صدى البلد:
2025-12-13@14:41:24 GMT

أدعية وأذكار تقال عند الأرق وصعوبة النوم

تاريخ النشر: 16th, October 2024 GMT

اجابت دار الافتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:" ما الذي يقال من الأدعية والأذكار عند حصول الأرق؟ فأنا أعاني منذ مدة من الأَرَقِ؛ حيث إني لا أستطيع النوم في الليل؛ فأبقى مستلقيةً في الفراش دون نوم، وقد سمعت أن هناك بعض الدعوات والأذكار التي تُقال عند النوم للتخَلُّصِ من الأرَقِ، فهل ما سمعته صحيحٌ؟ وما تلك الأذكار لأواظبَ عليها"؟.

لترد دار الإفتاء المصرية، موضحة: أنه وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضُ الأدعية والأذكار التي تُقَال عند الإحساس بالأرقِ وذهاب النوم، مع ضرورة استحضار عظمة الله تعالى وتصفية القلب مما يحول دون استقبال النفحات الإلهية، والتي منها: ما جاء عن بُرَيدة رضي الله عنه، قال: شكا خالد بن الوليد المخزومي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الأرق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ أَوْ أَنْ يَبْغِيَ عَلَيَّ، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ».

ومع ذلك فينبغي على الإنسان ألا يهمل جانب التطبب والعلاج، فهو من جملة الأخذ بالأسباب المطلوبة شرعًا عند المُتَخَصِّصين، خاصة إذا زاد الأرق.

فضل الذكر
الذكرُ مِن أفضلِ أنواع القُرَبِ؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45]، وقد امتَدَح الله عباده المُداوِمين على ذكرِهِ في جميعِ الأوقاتِ وعلى اختلافِ أحوالِهِم؛ فقال سبحانه: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]؛ أي: في أدْبارِ الصلواتِ وغُدُوًّا وعَشِيًّا، وفي المضاجِعِ وعند الانتباه مِن النوم؛ كما تأوَّل الإمام القرطبي في "تفسيره" (14/ 186، ط. دار الكتب المصرية).

ما يُقال من أدعية وأذكار عند حصول الأرق


مِن الذكر ما ليس مُقيَّدًا بوقت مُحَدَّدٍ كالذي يقوله الإنسانُ إذا أصابَه قَلَقٌ في فراشِهِ فلم يَنَمْ أو خَشِي من الأرَقِ -وهو المسؤول عنه- فالأرَقُ هو مفارقةُ النَّومِ الرَّجُلَ من وسوسةٍ أو حزنٍ أو غير ذلك. يُنظر: "الأذكار" للإمام النَّوَوِيِّ (ص: 97، ط. دار الفكر)، و"المفاتيح" للإمام المُظهِري (3/ 218، ط. دار النوادر).

قال الإمام أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 345، ط. دار المعرفة) في الأدب العاشر من آداب النوم: [الدعاء عند التَنَبُّه فليَقُل في تَيَقُّظاتِهِ وتَقَلُّباتِهِ مهما تَنَبَّهَ ما كان يقوله رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ. ويشمل هذا الأرق بجامع التَّيَقُّظ والتَّقلُّب وعدم الراحة في النوم؛ لأنه مُسبَّبٌ عنه.

وقد وَرَدَ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في الأرَقِ بعضُ الأذكار والدعواتِ التي تُقَال لاستجلاب النوم، فمنها: ما جاء عن بُرَيدة رضي الله عنه، قال: شكا خالد بن الوليد المخزومي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الأرق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ أَوْ أَنْ يَبْغِيَ عَلَيّ، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» رواه الترمذي في "سننه" والطبراني في "الأوسط".

قال العَلَّامة السفاريني الحنبلي في "غذاء الألباب" (2/ 386، ط. مؤسسة قرطبة) عطفًا على آدابِ النَّوْم: [ومنها أن الإنسان إذا أصابَه أَرَقٌ دعا بالكلماتِ التي عَلَّمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لخالدٍ رضي الله عنه] اهـ.

ومنها: ما رواه ابنُ السُّنِّي في "عمل اليوم والليلة" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَرَقًا أَصَابَنِي، فَقَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، لَا تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أَهْدِئْ لَيْلِي، وَأَنِمْ عَيْنِي»، فَقُلْتُهَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِّي مَا كُنْتُ أَجِدُ.

ومعنى: «أهْدِئ لَيْلي» أي: سكِّنْه لأنام فيه أو سكِّني بالنوم فيه لأسْلَمَ من السَّهَر والأرَقِ ويذهب ما أجِدُ من القَلَقِ؛ كما قال ابنُ علان البكري في "الفتوحات الربانية" (3/ 179، ط. جمعية النشر والتأليف الأزهرية).

ومنه أيضًا: ما أخرجه البخاري في "صحيحه" عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ»، قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ.

قال شهابُ الدين الكوراني في "الكوثر الجاري" (9/ 286، ط. دار إحياء التراث العربي): [فائدةُ المسح باليد بعد النفث وصولُ الهواء المُخْتَلِط ببركةِ القرآن إلى جسدِهِ] اهـ.

ومنه: ما أخرجه النسائي في "سننه الكبرى" عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ، فَيَقْرَأُ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ إِلَّا وَكَّلَ اللهُ بِهِ مَلَكًا لَا يَدَعُ شَيْئًا يَقْرَبُهُ يُؤْذِيهِ حَتَّى يَهُبَّ مَتَى هَبَّ».

وقوله: «فَيَقْرَأُ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ» أي: مما ورد في القراءة عند النوم كقراءة آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة؛ كما قال الحافظ ابنُ حجر العسقلاني في "فتح الباري" (11/ 125، ط. دار المعرفة). ومنه أيضًا: ما ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «يَا فُلاَنُ، إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ مُتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا» متفق عليه.

وقوله: «أَصَبْتَ أَجْرًا» أي: أجرًا عظيمًا، فالتنكير يُفيد التفخيم والتعظيم، وفي رواية: «خيرًا» مكانه. يُنظر: "عمدة القاري" (25/ 157، ط. دار إحياء التراث العربي).

ويدخل في هذا الباب أيضًا: ما أخرجه النسائي في "سننه الكبرى" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ رَجُلًا يَفْزَعُ فِي مَنَامِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اضْطَجَعْتَ فَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ، مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ»، فَقَالَهَا، فَذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُ.

وفي رواية للإمام الترمذي في "سننه" بلفظِ: «فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ». أي: ظاهرًا وباطنًا إذا دعا بهذا الدعاءِ؛ كما قال المُلا علي الهروي في "مرقاة المفاتيح" (5/ 333، ط. دار الفكر).

ضرورة الرجوعُ للطبيب المحتص إذا طالت الشكوى أو زادت حِدَّة الأرق
عليه: فإذا واظب الإنسان على هذه الأذكار السَّابقة فَحَرِيٌّ بأن يذهب عنه ما يَجِدُ من أرقٍ، غير أن هذا محله قلب صاف يتوكل على الله عز وجل ويستحضر عظمته، فلا يعزب الذكر عن ذلك؛ إذ الذكر وحده دون صفاء القلب واستحضار عظمة الله تعالى قد لا يُوجِد أثرًا، فعلى الإنسان تصفية قلبه من شتى العلائق التي تحول دون استقبال النفحات والبركات والتجليات الإلهية، ومع ذلك فينبغي ألا يهمل الإنسان جانب التطبب والعلاج، فعلاج أمراض البدنِ مطلوبٌ عند المُتَخَصِّصين، وذلك بالأخذِ بالأسباب المشروعة في العلم الحديث، وقد أرشَدَنَا القرآن إلى ذلك، فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وشَرَعَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الأخذ بالسبب في التداوِي مع قراءة القرآن.

فقد ورد عن علي رضي الله عنه، قال: بَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة يُصلي فوَضَعَ يده على الأرض فلدغته عقرب، فتناولها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنعله، فقتلها، فلمَّا انصرف قال: «لعَنَ اللهُ العَقْرَبَ، لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ، أَوْ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ إِلَّا لَدَغَتْهُمْ، ثُمَّ دَعَا بِمِلْحٍ وَمَاءٍ فجَعَلَهُ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ جَعَلَ يَصُبُّهُ عَلَى إِصْبَعِهِ حَيْثُ لَدَغَتْهُ وَيَمْسَحُهَا وَيُعَوِّذُهَا بِالمعوذتين» أخرجه ابنُ أبي شيبة في "مصنفه".

وجهة الاستدلال: أن الحديث دلَّ على أن قراءة القرآن والدعاء لا يمنَع شيءٌ منهما من الأخذِ بالأسباب كما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر الدواء، فيُراعى الرجوعُ للطبيب خصوصًا إذا طالت الشكوى أو زادت حِدَّة الأرق.

الخلاصة
بناء على ذلك وفي السؤال: فإنه قد وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضُ الأدعية والأذكار التي تُقَال عند الإحساس بالأرقِ وذهاب النوم كما سبق بيانها، مع ضرورة استحضار عظمة الله تعالى وتصفية القلب مما يحول دون استقبال النفحات الإلهية، ومع ذلك فينبغي على الإنسان ألا يهمل جانب التطبب والعلاج، فهو من جملة الأخذ بالأسباب المطلوبة شرعًا عند المُتَخَصِّصين، خاصة إذا زاد الأرق.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: فضل الذكر النبی صلى الله علیه وآله وسلم الله صلى الله علیه وآله وسلم رضی الله عنه ا رسول الله إ ل ى ف ر اش التی ت ق ه وآله ى الله ع ول الله الله ص ال عند ل الله

إقرأ أيضاً:

الرسول وحب من طرف واحد بين صحابي وصحابية!!

الحب عاطفة تتملك الإنسان، ولا يملك ردها، أو رفضها، أو توجيهها، ولذا كان موقف الإسلام منها واضحا، أنها أمر لا يملكه الإنسان، ولكن يملك ألا يتحول بحبه إلى ما حرمه الله تعالى، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حين يقسم بين زوجاته حقوقهن، يقول: اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك. وما لا يملكه صلى الله عليه وسلم هو العاطفة القلبية، فهذا ليس بيد الإنسان.

وقد رأينا في السنة والسيرة النبوية، مواقف لعاطفة الحب بين طرفين، يتبادلان الحب العفيف، وعبر عن ذلك صلى الله عليه وسلم بتقدير الإسلام لمثل هذه العواطف التي تنطلق من حلال، ولا تخرج عن إطار ما شرعه الله، فقال: "لم يُر للمتحابين مثل النكاح"، ووردت في ذلك قصص في السنة والسيرة النبوية، في هذا المجال المشروع.

لكن هناك حالة لم تشتهر بنفس هذه القصص في السيرة والسنة النبوية، وهي: حالة الحب من طرف واحد، حيث يتملك قلب أحد الأطراف، وتحكي السنة والسيرة تفاصيله، بل يصل الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم، ويطلب أحد الأطراف منه الوساطة لدى الطرف الذي لا يحب، حتى يقبل بهذا الحب، ليكون في مساره الطبيعي وهو الزواج.

بريرة جارية عائشة:

والقصة تتعلق بجارية كانت لدى السيدة عائشة رضي الله عنها، اسمها: بريرة، وكانت متزوجة بعبد اسمه: مغيث، وكلاهما على الإسلام، ومعروف حكم الإسلام في الرقيق إذا تزوجا، وأعتق أحدهما دون الآخر، فإن كان من أعتق الرجل دون المرأة، فتظل زوجة له، لكن المرأة إذا أعتقت ولم يعتق الرجل، تكون المرأة بعد عتقها بالخيار، إن شاءت ظلت زوجة، وإن شاءت انفصلت عنه، لكن بشرط ألا يحدث بينهما جماع بعد العتق.

أعتقت السيدة عائشة رضي الله عنها جاريتها بريرة، وبعد عتقها مباشرة، قررت أن لا تكمل حياتها الزوجية مع زوجها، والتي أنجبت منه ذرية، وتروي السيدة عائشة موقف اختيار بريرة فقالت: أن بريرة عتقت وهي عند مغيث، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: إن قربك فلا خيار لك" وفي رواية أخرى: عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في بريرة: خذيها فأعتقيها، وكان زوجها عبدا، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، ولو كان حرا لم يخيرها".

وكان هذا القرار صادما للزوج الذي يحبها حبا شديدا، يصل للجنون بها، ويلح عليها باستمرار الزواج، وهي مصرة على رفضها، ولم يجد حلا لإقناعها بالاستمرار، سوى أن يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع عندها له، وهي فكرة دلت على مدى تمسك الرجل بحبه لها، فأراد أن يستشفع بمن لا ترد شفاعته ولا وساطته، وقد جرب من قبل صحابي رفض طلبه للزواج بفتاة، نظر أهلها إليه نظرة إقلال من حيث وضعه المادي، وهو الصحابي جليبيب، فذهب معه النبي صلى الله عليه وسلم، فقبلوا خطبته، فأراد مغيث أن يكرر الأمر.

حب شديد من الرجل وبغض من المرأة:

تروي كتب السنة موقف الرجل من حبه لامرأته، وبغضها له، وإصرارها على الانفصال، وتروي تفاصيل غرامه وحبه الشديد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن زوج بريرة، كان عبدا يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: يا عباس "ألا تعجب من شدة ‌حب ‌مغيث ‌بريرة، ومن شدة بغض بريرة مغيثا؟!"، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك"، فقالت بريرة: يا رسول الله أتأمرني؟ قال: "إنما أنا شافع"، قالت: لا حاجة لي فيه".

قال العلامة ابن بطال في شرح صحيح البخاري: (وفيه: أنه لا حرج على مسلم في هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفي، ولا إثم عليه فى ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا، وذلك أن مغيثًا كان يتبع بريرة بعدما بانت منه في سكك المدينة، مبديًا لها ما يجده من نفسه من فرط الهوى، وشدة الحب، ولو كان هذا قبل اختيارها نفسها لم يكن، عليه السلام، يقول لها: (لو راجعتيه)؛ لأنه لا يقال لامرأة فى حيال رجل وملكه بعصمة النكاح: لو راجعتيه، وإنما يسئل المراجعة المفارق لزوجته، وإذا صح ذلك، فغير ملوم من ظهر منه فرط هوى امرأة يحل له نكاحها نكحته بعد ذلك أم لا، ما لم يأت محرمًا ولم يغش مأثمًا).هذا الموقف الذي لا يتعدى سطورا قليلة، يحمل في طياته دروسا مهمة، تشرح في صفحات طوال، فالحب كان من طرف واحد، هو طرف الرجل، ولم يجد ما يمس كرامته من التعبير عن هذا الحب، ولم يجد ما يمنعه من تتبعها في سكك المدينة، يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، ويرى ذلك الناس كلهم، ويتعجب الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حب الرجل لزوجه، وشدة بعضها له، وربما يكون النكاح نشأ عن حب، وتغير مع الأيام والعشرة، أو لم ينشأ من الأساس، وكان خيارها محدودا في الاختيار، ولما اتسعت دائرة الاختيار لديها قررت الانفصال، دون حرج منها أن تخاف من نظرة المجتمع بأنها باعت زوجها ووالد أبنائها، أو أن تتهم بقلة الأصل، وعدم مراعاة العشرة، فهو اختيار لها كامل الحرية فيه.

فهم عظيم لفقهاء الأمة للحديث:

والعجيب أكثر، هو تعامل الفقهاء والعلماء من السلف مع الحديث، فلم نرهم يعرضون عنه، أو عن تفاصيله، أو يعمى أحدهم عن عناوينه البارزة، ودروسه الواضحة، في قضية لو أن بعض شيوخ زماننا من المتشددين تناولها، لربما نحا بالقصة والحادثة بعيدا عن مضمونها، ومع ذلك نرى كتب التراث الفقهي والحديثي، تعنون للقصة عناوين معبرة، فقد ذكر الخرائطي هذا الحديث وعنون له بما يلي: ‌‌باب إعراض المحبوب عن حبه وصبره عن الأمر جهده.

بل نقل الإمام ابن القيم مواقف عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن بعدهم، بأنهم شفعوا لعشاق كي يجمعوا بينهم في الحلال بالزواج، وعنوان لفصل من كتابه: (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) بعنوان: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء والراحمين للعاشقين.

وانتبه العلماء وشراح الحديث النبوي، لما اشتمل عليه الحديث، من حكم فقهي يتعلق بالحب من طرف واحد، وإصرار المحب على هذا الحب، فقال ابن القيم: (ولم يَنْهَهُ عن عشقها في هذه الحالة؛ إذ ذلك شيءٌ لا يُملكُ، ولا يدخلُ تحت الاختيار)، وقال: (ولم ينكر عليه حبّها، وإنْ كانت قد بانَتْ منه، فإنّ هذا ما لا يملكه).

وقال العلامة ابن بطال في شرح صحيح البخاري: (وفيه: أنه لا حرج على مسلم في هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفي، ولا إثم عليه فى ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا، وذلك أن مغيثًا كان يتبع بريرة بعدما بانت منه في سكك المدينة، مبديًا لها ما يجده من نفسه من فرط الهوى، وشدة الحب، ولو كان هذا قبل اختيارها نفسها لم يكن، عليه السلام، يقول لها: (لو راجعتيه)؛ لأنه لا يقال لامرأة فى حيال رجل وملكه بعصمة النكاح: لو راجعتيه، وإنما يسئل المراجعة المفارق لزوجته، وإذا صح ذلك، فغير ملوم من ظهر منه فرط هوى امرأة يحل له نكاحها نكحته بعد ذلك أم لا، ما لم يأت محرمًا ولم يغش مأثمًا).

والأمر اللافت للنظر جدا هنا، هو: كيف فهمت هذه المرأة الفرق بين ما يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب التشريع ولا تملك فيه أن ترد أمره، وما يرد عنه في باب الشفاعة والوساطة التي ترد ولا إثم عليها، وأن ذلك لا يقدح في دينها، ولا في طاعتها لرسولها صلى الله عليه وسلم، ودل كذلك على ثقتها بأن ذلك لن يؤثر في تقدير النبي لها، وفي زماننا لو توسط كبير لدى شخص من الناس، فرد وساطته لأمر لا يطيقه، لغضب وأخذ الأمر على محمل السوء.

درس للمتشددين ومدعي التنوير:

وهذه امرأة أمية في عصر ليس فيه تعليم، وليس فيه موارد للثقافة العالية في المجتمع، مثل ما يتيسر في أزمنتنا، ولم تحتج المرأة لكثير من دروس العلم الطويلة التي يحصل عليها طلبة علم في زماننا، فنرى متدينين متشددين في زماننا لا يحسنون التفريق بين ما يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب التشريع الملزم، وما ليس في هذا الباب، وقد ضيقوا بفهمهم الضيق أبوابا من الفهم للدين والتيسير فيه، بينما هذه السيدة استطاعت بكل يسر وسهولة هذا التمييز، حيث قالت له: يا رسول الله جئتني آمرا أم شافعا، فهي تعلم أن باب الأمر ملزم لها شرعا، وإن عصته تأثم، لكن باب الشفاعة رغم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم لا إثم في رفضه.

وهو درس أبلغ كذلك في الرد على علمانيين ومدعي تنوير في حياتنا، وهم جهلاء، يريدون أن يحولوا كل تشريع لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد كلمات تقال للبركة الدينية، أو للذكرى الدينية، ويجردون النبي صلى الله عليه وسلم من حق التشريع الذي منحه الله له، وكأنه جاء بالإسلام ليكون حاشاه مجرد حامل بريد برسالة إلهية، وموقف المرأة دلالة على أن نعمة الفهم الدقيق للدين، لا علاقة له بشهرة، أو مؤهل علمي وضع على فراغ في رأس صاحبه.

[email protected]

مقالات مشابهة

  • آيات كان يرددها النبي قبل النوم.. حصّن نفسك طوال الليل وداوم على قراءتها
  • أذكار المساء كاملة.. أفضل أدعية الليل تجلب لك خير الدنيا والآخرة
  • دعاء الشفاء العاجل.. ردد أجمل أدعية للمريض بظهر الغيب
  • استشاري نوم تكشف أسباب ارتفاع معدلات الأرق بين النساء
  • حكم ترك صلاة الجمعة بسبب البرد الشديد والمطر.. مفتي الجمهورية يوضح
  • حـفظ المـال
  • الرسول وحب من طرف واحد بين صحابي وصحابية!!
  • متى يستلزم الأرق استشارة الطبيب؟ تعرف على الأسباب والعلاج الفعّال
  • جوهرة الكون وسيدة الفطرة
  • ‫الأرق.. متى يستلزم استشارة الطبيب؟