اختلف المؤرخون وعلماء الأنثربولوجيا بشأن وضع تعريف دقيق للثقافة، ولعل التعريف الذي ابتكره العالم البريطاني (سير إدوارد بيرنت تايلور) منذ أكثر من قرن يعد التعريف الأفضل حينما عرَّف الثقافة بأنها الكل المُركب الذي يتضمن المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وكل ما يكتبه الإنسان بحكم كونه عضوا في مجتمع ما، وقد خضع هذا التعريف الشامل لمعنى الثقافة للعديد من الدراسات التي تناولت التفاصيل الدقيقة لمفهوم الثقافة على اعتبار أن الثقافة أشمل كثيرا من الإبداع الذي يتضمن كافة العلوم والمعارف والفنون، التي تعد جميعها جزءا من الثقافة، بحكم كونها تعد حصادا للنشاط البشري، ولهذا يكون لكل مجتمع ثقافته التي تميزه بصرف النظر عن تقدم ذلك المجتمع ودرجة رقيه أو تخلفه، وجميع مفردات الثقافة يكتسبها الإنسان من التعليم والتنشئة الاجتماعية، لذا لا تشمل كل ماهو غريزي أو موروث، وتعد وسيلة اكتساب الثقافة عن طريق التعليم هي الوسيلة الأهم، بحكم أن الثقافة هي محصلة الفكر والمعرفة في المجالين النظري والعملي.
تكتسب الثقافة بإحدى الوسيلتين: الثقافة المادية، والثقافة اللامادية، والمقصود بالثقافة المادية كل ما ينتجه المرء في حياته العامة من منتج ثقافي مادي ملموس، بما في ذلك الفنون التكنولوجية، بينما تشمل الثقافة اللامادية السلوك والعادات والتقاليد وما ينجم عنهما من قيم وأفكار ومعتقدات وأساطير وإن كان هذا التقسيم تعسفيا، لأنه من الصعب الفصل بين المنتج المحسوس وغير المحسوس بحكم كونهما معا منتجا ثقافيا، فكريا متناغما، لذا فالفصل بين الثقافتين المادية وغير المادية يهدف إلى تبسيط المفاهيم وتقريبها إلى الأذهان بقصد الدراسة فقط، ولكل مجتمع ثقافته الخاصة، وهو ما يدعونا إلى الحديث عن الثقافة العربية كشيء متميز عن الثقافات الأخرى، فلكل ثقافة جانب إنساني عام بحكم أن وظيفة الثقافة (في أي مجتمع) هي وظيفة إنسانية، ولكل مجتمع إسهاماته في هذه الثقافة الإنسانية مهما كانت هذه الثقافة متواضعة.
على أية حال، فإن قضايا الثقافة وتعريفاتها وشروحاتها تعد قضية معقدة، وما ينطبق على الثقافات الأجنبية ينطبق على الثقافة العربية، إلا أن هناك مقومات أساسية في تحديد خصوصية الثقافة العربية وتمايزها عن غيرها من الثقافات الأخرى، كما تعد في الوقت ذاته من أهم عوامل بقاء هذه الثقافة واستمرارها عبر كل هذه القرون، وهذه المقومات تندرج تحت عناصر كثيرة من بينها اللغة والدين والتراث، فاللغة العربية تعد القاعدة الرئيسية في التفاهم والتقارب بين كل الأقطار العربية، مع الاعتراف باختلاف شعوب العالم العربي في السلالة والعرق والنظم الاجتماعية والاقتصادية، ولا تأتي أهمية اللغة العربية لكونها وسيلة لنقل الأفكار والخبرات، وإنما هي أداة لقيام رابطة ذهنية وعاطفية بين الشعوب الناطقة بها.
لقد كانت اللغة العربية عبر كل العصور عاملا قويا لوحدة العرب، باستثناء ما يحدث في واقعنا المعاصر من أوضاع سياسية وفكرية مهترئة، وانقسامات أيدولوجية أجهزت على ما تبقى من رصيد تاريخي وحضاري، ورغم ذلك فقد بقيت اللغة العربية قائمة ما بقي القرآن الكريم، الذي تكفل بحفظ هذه اللغة من الاندثار مع ملاحظة أن اللهجات العربية لا تعد عامل ضعف لهذه اللغة بل عامل قوة، فلا تزال هذه اللهجات مفهومة في مختلف الأقطار العربية، ولم يحدث لها قطيعة مع الفصحى مثلما حدث في اللغات الأوروبية التي انفصلت عن اللاتينية، ومن هنا ندرك الأسباب التي دعت البعض إلى التشكيك في أهمية اللغة العربية واعتبارها عائقا في التعبير عن الحضارة المعاصرة، ولعل واقعنا المعاصر ينبئ عن مخاطر كبيرة تهدد لغتنا وهويتنا، حيث يسود مفهوم العولمة بمعناها السياسي والاجتماعي والأكاديمي، وهو ما أدى إلى فقدان لغتنا العربية رونقها وروعتها باعتبارها لغة علم وحضارة.
لقد بُذلت محاولات بقصد أو بدون قصد لاستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، وقد تبنى هذه الدعوة للأسف مثقفون عرب بحجة أن ذلك ربما يقضى على مشكلات التشكيل، كما بُذلت محاولات أخرى لتشجيع استخدام اللهجات الدارجة والكتابة بها، وهو ما يحدث الآن في عالم الفضاء الإلكتروني، وليس ثمة ما يمنع من الاحتفاظ بهذه اللهجات كوسيلة لحفظ التراث الاجتماعي والشعبي، إلا أن ذلك يجب أن يكون بهدف حفظ التراث من الاندثار، ليس بهدف إحلال هذه اللهجات بديلا عن اللغة العربية الفصحى، صحيح أن الحفاظ على اللغة العربية يستوجب العناية بالمصطلحات العلمية الدقيقة التي تؤهلها لاستيعاب التكنولوجيا المعاصرة، وهذا لا يرجع إلى قصور في اللغة وعدم قدرتها على مسايرة المعارف المعاصرة، وإنما إلى تراجع العرب عن استيعاب مسيرة الحضارات المعاصرة.
جاء الإسلام وكانت اللغة العربية هي الوسيلة الحضارية التي راحت تجوب مناطق شاسعة في آسيا وإفريقيا وصولا إلى أوروبا (الأندلس) واستقبلت الشعوب الإسلام من خلال اللغة العربية، وتجاوز الإسلام العقائد والشرائع بعد أن أعاد صياغة العلاقات بين أعضاء المجتمع باعتباره ثقافة وحضارة، وكان السلوك اليومي للمسلمين قد طبع الحياة بطابع الدين واللغة لكونهما دعامتين كبيرتين للحفاظ على هوية العرب الثقافية والاجتماعية عبر كل مراحل التاريخ، ونظرا لأن الشعوب التي انضوت تحت راية الإسلام كانت لها ثقافتها ولغتها وهويتها الأدبية والاجتماعية إلا أن جميعها قد انصهرت في الإسلام من خلال اللغة العربية، التي أجاد المسلمون الأوائل استخدامها كلغة حضارة وثقافة ومعرفة، لدرجة أن جميع الشعوب التي دخلت الإسلام قد اكتسبت ثقافة جديدة، مع الاحتفاظ بكل القيم والأعراف الإيجابية التي لا تتعارض مع الإسلام.
عرف العرب المسلمون النظم التعليمية منذ فترة مبكرة من التاريخ الإسلامي، بداية من المسجد ثم المدارس النظامية بأنواعها وأشكالها المختلفة، وقد تأثر النظام التعليمي بنظم التعليم في الغرب من خلال استيراد الأفكار والنظريات ومناهج الدراسة، وغير ذلك من المجالات، وتبدو العلاقة الوثيقة بين الثقافة والتعليم باعتبارهما قضية واحدة، وستبقى القضيتان هما الطريق الوحيد لبناء الإنسان فكريا ووجدانيا، وعلى حكوماتنا في مختلف الأقطار العربية أن تنظر إلى القضية ووضعها في أولويات اهتماماتها إذا كنا ننشد بناء مجتمعات قوية تعمل على اكتساب المعرفة واللحاق بركب الحضارة المعاصرة، وبما أن لغتنا العربية هي رمز هويتنا ومصدر فخارنا إلا أنه من الملاحظ أنها في الحياة المعاصرة قد تراجع دورها في الحياة الاجتماعية والأكاديمية، لدرجة أن إحدى المؤسسات الدولية (اليونسكو) قد وضعت اللغة العربية في مرتبة متأخرة، من خلال المحتوى الأدبي والفكري والفني على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، لدرجة أنها لا تتجاوز من ٣-٤٪ من حجم المعلومات المتاحة، لذا فعلينا أن ندرك المخاطر التي تواجه لغتنا العربية باعتبارها لغة حضارة وثقافة، ولا يقتصر العناية باللغة على العناية ببلاغتها وأدبها فقط، وإنما لكي تكون لغة مرنة قابلة للتعامل مع كل منتج الحضارة المعاصرة، وخصوصا في الجوانب الفنية والعلمية، وأعتقد أن المسؤولية تقع على كاهل البرامج التعليمية في المدارس والجامعات والإعلام، وهي مسؤولية مشتركة، وهو ما يستوجب الانتباه إلى الدور المنشود الذي يقع على عاتق هذه المؤسسات في مختلف الأقطار العربية، لعلهم يصلحون ما أفسده تاريخ من الإهمال.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأقطار العربیة اللغة العربیة من خلال إلا أن وهو ما
إقرأ أيضاً:
في قصور الثقافة هذا الأسبوع.. انطلاق المهرجان القومي للتحطيب واحتفالات اليوم العالمي للغة العربية
تقدم الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان، باقة متنوعة من الأنشطة الثقافية والفنية هذا الأسبوع، في إطار برامج وزارة الثقافة، تنطلق الفعاليات بدءا من اليوم الأحد وتستمر حتى السبت 20 ديسمبر الجاري، وتشمل مهرجانات ومعارض فنية، قوافل ثقافية، ودورات تدريبية متخصصة، إلى جانب احتفالات باليوم العالمي للغة العربية، وغيرها من الأنشطة التي تمتد من أقصى الصعيد إلى محافظات دلتا مصر، بهدف دعم الإبداع واكتشاف المواهب، وتعزيز العدالة الثقافية وإتاحة الخدمات الفنية لكافة فئات المجتمع.
انطلاق المهرجان القومي للتحطيب بالأقصر
تنطلق يوم السبت 20 ديسمبر فعاليات المهرجان القومي للتحطيب في دورته الخامسة عشرة، بساحة أبو الحجاج بمحافظة الأقصر.
ويشارك في المهرجان نخبة من شيوخ اللعبة ولاعبي التحطيب من محافظات قنا، سوهاج، المنيا، إلى جانب لاعبي المحافظة المضيفة.
كما يشهد المهرجان تقديم عروض فلكلورية تراثية تشارك بها ثماني فرق تابعة لقصور الثقافة، وهي: الأقصر، قنا، سوهاج، أسيوط، ملوي، المنيا، وبني سويف للفنون الشعبية، بالإضافة إلى فرقة النيل للموسيقى والغناء الشعبي، وتستمر الفعاليات حتى 24 ديسمبر الجاري.
دورات متخصصة بقصر السينما
تبدأ اليوم الأحد بقصر السينما بجاردن سيتي، فعاليات الدورة الجديدة للدراسات السينمائية الحرة، في إطار جهود وزارة الثقافة لدعم المواهب الشابة في المجال السينمائي.
تتضمن الفعاليات برنامجا تدريبيا مكثفا يشمل محاضرات متخصصة في السيناريو، التصوير، الإخراج، الديكور، والرسوم المتحركة، إلى جانب جلسات نقدية يقدم خلالها المشاركون أبحاثا تعكس مدى استفادتهم من المحتوى العلمي المقدم.
ويشارك في تقديم المحاضرات نخبة من المتخصصين، كما يشهد القصر دورة تدريبية متخصصة في مجال التمثيل السينمائي والمسرحي، في التوقيت ذاته، ويتولى التدريب فيها المخرج د. تامر الجزار.
افتتاح معرض مراسم ملتقى أبنوب بالهناجر
تشهد قاعة آدم حنين بمركز الهناجر بالأوبرا، بعد غد الثلاثاء، انطلاق معرض "ملتقى مراسم ملتقى مراسم أبنوب للرسم والتصوير".
يضم المعرض مجموعة من الأعمال الفنية التي توثق عددا من المناطق الأثرية والسياحية الهامة بمحافظة أسيوط، وهي نتاج جهود 15 فنانا شاركوا في ملتقى مراسم أبنوب الذي أقيم في أغسطس من العام الماضي، في إطار تفعيل أماكن جديدة للمراسم بالمحافظة، ودعم وتطوير الحراك الفني.
ويشهد الافتتاح تكريم الفنانين المشاركين بتسليمهم شهادات تقدير، ويستمر المعرض حتى 21 ديسمبر، لإتاحة الفرصة للجمهور لمشاهدة تلك الأعمال الإبداعية الأصيلة.
قوافل ثقافية وفنية بقرى المحمودية
تستقبل قرى مركز المحمودية، بمحافظة البحيرة، بدءا من الثلاثاء قافلة ثقافية وفنية للمواهب عبر المسرح المتنقل، ضمن برامج وزارة الثقافة الهادفة إلى نشر الوعي وإتاحة الخدمات الثقافية لأبناء الأقاليم.
تنفذ فعاليات القافلة بمدرسة عبد الحميد المنياوي بقرية ديروط، وتستمر لمدة ثلاثة أيام، وتشمل ورشا فنية وحرفية وأدبية، إلى جانب فقرات رسم على الوجه وعروض فنية متنوعة.
وتنتقل القافلة بعد ذلك إلى مدرسة عوض كشك بقرية فيشا خلال الفترة من 20 إلى 22 ديسمبر، متضمنة نفس الورش والفعاليات الفنية، وذلك دعما للمواهب المحلية وتحقيقا لمبدأ العدالة الثقافية.
الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية
تقدم هيئة قصور الثقافة هذا الأسبوع فعاليات متنوعة احتفالا باليوم العالمي للغة العربية، من خلال برنامج أُعد خصيصا لهذه المناسبة.
وتشمل الفعاليات حفلات موسيقية، لقاءات تثقيفية، أمسيات أدبية، وورش فنية، وذلك بعدد من المحافظات، من بينها: دمياط، الإسكندرية، الفيوم، الغربية، المنوفية، والقليوبية.
أنشطة متنوعة ضمن مشروع المواجهة والتجوال
تتواصل هذا الأسبوع فعاليات المرحلة السادسة من مشروع مسرح المواجهة والتجوال التابع للبيت الفني للمسرح بقطاع المسرح.
ويشهد المركز الثقافي بكفر الشيخ تقديم المسرحي "توتة توتة" للمخرج السعيد منسي، ومعرضا للكتاب يضم أحدث إصدارات هيئة قصور الثقافة، إلى جانب استمرار المعرض الفني "تجربة شخصية" بمشاركة ثمانية من فناني محافظة كفر الشيخ، وذلك حتى 17 ديسمبر الجاري، وتنتقل الفعاليات اعتبارا من اليوم التالي إلى محافظة الغربية وتستمر لمدة أسبوع.
كما تحفل الأجندة بورش فنية وحرفية، ولقاءات توعوية وتثقيفية بمشاركة نخبة من النقاد والمبدعين، إلى جانب أفلام قصر ثقافة السينما المجانية، وعروض مسرح الطفل، والأنشطة الخاصة بمناسبة العام الجديد.