المجتمع الإيراني وخوف التقارب الثقافي
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
في السبت الماضي صباحا أقيمت فعالية في مقهى ميمو بالموالح الشمالية، وكانت بعنوان: إيران حكاية فارسية، قدمها الكاتب سالم الرحبي، وحاول الإجابة عن أسئلة: هل نعرف الجارة حقا؟ ما وضع إيران أيام الشاة وما بعده؟ مع الجوانب التأريخية ما قبل الثورة وما صاحبها وما بعدها، واجتماع اليساريين واليمينيين معا ضد الشاة والاستعمار، وبعد انتصار الثورة هُمش اليساريون عن المشهد من قبل اليمينيين، ثم بروز التيار الإصلاحي، وصراعه الحالي مع التيار الأصولي داخل المشهد الشيعي عموما في إيران.
إلا أن بداية الفعالية ومدارها سؤال: لماذا التخوف من الاقتراب من دراسة إيران؟ فهي جارة لنا وللخليج عموما، وثاني أكبر دولة جغرافيا في الشرق الأوسط بعد المملكة العربية السعودية، كما أنها ثاني أكبر دولة في الشرق الأوسط من حيث عدد السكان بعد مصر، ثم لماذا ضعفت العلاقات الثقافية من حيث الترجمة والأدب والفن والمعارف الأخرى بين الجانبين، وضرب مثلا بالسينما الإيرانية، والتي تطورت كثيرا خصوصا أيام خاتمي بعد رفع القيود، إلا أنها تصل إلينا بعد هجرتها إلى الغرب أولا عن طريق الغرب نفسه، مع قربنا من إيران جغرافيا وثقافيا.
بطبيعة الحال لا أريد في هذه المقالة تلخيص ما جاء في الفعالية، فهي موجودة في «يوتيوب» لمن أراد المتابعة، كما لا أريد ذكر الجدل الذي تدافع صحيا مع المحاضرة عن طريق تعقيبات الحضور، الذي أريده هنا بيان وجهة نظري، حيث لا أزعم أنني أفقه المجتمع الإيراني، وإنما حاولت الاقتراب منه في السنوات الأخيرة، وهذا يحتاج إلى شيء من التأني، كما يحتاج إلى شيء من الإنصاف، والتجرد من الميولات السابقة، فمن الناقدين من يخلط بين رؤية سياسات بلده وبين الاجتماع البشري في إيران، فإذا كانت العلاقة سيئة كانت الإسقاطات العمومية السلبية حول المجتمع الإيراني، ويربط كل شيء بالسياسة، ويحصر أمة كبيرة يقترب سكانها من تسعين مليونا في الحزب الحاكم، أو في منصب الولي الفقيه والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وفي المقابل هناك من له ميولات دينية أو مذهبية، فيرى إيران النموذج الأمثل في التطبيق الإسلامي، ولا يقبل النقد أو الاقتراب منه، فيعطي صورة مثالية مبالغا فيها، إلا أن الواقع أن الحكومة الإيرانية تمثل توجها في المجتمع الإيراني كأي حكومة أخرى في العالم، والمجتمع الإيراني لا يحصر فيها كأي مجتمع آخر أيضا، والمجتمعات البشرية عموما مجتمعات متعددة ومعقدة في الوقت ذاته، ودراسات الاجتماع البشري من أشد الدراسات صعوبة، فهي أقرب إلى النقط المتباينة، وإن كانت لها مشتركات جغرافية أو ثقافية، فهذا بحكم الواقع، إلا أن الغوص في تفكيك بنيتها المتعددة ليس سهلا كما يتصور بعضهم، فيميل إلى التعميم حبا أو كرها، أو حتى عن طريق الدراسات المعرفية الأفقية.
ثم لا بد من الممايزة بين الجغرافيا والتأريخ والواقع، فالجغرافيا ثابتة، والتأريخ متحرك، والواقع ظرفي، فلما نتعامل مع المجتمع الإيراني فلا نحصره في الواقع الظرفي، وفي سياساته الظرفية، وإنما نحن نتعامل مع جغرافية وتأريخ مشترك، من خلال الإنسان الإيراني ذاته، فالواقع الظرفي محكوم بالجغرافيا والتأريخ من خلال الإنسان، وليس حاكما عليها، فقد يكون حاكما بالمعنى الإجرائي، ولكن ليس حاكما بالمعنى المعرفي والثقافي والإنساني، بل هو جزء من هذه الثقافة الواسعة في حيز جغرافي معين، وإن حاول إظهار نفسه إعلاميا أنه هو الثقافة الممثلة، بيد أن هذا يتهافت تلقائيا عند القرب من الآخر؛ لأنه يتعارض مع سنن الاجتماع البشري.
وما ينطبق على إيران ينطبق على أي مجتمع آخر، فسنن الاجتماع واحدة، لهذا أكبر خطورة عندما يتمثل المثقف دور السياسي، فالسياسي يدور مع الواقع الظرفي من خلال المصلحة الآنية، فعدو الأمس صديق اليوم، والعكس صحيح، وأما المثقف فيعيش مع الجغرافيا والتأريخ والواقع من خلال المبدأ والإنسان، فليس ناطقا رسميا للسياسي، ولا شاعرا أو مطربا لأمجاده، وإنما هو باحث وراصد من خلال أمانة كلمة المعرفة ذاتها، التي تتجاوز المنافع والمصالح القاصرة؛ لأنه بقلمه وفكره متجاوز لأي حدود جغرافية أو تأريخية أو أيدلوجية إلى فضاء الإنسان والوجود.
لهذا قد يتمثل جواب سؤال: لماذا التخوف من الاقتراب من دراسة إيران؟ إلى ثلاثة أسباب رئيسة، الأول علاقة المثقف أو الكاتب بالسياسي أو الديني، وبالنسبة للسياسي فسبق الحديث عنه، وإن كنا في عُمان - ولله الحمد - لا نشعر بهذا العبء في الجملة؛ لأن السلطة لدينا وضعت خطوطا متوازية في العلاقات الخارجية، ومع ذلك تبقى بعض الحساسية حاضرة في المشهد الثقافي خصوصا، بيد أنه في بعض الدول لسبب العلاقات السياسية السلبية يجد المثقف أو الكاتب العربي صعوبة في الانفتاح مع الثقافة والإنسان الإيراني بشكل عام.
وأما الجانب الديني فهذا أكبر تعقيدا؛ حيث إن إيران تزاوجت بين الحكم الديني الشمولي من خلال ولاية الفقيه، وبين الحكم الديمقراطي من خلال الحزب الحاكم، إلا أن صوت الخطاب الديني غلب على الجانب الثقافي المستقل عن أي انتماءات سياسية أو أيدلوجية، كما أن الخطاب الديني ذاته تزاوج مع الخطاب السياسي، ابتداء من خلال تصدير الثورة، ثم من خلال التكونات السياسية في الخارج، والتي استثمرت إيرانيا بشكل مباشر أو غير مباشر، ومثل هذا اتجاه خط الإمام، والقائم على تثوير الدين، وربطه بطاعة الولي الفقيه في إيران، بعيدا عن أي انتماءات جغرافية، وكما يذكر الباحث السعودي حسن المصطفى في برنامج «في الصميم» أن اتجاه خط الإمام انبثق عنه أربعة أحزاب في المنطقة: حزب الله الحجاز، وحزب الله الكويت، وحزب الله لبنان، وحزب الله العراق، وجميعها في الأصل لها غايات سياسية وانتمائية للولي الفقيه في إيران.
وأما غير المباشرة فنحو الخط الشيرازي أي نسبة إلى المرجع محمد الشيرازي، ورؤيته قائمة على تفعيل الجانب الحركي في الخطاب الإسلامي، وهو أشد حركية من اتجاه محمد حسين فضل الله، ويقترب من اتجاه الإخوان المسلمون في الجانب الآخر، وتمثل هذا الاتجاه في حركة الطلائع الرسالية عند الفقيه محمد تقي المدرسي، والتي انبثق منها سابقا عدة تكونات، منها الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، والجبهة الإسلامية لتحرير عُمان، بجانب الجزيرة العربية.
إن محاولة تصدير الثورة عموما، أو تثوير الدين خصوصا بعد عام 1979م أدى إلى قلق دول الجوار، وهنا لهذه المواجهة استخدم الخطاب الديني المقابل، والذي كان نائما منذ قرون طويلة، فبعدما كان الخطاب الديني مستثمرا سياسيا ضد الاتجاهات اليسارية بدعوى الإلحاد، والتي تبنت الحركات الإسلامية الحركية لاحقا أفكار الاتجاهات الاشتراكية والماركسية بلباس الأسلمة، هنا كانت المواجهة مع التيارات الشيعية من خلال إحياء الطائفية، وإبراز معتقدات وطقوس التشيع كدعوى تحريف القرآن والبداء والتطبير وغيرها، واستغل ابتداء الإٍسلام السني الحركي الذي كان بعضه مناصرا للثورة الإيرانية في الابتداء، ثم انقلب عليها لاحقا تحت خط الطائفية، فكان هذا الفريق أقدر في المواجهة في الثمانينيات من القرن العشرين وما بعدها، قبل تهميشه سياسيا بعد ثورات الربيع العربي خصوصا.
هذا السبب يقود إلى السبب الثاني وهو اتجاه إيران نحو أسلمة المعرفة ككل، ورغم تفوق إيران في المجالات العلمية والطبية والعسكرية، إلا أنها حصرت ذاتها في المجالات الفنية والفلسفية من خلال الأسلمة، وهو اتجاه ساد في العالم الإسلامي حينها من خلال التوجهات الحركية، بيد أن الأسلمة لم تكن دراسات معرفية ناقدة كما في ماليزيا مثلا؛ بل ارتبطت بالأبعاد السياسية من خلال أسلمة الدولة والحكامة ذاتها، وهذا زاد من معدل القلق ليس مع الاتجاهات السياسية، بل حتى مع الاتجاهات الثقافية المائلة إلى الليبرالية، وتوسعة دائرة الثقافة من خلال التعددية، بعيدا عن أي إملاءات مسبقة من حيث الابتداء.
هذان السببان قادا إلى السبب الثالث وهو سبب ارتفاع دائرة الوهم وإطلاقيتها، بمعنى بقاء دائرة الخوف واستمراريته، مع أن إيران اليوم ليست إيران 1979م، كما أن هناك العديد من المراجعات الفلسفية والفكرية ومنها السياسية طيلة هذه الفترة، وكما أسلفت مقدما أن الاجتماع البشري في إيران مجتمع متعدد عرقيا ولغويا ودينيا ومذهبيا وثقافيا، ولا يمكن حصره في زاوية ضيقة، في الاتجاهات السياسة أيا كانت رؤيتها، والأصل في المثقف أنه يشتغل على الدائرة الواسعة؛ لأن مضامينه إنسانية ووجودية، ولقد كان لي حديث طويل مع العديد من الباحثين الإيرانيين في قم وأصفهان وشيراز وطهران حول هذه الجوانب، ولولا ضيق المقالة لذكرت مصاديق لها من الحوارات، بيد أن هاجس وهم التخوف من التقرب من الآخر لا زال عالقا، ويمثل حاجزا في شبه القطيعة الثقافية والمعرفية، وإن كانت حاليا بدأت تنفرج شيئا ما، فنرى السينما والفن والنتاج الإيراني في دول الجوار، والعكس صحيح، وإن كانت -للأسف - الترجمة ما زالت ضعيفة، إلا أن لها بوادر جيدة في السنوات الأخيرة، فالانفتاح الثقافي إذا كان ثقافيا إنسانيا، لا علاقة له بظرفية السياسة، ولا بضيق الأيدلوجيات اللاهوتية والحركية عموما، هذا بلا شك يفتح مجالات واسعة من التقارب الإنساني، والذي يسهم في عمارة الأرض وإصلاحها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخطاب الدینی الاقتراب من فی إیران من خلال إلا أن
إقرأ أيضاً:
إيران تعتقل نرجس محمدي الحائزة على نوبل السلام خلال تأبين محامٍ
أظهرت مقاطع مصورة، نشرتها وكالة "هرانا" ومقرها الولايات المتحدة، محمدي وهي تناشد الحشد في مشهد بترديد هتافات مناهضة للسلطة، منها "الموت للديكتاتور" و"نقاتل، نموت، لا نقبل الإهانة"، بينما كانت تقف على سطح سيارة حاملة مكبّراً للصوت.
أعادت السلطات الإيرانية اعتقال الناشطة الحائزة على جائزة نوبل للسلام لعام 2023، نرجس محمدي، الجمعة، في مدينة مشهد، بعدما شاركت في مراسم إحياء الذكرى الأسبوعية لوفاة المحامي خسرو علي كردي، وذلك وفق ما أفادت به المؤسسة المدافعة عنها، مشيرة إلى استخدام "العنف" أثناء توقيفها.
وكان لمحمدي، التي كانت تتمتع بإفراجٍ مؤقت منذ كانون الأول/ديسمبر 2024، أن تُرى للمرة الأخيرة في مقطع فيديو توثّق حضورها مراسم التأبين دون ارتداء الحجاب، قبل أن تعلن مصادر قريبة من عائلتها اعتقالها.
وأكد زوجها، الناشط السياسي تقي رحماني، المقيم في باريس، عبر منشور على موقع "إكس"، أن الأمن اعتقلها إلى جانب الناشطة سيبيده غوليان وعدد من المشاركين الآخرين.
Related إيران تحكم على نرجس محمدي الحائزة على جائزة نوبل للسلام بالسجن لمدة عامإيران: "الحرية حقنا.. عاشت الحرية" إفراج مؤقت عن الناشطة نرجس محمدي الحائزة على جائزة نوبل للسلاممسجونة في طهران.. الإيرانية نرجس محمدي تتلقى الأحد جائزة نوبل للسلاموتوفي كردي (45 عاماً) في 5 كانون الأول/ديسمبر، عقب اكتشاف جثته داخل مكتبه. وكان المحامي معروفاً بدفاعه عن معتقلين في قضايا مرتبطة باحتجاجات 2022، ما جعل وفاته موضع شكٍّ واسع.
ودعت منظمات حقوقية، أبرزها "منظمة حقوق الإنسان في إيران" (مقرها النرويج)، إلى فتح تحقيق مستقل، مُشيرة إلى "شبهات جدية بأن الوفاة ناجمة عن جريمة قتل تورّطت فيها الدولة".
وأظهرت مقاطع مصورة، نشرتها وكالة "هرانا" ومقرها الولايات المتحدة، محمدي وهي تناشد الحشد في مشهد بترديد هتافات مناهضة للسلطة، منها "الموت للديكتاتور" و"نقاتل، نموت، لا نقبل الإهانة"، بينما كانت تقف على سطح سيارة حاملة مكبّراً للصوت.
وانضمّ الحشد إلى شعار "تحيا إيران"، في تجمّع لم تُبلغ عنه وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية.
نضال محمدي: من السجن إلى الشارع ومناهضة الإعدامولم تقتصر معركة محمدي على دعم المعتقلين السياسيين، بل امتدّت إلى حملات منظمة لإلغاء عقوبة الإعدام في إيران، وهو نشاط موثّق منذ سنوات.
وعلى الرغم من سجنها المتكرر منذ 2010، نجحت في تسريب شهادات وتفاصيل عن انتهاكات داخل السجون، حتى إنها ظلّت تُنتج محتوى حقوقياً من زنزانتها.
وحُكم عليها في قضايا متعددة، أحدثها تهمة "نشر دعاية مناهضة للدولة" التي تُبقيها رهن الاعتقال.
في أكثر من مناسبة، وبصراحة نادرة، توقعت محمدي "سقوط النظام الديني" الذي يحكم إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
وتأتي تصريحاتها الحالية — خارج السجن ودون حجاب، وسط تجمّع علني — لتُضفي ثقلاً سياسياً استثنائياً على مواقفها، خاصةً مع امتلاكها منبراً دولياً كحائزة على نوبل للسلام.
المركز الحقوقي: تأسيس في زمن القمع وتشريد المؤسسةكانت محمدي تشغل منصب نائبة رئيس "مركز المدافعين عن حقوق الإنسان"، الذي أُسّس عام 2001 على يد المحامية شيرين عبادي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2003.
وغادرت عبادي إيران بعد إعادة انتخاب الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد في 2009، في انتخابات أثارت جدلاً واسعاً أدّى إلى مظاهرات شعبية عارمة، قمعتها السلطات الإيرانية بوحشية، ما دفع عشرات النشطاء، ومنهم عبادي، إلى مغادرة البلاد. واليوم، يُصنَّف المركز كـ"كيان محظور" من قبل الأجهزة الأمنية الإيرانية.
ومنذ اعتقالها الأخير في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، لم ترَ محمدي توأميْها، اللذين تسلّما جائزتها من أوسلو قبل عامين نيابةً عنها.
مُنحت نرجس محمدي جائزة نوبل للسلام عام 2023 "لشجاعتها في مواجهة قمع النساء ولدفاعها عن حقوق الإنسان".
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة