تقوى الواوي -

لطالما عشت دون أن أولي الطعام اهتمامًا يُذكر. كثيرًا ما كنت أتجاوز الوجبات، وأحيانًا يفارقني الشعور بالجوع تمامًا، خصوصًا خلال فترات الامتحانات. في البيت، كنت أسمع التوبيخ لأنني لا آكل كما ينبغي، وأصدقائي في المدرسة كانوا يسخرون منى قائلين إنني أعمل بالطاقة الشمسية.

لكن لا شيء مما مررت به، ولا عدد الوجبات التي فوّتُها في حياتي، كان كافيًا ليهيئني لما أعيشه الآن.

هذا ليس فقدانًا في الشهية. وليس مجرد مرحلة مؤقتة. هذه مجاعة حقيقية في غزة، فرضها الاحتلال الإسرائيلي عن عمد. تجتاح الفكر وتنهش الجسد حتى لا يبقى فيه إلا رمق البقاء. لا راحة، لا طاقة، لا قدرة على التركيز... فقط وجع الجوع القاسي الذي لا يهدأ.

وليس ما يحدث ناتجًا عن صدفة. إنها سياسة منهجية تُمارسها سلطة تسعى للانتقام الجماعي.

اليوم، نحن نُجَوّع أمام أعين العالم.

والمؤلم في الأمر أنه لا يقتصر على الأجساد. الجوع أصبح يسكن عقولنا. لم نعد نفكر في دراستنا ولا في مستقبلنا. كل ما يشغلنا هو الطعام: أين نجده؟ كيف نشتريه؟ وكيف نواصل الحياة؟

هذه عقوبة وليست أسعارا، في يوم الجمعة، 18 يوليو، كانت أسعار المواد الغذائية الأساسية في غزة كالتالي: كيلو الطحين = 200 شيكل (60 دولارًا)، كيلو السكر = 400 شيكل (120 دولارًا)، كيلو المعكرونة = 100 شيكل (30 دولارًا)، كيلو الأرز = 150 شيكل (45 دولارًا)، كيلو البطاطس = 100 شيكل (30 دولارًا)، كيلو العدس = 80 شيكل (26 دولارًا)، كيلو الطماطم أو الباذنجان = 90 شيكل (24 دولارًا)

هذه ليست أسعارًا، بل أشكال من العقاب.

وحتى لو نجحت في جمع المبلغ المطلوب، تظهر مشكلة أخرى: العملة ذاتها. فالتجار يرفضون الأوراق القديمة أو الممزقة أو حتى التي عليها بقعة بسيطة، وإذا قبلوها، يخصمون منها 45% كعمولة.

تخيل أن تكون بلا مال، ثم تُعاقب على القليل الذي تملكه.

سعر كيلو الطحين يقفز من 70 إلى 200 شيكل بين ليلة وضحاها. كل شيء متقلب، وكأن الغذاء الأساسي أصبح سلعة تُتداول في سوق البورصة، تُقاس فيها الحياة على مدار الساعة.

أربعة أفراد يمكن أن يبحثوا في خمسة أسواق مختلفة، ثم يعود كل منهم صفر اليدين. وإن عثرت على طعام، فمن النادر أن يكون كافيًا لملء بطن واحد.

الطهو لم يعد لحظة دفء. نُشعل النار بما تيسر: خشب، أو بلاستيك، أو بقطع قماش. الدخان يخنق صدورنا، ويلسع أعيننا، ويغلف أجسادنا كستار خانق. يسبب نوبات سعال، ويزيد من سوء حالات الربو، ويسلب أنفاس الكبار والضعفاء.

الوقوف قرب النار يستنزف ما تبقّى فينا من طاقة. الأيدي ترتجف وهي تُحرّك القدر. لا نأكل لأننا نرغب في الأكل، بل لأن الجوع معركة يومية نخوضها بأجساد أنهكها الانتظار.

أطفال يموتون جوعًا..

كل يوم تُعلن أرقام جديدة. وكل رقم ليس مجرد إحصائية، هي روح حقيقية، وطفل حقيقي، وموت حقيقي.

في يوم 22 يوليو، مات 15 فلسطينيًا على الأقل جوعًا في يوم واحد، بينهم أربعة أطفال. وبذلك ارتفع عدد الوفيات الناتجة عن المجاعة منذ 7 أكتوبر 2023 إلى 101 حالة، من بينهم 80 طفلًا.

ووفقًا لمنظمة اليونيسف، نُقل أكثر من 6,000 طفل إلى المستشفيات خلال شهر يونيو فقط بسبب سوء التغذية الحاد. ويُقدَّر أن نحو 930,000 طفل يواجهون اليوم جوعًا كارثيًا، بينما يُواجه 650,000 طفل دون سن الخامسة خطر الموت.

أما وزارة الصحة في غزة، فقد أعلنت أن 115 شخصًا ماتوا بسبب الجوع وسوء التغذية، بينهم 81 طفلًا.

ومع ذلك، يواصل العالم النظر بصمت بارد.

كما جاء في رسالة متداولة بين الأهالى في غزة وُجهت إلى العالم العربي والإسلامي: «أنتم خصومنا بين يدي الله. أنتم خصوم كل طفل، كل يتيم، كل أرملة، كل نازح وكل جائع. صمتكم هو الذي منح هذه الإبادة قوتها. وسنحاسبكم على هذا النزيف».

أين أنتم؟ أين مشاعركم؟ أين نخوتكم؟

الذين يملكون القرار ينامون هانئين. أطفالهم يأكلون ويضحكون. أما أطفالنا، فيبكون جوعًا حتى يغلبهم النعاس... وأحيانًا لا يستيقظون.

السؤال الذي لا يفارقنا

أتحدث مع أصدقائي عمّا سنأكله اليوم. لا أقصد التخطيط المعتاد للوجبات كما يفعل الناس عادة. إنما أقصد السؤال حرفيًا: «ما الذي يمكننا أن نأكله اليوم؟»

لقد تحوّل هذا السؤال إلى شبح يلاحقنا.

أغلبنا يعيش على وجبة واحدة في اليوم، إن جاز تسميتها وجبة. بعضهم لا يشرب سوى الماء، وهو في الغالب غير صالح للشرب. لكنه كل ما لدينا. لم يعد أحد يهتم إن كان نقيًا أم لا. الجوع يهدم كل معايير النظافة.

الأسوأ من ذلك، أن بعض التجّار يحتكرون الطعام. ولا أخجل من قول هذا علنًا، لأن الغضب يسكننا جميعًا. هؤلاء القلّة لا يُمثّلون أهل غزة. لا يمكن اعتبارهم جزءًا من الجسد، هم العلّة التي تنهشه من داخله.

نعيش في حلقة مغلقة من الألم والجوع. المشاعر تجمدت. الأحبّة يرحلون، ولا نملك حتى وداعهم. نمضي في أيامنا بلا حسّ... وببطون فارغة.

صديقتي هالة روت لي قصة تمزق القلب. شقيقتها المتزوجة فقدت زوجها في غارة جوية. لديها أطفال صغار. تبكي كل يوم، حزنًا على زوجها، ولأنها تحدق في عيون أطفالها وهي عاجزة عن إطعامهم.

ليست هذه مبالغات درامية. هذه حياتنا كما هي. وهناك قصص أخرى أعتم من أن تحتملها الكلمات.

جحيم الجوع

من نافذة غرفتها، تتابع آية، صديقتي المقرّبة، المشهد كل صباح.

مطبخ الفقراء، الذي أصبح يحمل اسم مؤسسه «أبو شافع» بعد استشهاده قبل أسابيع، يقع بجوار ملعب «ستارز» الذي كان يومًا مكانًا للعب واللهو، وأصبح اليوم رمزًا للبقاء.

قبل بزوغ الفجر، يبدأ الناس في التجمع. ينتظرون بصمت، وسط الغبار والجوع، وهم يحملون أوعية فارغة، وكأنهم يرجون من الانتظار أن يُثمر طعامًا.

تغلى في القدور الستة عشر الضخمة عدسات صفراء أو بنية، أو حساء رقيق مملوء ببقايا ما تبقّى من الطعام.

لا ملح، ولا بهارات، ولا نكهة تُذكر. لكن لا أحد يهتم. فمن لا يأكل من هذا المطبخ، لا يأكل شيئًا طوال اليوم.

كل شخص يُمنح مغرفة واحدة. فقط مغرفة واحدة. لا تكفي لملء معدة واحدة، فكيف بعائلة مكوّنة من عشرة أفراد؟

الأطفال، والكبار، والأمهات، حتى الشبان، جميعهم يندفعون للأمام. الجموع تتدافع، والأجساد تلتصق ببعضها، والعدس المغلي يتناثر على الأذرع العارية، ولا أحد يتأوه. الألم يتراجع حين يتقدّم الجوع.

لا طابور، ولا ترتيب هناك. هناك الحاجة والبحث عن النجاة.

أطفال بالكاد تجاوزوا العاشرة يقفون في المقدمة، يحملون مسؤولية العودة بأي شيء إلى أسرهم. ورغم ذلك، تنفد القدور قبل أن تنتهي الطوابير.

لقد رأت آية بأمّ عينها أناسًا يسقطون في الشوارع من الجوع، وشاهدت أجسادهم الواهنة تتهاوى على الأرض بعدما فقدت القدرة على الاحتمال.

رأت أمًّا تبكي وهي تضمّ ابنها، ليس لأنه جُرح، بل لأنه نظر في عينيها والدموع تملأ وجهه وقال هامسًا: «ماما، أريد أن آكل».

ولم تكن تملك شيئًا... لا كسرة خبز... ولا حتى وعدًا.

إبادة بالجوع

في غزة، لا يبكي الأطفال على دمى مكسورة... بل يبكون من الجوع.

طفل مات وهو نائم، لا بسبب قصف، ولا برصاص. لقد مات جوعًا. الجوع قتله، والصمت دفنه.

أين أنتم يا عرب؟ أين أنتم يا بشر؟ لماذا يصمّ العالم أذنيه ويغلق عينيه عن غزة؟

كيف أصبح الخبز حلمًا، والماء أمنية بعيدة؟

غزة لا تحتاج دموعًا، تحتاج صوتًا، ووقفة، وتحتاج من يكسر هذا الصمت الثقيل.

ذلك الطفل الصغير مات جائعًا، لكن من يستحق الموت خجلًا هم قادة هذا العالم.

أنا طالبة جامعية، أُحاول أن أشتّت ذهني بالدراسة، أكتب مقالات كهذه لأحافظ على اتزاني النفسي. أؤدي امتحاناتي النهائية عبر الإنترنت، أدرس الأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية - الجامعة التي دمّرتها إسرائيل.

أجلس لامتحاناتي بمعدة خاوية، وعقلٍ مثقل بالضباب، وجسدٍ واهن.

ترتجف أصابعي وأنا أكتب الإجابات. الأسئلة تتشوش أمام عينَيّ الجافتين. الجوع يسلبني تركيزي، ويفكك أفكاري، ويستنزف ما بقي من طاقتي. لا أستطيع الجلوس مستقيمة، وأتنفّس بصعوبة.

أصوات الطائرات بدون طيار وزئير الطائرات الحربية تطارد ليلي.

أشعر بالإرهاق يكبلني، لكنني أقاوم. الرسوب ليس خيارًا، حتى لو كان جسدي يوشك على الانهيار.

نحن لا نجوع صدفة. نحن نُجَوَّع عن قصد. هذه ليست كارثة طبيعية، هي فاجعة من صنع الإنسان. وإبادة جماعية بالجوع.

ألا ترون؟ ألا تسمعون؟

بطون منتفخة لأطفال صغار. أمهات يغمى عليهن في طوابير الطعام. أجداد تتلاشى أجسادهم أمام أعيننا.

أين بصركم؟ أين سمعكم؟

سمّوا الأمور بأسمائها.

لكننا لن نغفر... ولن ننسى.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: دولار ا فی غزة

إقرأ أيضاً:

ضبط أكثر من 900 كيلو جرام مخدرات وتنفيذ 82 ألف حكم قضائي بحملة أمنية واسعة

قامت أجهزة وزارة الداخلية بمختلف مديريات الأمن على مستوى الجمهورية بتوجيه حملة أمنية مكبرة، أسفرت جهودها خلال 24 ساعة عن نتائج إيجابية في عدة مجالات أمنية.

 

الداخلية تكشف حصاد 24 ساعة من الحملات الأمنية في المخدرات والأسلحة والمرور

وفي مجال مكافحة المخدرات، تم ضبط 397 قضية جلب مواد مخدرة، ضُبط خلالها 461 متهمًا، شملت المضبوطات أكثر من 916 كيلو جرام حشيش، و37 كيلو جرام بانجو، و14 كيلو جرام هيروين، و11 كيلو جرام آيس، و7 كيلو جرام بودر، و5 كيلو جرام شابو، و4 كيلو جرام استروكس، و400 جرام فرجينيا، و83 جرام كوكايين، و10 جرام فودو، إلى جانب 100 أمبول و26 ألف 779 قرص مخدر.

وفي مجال ضبط الأسلحة النارية والبيضاء، تم ضبط 181 قطعة سلاح بحوزة 157 متهمًا، تضمنت 13 بندقية آلية، و29 بندقية خرطوش، و3 طبنجات، و136 فرد خرطوش، و274 طلقة نارية مختلفة الأعيرة، و15 خزينة متنوعة، و298 قطعة سلاح أبيض.

كما تم تنفيذ 82 ألف 816 حكمًا قضائيًا متنوعًا، شملت 363 حكم جناية، و27 ألف 824 حكم حبس جزئي، و4748 حكم حبس مستأنف، و38 ألف 524 حكم غرامة، و11 ألف 357 مخالفة.

وفي مجال ضبط المتهمين الهاربين، تم ضبط 16 متهمًا، وضبط 17 متهمًا من القائمين بأعمال البلطجة، بالإضافة إلى 257 دراجة نارية مخالفة.

كما تم ضبط 25 ألف 527 مخالفة مرورية متنوعة وفحص 60 سائقًا على الطرق السريعة للكشف عن تعاطي المخدرات، وأسفر الفحص عن إيجابية 9 منهم.

وتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، مع استمرار الحملات الأمنية لضبط المخالفات وتعزيز الأمن على مستوى الجمهورية.

 


 




مقالات مشابهة

  • القبض على شخص لترويجه 16 كيلو جرامًا من القات المخدر في عسير
  • ضبط 185 كيلو لحوم مذبوحة خارج المجازر ومصنعات لحوم مجهولة بالغربية
  • ضبط أكثر من 900 كيلو جرام مخدرات وتنفيذ 82 ألف حكم قضائي بحملة أمنية واسعة
  • أكثر من 12 مليون شخص في ميانمار يواجهون الجوع الحاد العام المقبل
  • الجوع والبرد يجتمعان في غزة.. والسيول تزيد الطين بِلة (فيديو)
  • حكايات سودانيين هربوا من الرصاص ببلادهم ليواجهوا الجوع في تشاد
  • عائلات في لبنان تعاني من الجوع.. والأرقام تكشف وضع الأطفال
  • الربيحات في أقصر كلمة .. الشعب الأردني جائع ” أقم الصلاة يا دولة الرئيس” / فيديو
  • مقررة أممية: الجوع الذي يعانيه الأطفال في فلسطين نتيجة خيارات” تل أبيب” ودعم العواصم الغربية
  • ضبط 650 كيلو دقيق وتحرير 48 محضرا ضد المخابز بالفيوم