تُبشر بعض الكتب بكُتبٍ أخرى تُسلمك بدورها إلى مؤلفات أخرى؛ لتمنح المتعة فـي التنقل بين أفكار تتشابه أو تتضاد فـيما بينها، إضافة إلى لذة استطعام الكلمات والمعاني والتعرف على معاناة أصحابها ومشقة التدوين والنشر وانعكاس الرأي الصريح وفصاحة التعبير عن خلجات النفس وبوح كُتّابها. فمنذ أيام وقع بين يدي كتاب «خزانة الكتب الجميلة: كيف نقرأ ولماذا؟» للكاتب أحمد الزناتي، ومع أن الكتاب لا يتجاوز عدد صفحاته (136) صفحة، إلا أن موضوعاته باذخة بالمعرفة والمعلومة المُغرية على التنازل عن القراءة قليلا، والبحث عن المصادر ثم العودة مجددا لخزانة الكتب الجميلة.
فعلى سبيل المثال يختم الكاتب مؤلفه بموضوع «عن الكتابة والغُربة والاحتراق» يذكر فـيه تحقيق الفـيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي (1917-2002) لكتاب «الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية» للفـيلسوف أبي حيان التوحيدي (توفـي 1023م)، وفـي المقدمة التي ذيّلها بدوي بتاريخ (18 أبريل 1949) يقارن بين أبي حيان التوحيدي والكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883- 1924)، «وبذلك يُعدّ عبد الرحمن بدوي أول من عرّف كافكا إلى العالم العربي» وفق تعبير أحمد الزناتي. فـي الكتاب المُحقق يستند بدوي على المخطوطة رقم (8) تصوف 1334 المكتبة الظاهرية بدمشق، والمطبوع فـي مطبعة جامعة فؤاد الأول 1950، يقول بدوي «التشابه بين كافكا المسلول الشريد فـي دنيا اللامعقول وبين صاحبنا العربي الغريب فـي وطنه لمشابه، وأي مشابه». ويستعرض بعد ذلك أوجه التشابه فـي وصف كل كاتب لنفسه فكافكا يقول: «أنا من حجر، بل حجر لقبر نفسي، لا منفذ فـيه للشك أو للإيمان، للحب أو للنفور، للشجاعة أو القلق، على وجه التخصيص أو وجه التعميم: كلا بل ثم أمل واحد غامض يحيا، لكنه من نوع شواهد القبول». أما أبي حيان فـيقول: «أما حالي فسيئة كيفما قلّبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فـيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها، وأما ظاهري وباطني فما أشد اشتباههما! لأني فـي أحدهما متلطخ تلطخا لا يقربني من أجله أحد، وفـي الآخرة مُتبذخ تبذخًا لا يُهتدى فـيه إلى رشد، وأما سرِّي وعلانيتي فممقوتان بعين الحق لخلوّهما من علامات الصدق، ودُنوهما من عوائق الرق، وأما سكوني وحركتي فآفتان محيطتان بي، لأني لا أجد فـي أحدهما حلاوة النجوى، ولا أعرى فـي الآخرة من مرارة الشكوى». بعد ذلك يتطرق بدوي إلى الجذور العرقية للكاتبين اللذين يفصل بينهما تسعة قرون، وكأن النسب أو العرق محفز على التمايز ومُحرض على الكتابة والتعبير، فـيقول مثلا عن كافكا: «ينتسب إلى شعب مستأصل شارد، عليه اللعنة والنقمة أينما حل وحينما سار، وإن ادّعى لنفسه أنه «شعب الله المختار» إلا أن يكون مختارا للشقاء وإشاعة الشر بين الناس وإهدار القيم النبيلة عند الآخرين، وصاحبنا -أي التوحيدي- لا نعرف له أصلا، إنما هو من أولئك الموالي الذين اختلطت فـيهم الدماء والعناصر فكونت مركبًا غريبًا على أنه يشعر بواشجة قربى مع الغرباء والأفاقين حين كان لا يخالط إلا الغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء». إن كان للعرق ذلك الأثر فـي حياة الكاتبين فإن التنشئة تعلب الدور الأهم فـي التأثير على اتجاه الكتابة لدى صاحبها، إذ ترعرع كافكا والتوحيدي فـي كنف أسر تمارس التجارة، و«طبيعة التجارة أشد ما تكون تنافرًا مع الثقافة بالمعنى الرفـيع، لأن التاجر لا يشارك فـي الثقافة إلا بالقدر الذي يستعين به على التجارة، وما تجاوزه يُعدّهُ خيانة لرسالته». مثلما كتب بدوي. أما التشابه الأبرز بين الاثنين فهو أسلوب التخلص من كتاباتهما، فالتوحيدي غسل كتبه بالماء وكافكا أوصى صديقه ماكس برود بحرق كتبه، وحسنا فعلا الأخير الذي أخل بالوصية ولم ينفذها، وترك للعالم تجربة إنسانية تستحق القراءة. يختم بدوي مقدمة الكتاب المحقق بعبارات مهمة عن فعل الكتابة ومسؤوليتها عن الإفصاح بالقول: إن «الكتابة هي «لا» تخشى أن تقول نعم، فتسجيلها يخشى معه إن تحجر أن تستحيل معه «لا» إلى نعم. نعم الكتابة ضرب من الصلاة «مقولة كافكا»، وخير الصلاة ما أتجه إلى المجهول أبدا، وصار سرًا أبدا». هكذا نجد المتعة فـي مشاركة الكتب التي عانى كتابها جراء التدوين وجرّت عليهم الاتهامات والتشنيع بهم، وكالعادة تنتصر الكلمة الصادقة وتنال حظها من البقاء والصمود وتسجل لقائلها الخلود. |
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
حركة العدل والمساواة السودانية تنعي رائد الكتابة باللغات الافريقية الكاتب والمفكر الكيني نقوقي واثينقو
“إن استعمار العقل هو أخطر أشكال الاستعمار، لأنه يجعل المضطَهَد يُشرعن اضطهاده بنفسه”نقوقي واثينقوتتقدم حركة العدل والمساواة السودانية، بالتعازي الحارة الي شعوب القارة الافريقية، والعالم أجمع، في رحيل الروائي الكيني الكبير والمفكر الثوري، نقوقي واثينقو (Ngũgĩ wa Thiong’o)، الذي ترجل عن صهوة الإبداع يوم الاربعاء ٢٨ مايو ٢٠٢٥، بعد عمر حافل بالنضالات والكلمة الحرة والمواقف الصلبة ضد الاستعمار باشكاله المختلفة والدفاع المستميت عن قضايا الحرية والهوية والعدالة للقارة الافريقية ولشعوبها.لقد كان الراحل الكبير صوتاً أفريقياً عظيماً في فضاءات الرواية الافريقية، اذ بزغ نجمه في الكتابة باللغة الانجليزية، قبل ان يتحول الي الكتابة بلغة الكيكيو الافريقية، حيث عمل الفقيد علي تنزيل افكار مدرسة البان افريكانيزم، في انه لا حرية ولا تحرر لشعوب وامم افريقيا، الا بالتحرر من الاستعمار الفكري، الذي غرسته الانظمة الاستعمارية في اذهان الافارقة، عبر المدارس والمعاهد والجامعات الافريقية، وغيرها من وسائل الغزو الثقافي- الفكري. وطريق التحرر هذا لن يكون الا بالعودة الي استخدام اللغات الافريقية في هذه المؤسسات التعليمية وفي الحياة الثقافية.ولذا اختار أن يكون ضميراً للشعوب لا صديً للمؤسسات والمعاهد، فحمل قضايا أمته إلى العالمية، وبنى بكتاباته جسوراً بين الفكر والتحرر، بين الرواية والمقاومة، بين الكلمة والموقف.مضى نقوقي، لكن أثره سيظل باقيا في الذاكرة الأدبية والضمير الإنساني، وسيظل إرثه مصدر إلهام للأجيال المقبلة من المبدعين والمثقفين، الذين يؤمنون أن للأدب دوراً جوهرياً في التغيير وصناعة المستقبل. ولاجيال افريقيا الناشئة، التي تؤمن بان الاستعمار الذي اُخرج من الباب، بفضل نضالات رواد حركات التحرر الافريقي، قد عاد من الشباك، بما اسماه رئيس غانا الأسبق كوامي نكروما بالامبريالية الجديدة.. وبالتالي يجب ان يستمر النضال والكفاح، ضد أشكاله المتحورة المتعددة الجديدة، والتي منها الغزو الثقافي، وحروب الوكالة، التي تدور اليوم في أكثر من دولة أفريقية، وما نموذج حرب السودان ببعيد.رحل نقوقي بعدما وضع بصمته كرائد لاستخدام اللغات الافريقية في الآداب والفنون والتعليم.. رحل الرجل العظيم (موزي)، بعدما غرس قلمه عميقاً في تربة افريقيا البكر دائماً.. ثمار ما عاش ومات من أجله، بدأت تثمر اشجاراً هناك وهناك.. ويوماً ما ستكون لكل افريقيا ادبها وابداعها الذي تكتبه بلغاتها الأصلية.. حينها يمكن للافارقة ان يروا انفسهم من خلال لغاتهم، لا من خلال لغات المستعمر الغربي.. حينها فقط، يكون قد اكتمل مشروع التحرير الفكري والثقافي لافريقيا، مثلما كتب عن ذلك يوماً نقوقي نفسه حين قال:-“عندما تعلمني لغةً ما، فإنك تضعني داخل صندوقها الفكري. ولكن عندما تعلمني لغتي، فإنك تطلقني في عالمي.”محمدين محمد اسحقامين الشؤون الثقافية لحركة العدل والمساواة السودانيةالخميس ٢٩ مايو ٢٠٢٥ إنضم لقناة النيلين على واتساب