جامع البيان" للإمام أبي جَعفَر الطَّبَرِي (11/ 523، ط. هجر)، ولذلك خَصَّهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بالذِّكر في حديث مُعَاذٍ رضي الله عنه لَمَّا أرسَلَه إلى اليمن وقال له: «فَأَعلِمهُم أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيهِم صَدَقَةً فِي أَموَالِهِم، تُؤخَذُ مِن أَغنِيَائِهِم، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم» متفق عليه.
ويدخل فيه كفاية الفقراء والمساكين في علاجهم من أمراض الأنف والأذن والحنجرة وغيرها من الأمراض، وذلك بطريق تسليمهم مالَ الزكاة وتمليكهم إياه لينفقوه بأنفسهم فيما يحتاجون إليه من علاج وغيره بحسب ما يقررونه من أولويات حياتهم وشؤون معاشهم، أو بطريق استئذانهم في التصرف نيابةً عنهم في هذا المال الذي هو حق لهم في نفقات علاجهم؛ تحقيقًا لمبدأ تمليك مال الزكاة للفقراء والمساكين وإطلاق يد تصرفهم فيه بأنفسهم أو بالإنابة والتوكيل.
واكدت بناءً على ذلك انه يجوز الصَّرفُ من أموال الزكاة للحالات المرَضية الواردة على المؤسسة من الفقراء والمساكين، على أن يكون ذلك بطَريق تمليكهم أموال الزكاة وتسليمهم إياها لينفقوها بأنفسهم فيما يحتاجون إليه من علاج وغيره، أو بطَريق استئذانهم في التصرف نيابةً عنهم في أموال الزكاة التي هي حق لهم في أموال الأغنياء، مع مراعاة اللوائح والقوانين المنظِّمة لهذا الشأن.