تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

شخصياتنا النسائية تتحلى بالشجاعة والقوة.. ونابولي مليئة بالقصص الإنسانية الملهمة

ناني موريتي شخص عملي وبسيط.. والعمل معه مزيجًا من الحرية والاستقلال الفكري

آمل أن أعمل مع ممثلين محترفين في المستقبل.. والسينما كانت بوابتي لرواية قصص إنسانية صادقة

 

حينما تذهب "ياسمين"، الأم التي تبلغ من العمر 40 عامًا، للمرة الأولى إلى أحد مراكز التبني لتحقيق حلمها الذي طال انتظاره، تخبرها واحدة من المشرفات أن تبني طفلًا ليس بالأمر السهل، فهؤلاء الصغار لديهم احتياجات خاصة، ليست جسدية فحسب ولكن نفسية أيضًا.

فأغلب هؤلاء الأطفال لم يحصلوا على حضنًا دافئًا منذ ولادتهم وحتى الآن.

إن أزمة "ياسمين" الأساسية التي يصورها المخرجين أليساندرو كاسيجولي وكايسي كوفمان، في فيلمهما "Vittoria"، الفائز بجائزة أفضل سيناريو بـ مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ45، لا تتعلق بالإنجاب، فهي زوجة وأم لثلاثة أبناء محبين، وتمتلك صالونًا لتصفيف الشعر في نابولي. ولكن بعد وفاة والدها، تواجه حلمًا متكررًا حيث تركض فتاة صغيرة بين ذراعيها، مما يمنح ياسمين شعورًا جديدًا بالإنجاز والكمال لا يمكنها تجاهله. تقرر متابعة حلمها بابنة وتغوص في عالم التبني الصعب - مخاطرة بزواجها ورفاهية أبنائها وبوصلتها الأخلاقية على طول الطريق. الأسرة بأكملها في أزمة، حتى يدركوا أخيرًا أن السبيل الوحيد للخروج هو معًا.

يتعمق "Vittoria" في تعقيدات ديناميكيات الأسرة والرغبات غير العقلانية على ما يبدو للنفس البشرية. إن "ياسمين" تنظر إلى بعض الأشياء على أنها مقدسة، والارتباط بعائلتها من بين هذه الأشياء. يمكننا أن نشعر بأنها مخلصة، وأنها تعمل على المستوى الروحي على مدار الفيلم، فمن الصعب أن نتابع رحلتها ولا نتعلق بها.

بالحديث عن الرحلة الفريدة التي خاضها صناع الفيلم لإنتاج ذلك المشروع الجريء، التقت "البوابة" مع المخرج الأمريكي كايسي كوفمان، وأجرت معه هذا الحوار:

 

المخرج كايسي كوفمان

 

كـ صحفي عمل لفترة طويلة في العديد من الوكالات الأجنبية.. ما الذي ألهمك لدخول عالم السينما؟

لطالما كانت لديّ رغبة في رواية القصص، حتى مع دخولي عالم الصحافة. لقد عملت لدى سكاي نيوز وأسوشيتد برس، وكانت أطول فترات عملي في قناة الجزيرة. لقد أحببت دائمًا السفر إلى مناطق الصراع لتصوير الجانب الإنساني من الحرب بعيدًا عن صور القتل والقصف والأخبار المعتادة. ولكن مع الوقت أصبحت أشعر وكأنني محاصر داخل إطار عمل محدد، وكانت السينما هي البوابة للخروج من هذه الدائرة المفرغة. لقد أعطتني الحرية والمساحة بشكل أكبر لرواية قصص إنسانية تلمس الجمهور بصدق.

بالحديث عن أول أفلامك "The Things We Keep" والذي كان بمثابة سيرة ذاتية.. كيف تقاطعت مساراتك مع المخرج الإيطالي أليساندرو كاسيجولي؟

لقد كان هذا أول أفلامنا بالطبع، ولكن لا يمكن اعتباره فيلما بالمعنى الحقيقي كونه مجرد تجربة ذاتية حرصنا أنا وأليساندرو من خلالها على رصد تجاربنا وأحلامنا. لقد تقاطعت طرقنا أنا وأليساندرو عندما عدت من أمريكا إلى إيطاليا بعدما تدهورت حالة والدي الصحية. والمثير للدهشة أن هذا السبب هو الذي جعل أليساندرو يعود إلى بلدته - في نفس الوقت تقريبا - كي تتقاطع طرقنا سويًا.

بحكم عملي، لقد كنت أسافر كثيرًا لمناطق مختلفة حول العالم، وهذا ما شكّل مادة ثرية وغنية لأليساندرو، ورغبة دفينة لديه أيضًا لسرد هذه القصة الشخصية من خلالي أو بمعنى آخر من منظوري الخاص. لذا، كان هذا المشروع التجريبي بداية شراكة طويلة الأمد بيني وبين أليساندرو.

 

المخرجين كايسي كوفمان وأليساندرو كاسيجولي

 

بداية، لقد استعنت في "Vittoria" بأبطال القصة الحقيقين، كيف قابلت الأم "مارلينا أماتو" للمرة الأولى؟

التقيت بمارلينا وعائلتها أثناء العمل على فيلم "Californie"، حيث كانت تعمل مصففة شعر معنا. خلال التصوير تعرفنا عليها وسمعنا قصتها الشخصية وقابلنا ابنتها بالتبني، فيتوريا. كلما تحدثت أكثر عن تبنيها – والطريقة التي كان بها حضورها أمام الكاميرا – اقتنعنا على الفور تقريبًا بأن هذا المزيج كان فيلمًا جديدًا.

كان الهيكل الرئيسي للفيلم واضحًا منذ المرة الأولى التي أخبرتنا فيها مارلينا قصتها بالتفصيل. شعرنا دائمًا عند التعامل مع قصة حول شيء معقد مثل الأمومة – مسألة الوفاء بالأمومة – أن التمسك بقصة مارلينا الحقيقية هو أفضل طريقة للقيام بذلك. لقد أجرينا العديد من المقابلات وقضينا الكثير من الوقت معها للتأكد من أننا نعرف قصتها من الداخل والخارج. وعلى الرغم من وجود بعض المشاهد الخيالية في الفيلم، إلا أننا حاولنا من الناحية النفسية الالتزام قدر الإمكان بقصة مارلينا الفردية.

 

ما الدافع وراء رغبة بطلة "Vittoria" في التبني؟ هل كان الحلم كافيًا أم أن هناك رغبة أخرى؟

كان هذا هو السؤال الأساسي الذي طرحناه على أنفسنا وعلى البطلة حين أخبرتنا بقصتها للمرة الأولى، ما الذي نريده من هذا الفيلم، وهل هذا السبب كافي؟

إن مشهد الحلم الذي تتحدث عنه البطلة في الفيلم هو حقيقي بالفعل ومتكرر طوال الوقت، لدرجة أنه بات يسيطر على عقلها كليةً. حين تحدثنا معها في هذه النقطة تحديدًا، قالت هذا هو السبب، وعندما حاولنا معرفة الرغبة الأعمق وراء التبني أخبرتنا أنه مجرد الحلم.

كان من الممكن أن نتحدث عن الوحدة وكل هذه الكليشيهات، ولكننا أردنا أن نجعل القصة تسيطر عليها أجواءً روحية وشاعرية تماما كما عاشتها البطلة، حتى ولو بدا أن السبب وراء قرار البطلة غير منطقي بالنسبة للبعض.

هناك عرفًا سائدًا في إيطاليا على سبيل المثال، بأن الولد حين يكبر يتزوج ويرحل، ولكن من يبقى ويعتني بالأم، هي الابنة. ربما قد يكون ذلك المثال بمثابة خلفية عن الدافع وراء قرارات البطلة.

إن الأفعوانية العاطفية لعملية التبني حقيقية. يجب أن يكون الأزواج الذين يمرون بها أقوياء، لأنهم يجب أن يتحملوا الكثير من الانتظار والكثير من عدم اليقين. ما أذهلنا بعد معرفة المزيد عن عملية التبني هو كيف يجب على الأزواج ليس فقط الاستعداد للترحيب بطفل ليس طفلهم، من سياق اجتماعي وثقافي مختلف تمامًا. ولكن أيضًا ربما للترحيب بطفل ذي احتياجات خاصة، لأن العديد من الأطفال الذين يتم تبنيهم لديهم احتياجات خاصة.

 

لقطة من فيلم “Vittoria”

 

نحن لم نتحدث عن مشاركة المخرج الإيطالي ناني موريتي في المشروع.. إلى أي مدى كان وجوده مؤثرًا ومفيدًا خلال العمل على هذا الفيلم؟

لا تربطني أي علاقة شخصية معه، لكن ناني موريتي يعيش في روما، ولديه مهرجان صغير هناك حيث يُدير مسابقة صغيرة لأفضل عمل أول للمخرجين الشباب. لذا، اختير فيلمنا الروائي الطويل الأول "Californie" ثم فزنا بالجائزة الأولى في هذا المهرجان.

إنه لم يكن عضوًا في لجنة التحكيم، لكنه شاهد الفيلم وقال لديكم أسلوب مثير للاهتمام للغاية، ربما يمكنني مساعدتكم في فيلمكم التالي. لذلك، أصبح منتجًا مشاركًا في فيلمنا "Vittoria".

لذا، كان يتساءل الجميع عن مستوى الدعم والتأثير الذي سيقدمه موريتي لنا. لقد أخبرنا في البداية أنه يحب مساعدة الأفلام والمخرجين الذين يقومون بشيء مختلف عنه. بالطبع، أفلامنا مختلفة تمامًا عن أفلام ناني موريتي، أسلوب مختلف، مواضيع مختلفة، كل شيء مختلف.

لقد أخبرنا موريتي أنه مهتم للغاية بالعمل معنا "لأنكم تصنعون أفلاما منخفضة التكلفة وبطاقم عمل صغير للغاية". فعندما ينظر إلى السينما الإيطالية يرى أن الميزانيات مرتفعة ومكلفة للغاية. لذا، كان يعتقد أن أننا نصنع شيئًا جيدًا مقابل القليل من المال.

كان الجزء الأول من العملية هو الكتابة حتى بداية التصوير. لقد أعطانا الكثير من الحرية، فهو لم يأتِ يومًا أثناء التصوير، لأننا كنا نقوم بعملية التصوير في ثلاثة مناطق مختلفة. لذا، عندما انتهينا من تصوير الجزء الأول قمنا ببعض عمليات المونتاج، ثم عرضنا عليه اللقطات، فقال: "حسنا استمروا". ثم صورنا الجزء الثاني وقمنا بتحريره أيضًا. وعندما شاهده، قال: "استمروا، استمروا".

وبعد ذلك، قمنا بتحرير نسخة أولية للفيلم. عندما شاهدها أبدى إعجابه بالعمل والتفت إلينا في النهاية، وقال: "حسنًا، هذا كل شيء". لقد عمل معنا كثيرًا بداية من النسخة الأولى وحتى وصولنا للنسخة النهائية، إنه حماسي ومخلص ومجتهد للغاية، إنه يعمل بجهد ويبذل قصارى جهده. 

إن ناني موريتي، لم يكن مجرد مشرفًا أو يتعامل بشيء من الفوقية معنا، فهو لا يحدث عن أشياء كبيرة ولا يحاول التفلسف، بل شخص عملي وبسيط للغاية. لقد كان ذو تأثير كبير ليس على مستوى المونتاج فقط، ولكن على مستوى شريط الصوت أيضًا. لذا، كان الأمر لطيفًا جدًا بالنسبة لي ولأليساندرو، لأن موريتي كان مزيجًا جميلًا من الحرية والاستقلال الفكري بالنسبة لنا. 

لم يقتصر دور موريتي فقط على الجانب الفني، بل ساعدنا كثيرًا أثناء الترويج للفيلم. فكما تعلم أن ناني موريتي، واحدًا من المخرجين المعروفين داخل وخارج إيطاليا. لذا، عندما عقدنا مؤتمرًا صحفيًا وتجولنا في إيطاليا لتقديم الفيلم، كان يأتي أحيانًا، وعندما يأتي كانت تنفذ التذاكر على الفور. نعم، لقد ساعدنا اسمه بصورة لم نكن نتوقعها.

 

في فيلمك الروائي الأول "Californie"، صورت قصة حقيقية بطريقة خيالية، وقد تكرر نفس الأسلوب في "Vittoria".. لماذا تختار هذا النهج في أفلامك؟

أعتقد أن السبب في ذلك هو أنني وأليساندرو، عملنا في مجال الأفلام الوثائقية لسنوات عديدة، لذا فمن الطبيعي بالنسبة لنا أن نعمل مع أشخاص حقيقيين. كما أننا نحب ذلك، لأن مقابلة أشخاص مختلفين عنك، لديهم تجارب حياة مختلفة، يمنحك شيئًا أيضًا، كما تعلم.

أنت تستفيد من التفاعل، ترى عالمًا جديدًا، ترى طرقًا جديدة، وتفهم عقليةً جديدة. إنه أمر مثير للاهتمام بالنسبة لنا. كمخرج، فإنني لا اختار الممثلين فحسب، بل يقوم الممثلون بذلك على نحو ما، كما لو كنا كيانًا واحدًا. فلا يوجد طريقة واحدة أو محددة في التعامل مع الممثلين، فهم أيضًا جزءًا أصيلًا من هذه العملية. فأثناء التصوير يخبرك الممثلون يجب أن نفعل ذلك على هذا النحو أو أن هذا الموقف مختلف. أعنى، هذا الموقف هو قصتهم، إنها حياتهم، كما تعلم. إنهم رقم واحد، وليس المخرج.

لذلك نعتقد أنه بعد العمل مع هؤلاء الأشخاص الحقيقيين في فيلمي "Californie"، و"Vittoria"، فإننا نشعر حقًا أن الأمر يبدو حقيقيًا للغاية، إنه يبدو أصيلًا للغاية، وأرى أن هذا الأمر هو الأهم أكثر من الموضوع والقصة والسياق السياسي. إذا كنت تريد خلق المشاعر وجعل الجمهور يتأثر بقصتك، فأنا أعتقد أن الشعور بالواقع هو الأكثر أهمية. ربما نعمل أنا وأليساندرو مع ممثلين محترفين في المستقبل، آمل أن تكون التجربة مختلفة. لكن حتى الآن، نحن سعداء بهذه النتيجة. نعم، إنها طريقة فريدة.

 

لقطة من فيلم “Vittoria”

 

بالحديث عن الأسلوبية الفريدة التي تعمل بها.. ما تعليقك حول تماهي الحدود بين الأفلام الروائية والوثائقية؟

أعتقد أن كل شخص يبدأ مشروعًا، عليه أن يولي اهتماما للفكرة. من المهم جدًا التفكير في كيفية القيام بذلك، ليس فقط القصة، ولكن كيف؟ كيف سأفعل ذلك؟ أعتقد أن كل فكرة لها طريقة مختلفة للقيام بها. لذا، أرى أنه من الصحيح أنه لم يعد هناك حدودًا بين الأساليب السينمائية.

إذا نجح الفيلم، فإن الناس سيشاهدون الفيلم فقط. هذا كل شيء. إنهم لن يسألون، هل هذا فيلمًا وثائقيًا أو روائيًا. من المثير للاهتمام بعد ذلك التحدث عن خلفية المشروع وظروف إنتاجه. لكن في الوقت الحالي، في السينما، أعتقد أن الناس لا يفكرون في ذلك، كما تعلم. إن الشيء الوحيد الذي سيتحدثون بخصوصه هو الشعور الحقيقي الذي يلمسهم. وهذا ما نعتقده أنا وأليساندرو أن الأشخاص الحقيقيين سيعطون مشاعر أقوى وأكثر إثارة للاهتمام.

أعتقد أن المشكلة الوحيدة في الأعمال التي تمزج بين الروائي والوثائقي، هو صعوبة حصولها على تمويل من المؤسسات السينمائية. في الماضي، كان الأمر دائمًا إما وثائقيًا أو روائيًا. لذا، إذا كنت في المنتصف، فسيكون الأمر مربكًا فيما يتعلق بالتمويل.

 

باستثناء فيلمك الأول.. ما السبب وراء أن جميع الأفلام تدور أحداثها حول قصص نسائية؟ هل هذه مصادفة أم نهج مقصود؟

نعم، هذا سؤالًا جيدًا لأننا حقًا لا نعرف الإجابة الصحيحة. لأنه في الحقيقة، يبدو الأمر مصادفة إذا ما تم النظر إليه في البداية. أعني، أنا وأليساندرو، لم نقل إننا سنصنع ثلاثة أفلام في نابولي، ثلاثة أفلام عن النساء. بالطبع، لم يكن الأمر مخططًا له، فكل مشروع قادنا إلى التالي بشكل طبيعي، تماما مثلما التقينا بهذه الشخصيات.

كان الأمر طبيعيًا. ولكن بعد ثلاث مرات، تبدأ في السؤال، لماذا؟ لذا أعتقد أنه ربما عندما ننظر إلى النماذج النسائية في أفلامنا الثلاثة السابقة، سنجد أن ثلاثتهن مختلفات وقويات ويتحلين بالشجاعة. هؤلاء النساء لسن ذلك النوع من النساء الجميلات الفاتنات، وأعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى البيئة التي نشأن فيها.

إن معظم مناطق الجنوب الإيطالي، بما في ذلك نابولي، يهيمن عليها ذلك النمط من الهيمنة الذكورية. لذلك، فعندما ترى امرأة قوية وتتحلى بالشجاعة وسط هذه البيئة القاسية، فإنها بالطبع ستثير إعجابك. ربما إذا رأيت نفس المرأة في ألمانيا - على سبيل المثال - فإنك لن تتعاطف أو تتأثر كثيرًا، ولكن مع اختلاف البيئة يبدو الأمر مثيرًا للاهتمام.

إن منطقة نابولي بشكل عام هي منطقة غنية بالقصص والشخصيات. ولكنها تنتج أيضًا الكثير من الكليشيهات، وخاصة العديد من قصص الجريمة. كنا سعداء لأن قصتنا كانت مختلفة. على الرغم من أن مارلينا وزوجها يمثلان حقًا الطبقة العاملة الإيطالية الجنوبية في منطقة نابولي، إلا أنهما لا يمتلكان تلك الشخصيات المبالغ فيها أو طريقة مسرحية لتقديم أنفسهم للآخرين.

 

المخرج كايسي كوفمان مع محرر "البوابة"

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: مهرجان القاهرة السينمائي الدولي كايسي كوفمان ا الکثیر من العدید من أعتقد أن کما تعلم أن هذا فی ذلک عالم ا کثیر ا

إقرأ أيضاً:

الصَلب الفلسطيني: جرحى نازفون… ولكن غير مهزومين

«لست مهزوماً ما دمت تقاوم» (مهدي عامل)
بموافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار قد تكون تلك الجولة من الصراع العربي الإسرائيلي (لن أقول الحرب) قد وضعت أوزارها.. على الأقل ستتوقف المذبحة حتى حين. لن أزعم أن لديّ تصوراً دقيقاً عن شكل المستقبل تماماً، وربما كانت كتابة هذا المقال محاولةً، أحسبها جادةً للتفكير العميق سعياً لاستجلاء المعطيات والأبعاد ومن ثم تقرير الموقف، على الأقل في هذه المرحلة. ولعل كلمة مرحلة، هي أحد أهم المفاتيح للفهم ومدعاة للحرص في آنٍ معاً. لا بد من أن نذكّر أنفسنا دائماً بأننا في المرحلة، أو الخطوة الأولى لعمليةٍ طويلة وأن المعلن، أو المتفق عليه الآن، على الأغلب ستشرع إسرائيل في تقويضه والالتفاف عليه من الغد وقبل أن يجف حبر التوقيع.

ثمة سؤالان يستبدان بالناس ويقسمانهما إلى معسكرين: الأول من المنتصر ومن المنهزم في هذه الحرب؟ والثاني هو الثمن الذي دفع أعماراً وعاهاتٍ وبنياناً.

من الطبيعي تماماً عقب أي معركةٍ أن يسأل الناس، خاصةً من لم يحاربوا، من الذي انتصر؟ بينما يئن من اكتوى بالحرب ولا يفكر سوى في هدنةٍ يلعق فيها جراحه ويسترد عافيته، يداوي جرحاه ويرثي شهداءه. الحقيقة أن التعاطي مع هذين التساؤلين، أو الهمين أعقد مما يتصور، فهي أسئلةٌ ملغمة في واقعٍ ملغمٍ أمام صيغة وقف للنزاع ملغمةٌ هي الأخرى.

كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ملغم، فهي ليست مجرد قطعة أرض تقع في قلب العالم على مفترق طرقه، بل عليها وفيها تتقاطع سردياتٌ عن الحق والملكية وسردياتٌ دينية، وتحيل إلى تساؤلاتٍ عن معاني العدل، ومن الأجدر بملكية الأرض ناهيك من صراع الأيديولوجيات ومعاني التطور والإنسانية. إن القضية الفلسطينية دون مبالغة تختبر الأفكار والبشر كما الأنظمة والزعماء. تختبر إنسانية البشر، لذا فليست الإجابة سهلة.. ولن تكون. من ناحيةٍ أخرى، وعلى أرض الواقعية السياسية يُطرح سؤالان: أولهما، هل هذه النتيجة مرضية تماماً؟ والإجابة في رأيي لا قطعاً، أما الثاني فهو: هل كان بالإمكان إنجاز ما هو أفضل من ذلك بكثير؟ في رأيي لا أيضاً.. وسأترك للمزايدين دائماً، من لا يحسبون حساب الدم والتضحيات أن يختلفوا معي.

بدايةً لا بد أن نذكر أنفسنا: ما الذي كنا نتوقعه في السابع من اكتوبر على عمليتها المدهشة والصاعقة؟ هل كان هناك تصورٌ واقعي بأن تتضعضع إسرائيل وتنهار مباشرةً؟ لقد علمنا التاريخ أنه بغض النظر عن كراهيتنا للكيان الغاصب، ورغبتنا العميقة بزواله، بأنهم تماسكوا إزاء صدمات من قبل، على رأسها بدايات حرب 1973، هل يعقل أن يستطيع مقاتلو حماس قليلو العدد والعدة أن يزيلوا إسرائيل أو يهزموها هزيمة ساحقة ونهائية تقضي على الكيان؟ بالطبع لا. لقد أهانوها وكشفوا إمكانية ضربها في العمق، أنها غير محصنة من الاختراق. في ضوء كل ذلك فإن اللحظة تفرض علينا حساباً وإن كان مرحلياً.

أولاً: لم تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة والمعلومة بمتابعة السياسة الإسرائيلية، فهي لم تحرر الرهائن بالقوة، ولم تقضِ على حماس بمعنى إفناء عناصرها ولم تنجح (حتى الآن على الأقل) في تهجير سكان القطاع، ولا في تطهيره عرقياً بإبادة السكان. أجل لقد انتقمت بوحشية هي الأبشع حتى الآن في هذا القرن، وربما نسبياً على مدار صراعها معنا، فدمرت ما دمرت وقتلت ما لا يحصى.. إلا أنها لم تحقق الأهداف التي وضعتها لنفسها.

ثانياً: لم تحسب حماس جيداً حساب «اليوم التالي».. لم يتصوروا وحشية رد الفعل.. كما أنهم ربما أخطأوا الحساب، إذ تصوروا أن عملهم سيمثل شرارةً ستحرك الشعوب العربية المحيطة، فهم إما نسوا في البدء، أن أي حركة مقاومة يصعب (إن لم نقل يستحيل) أن تنتصر دون حاضنة شعبية، أو تصوروا أنهم سيستعيدونها بهجمتهم الجسورة، ولعل المفاجأة المحزنة هي، مدى التهرؤ والإرهاق الذي وصلت إليه شعوب دول الطوق، وأن الأنظمة، وتحديداً المصري لما كانت هي رمانة الميزان والدولة المحورية، لم يزل قادراً على السيطرة بالحديد والنار على الشعب المرهق المفقر.
لا يعني تواطؤ الأنظمة في مقابل خمول الشعوب العربية وتبنيها للانهزام أن ذلك الوضع مرشحٌ للدوام
أما عن «محور المقاومة» الذي ربما تصوروا أنه سيُجر إلى الحرب فقد حدث ذلك بالفعل، إلا أنه من الجائز أن نقول، إن ذلك حدث على مضض، على الأقل في حالة إيران ولبنان، اللذين وإن حاربا بالفعل، إلا أنهما لم يبادرا إلى ذلك، ولم يريدا حرباً مفتوحةً حتى النهاية، لأسباب موضوعية يمكن تفهمهما.. لكن يبقى أنهما ساهما بالفعل وتلقيا ضرباتٍ موجعة، خاصةً في حالة حزب الله، الذي فقد قائده الفذ والمتميز، وإن كانا نجحا في إيلام إسرائيل بالفعل، إلا أنهما لم ينجحا في إيقاف المذبحة ولم يتورطا في حربٍ حتى النهاية، لأسبابٍ ليس هنا المجال لشرحها. تتبقى دول الخليج، مشيخات النفط، وبعضها موافقٌ على تصفية القضية الفلسطينية.

ثالثا: لا يعني تواطؤ الأنظمة في مقابل خمول الشعوب العربية وتبنيها للانهزام أن ذلك الوضع مرشحٌ للدوام، فقد زلزلت هذه المذبحة البشعة الوجدان العربي والعالمي، من حيث فضحها لطبيعة المشروع الصهيوني العنصري الدموي المتوحش، وأيقظت الاهتمام العالمي بالاطلاع الحقيقي عليها ومعرفتها عن حق، وإني لعلى يقين من أن ذلك سيفرز أجيالاً بعقليةٍ وموقفٍ مختلف في المستقبل، وإن استغرق هذا الأمر جيلاً أو اثنين.

رابعاً: لديّ يقين بأن طرفي النزاع سيشرعان في التحايل على هذه الاتفاقية الملغمة منذ اللحظة الأولى. لا شك أن الفلسطينيين المنهكين تماماً والجائعين حد الموت مرحبون بالهدنة، إلا أن هذه الاتفاقية تسلم قيادة القطاع «لمندوب سامٍ»، بينما ضمانة انسحاب إسرائيل، أو بالأصح من الناحية الفعلية ليس هناك من يستطيع إجبار إسرائيل على ذلك، فلا الفلسطينيون سيقبلون بـ»الحكم الأجنبي»، ولا إسرائيل ستتوقف عن العمل على التملص من أي التزامات. من ناحيةٍ أخرى، هل ستخرج حماس بالفعل من المعادلة؟ أم أنها ستعيد التجمع تحت اسمٍ آخر؟

لقد انتهت جولة لتبدأ أخرى، فينبغي أن لا نخدع أنفسنا: إن الحرب لم تنته، فإسرائيل لم تزل هي الكيان العنصري نفسه المزروع في قلب عالمنا، تعبيراً عن مصالح الغرب وصراعنا معها لم ينته بعد.

أياً يكن فليهنأ الفلسطينيون الآن بهذه الهدنة. مهما قيل فقد غيرت تلك المذبحة وهذا الكم الرهيب من تضحيات شعبنا، الوعي العالمي. لقد كانت صَلباً للجسد الفلسطيني، قد يراه البعض موتاً أو نهايةً، إلا أنه في الحقيقة يَعِدُ بانبعاثٍ جديد وتغييرٍ عميق في وعي ووجدان البشر والتاريخ.

لقد علمنا التاريخ أيضاً أنه في المعارك غير المتكافئة كحروب التحرير، فإن أحد عناصر القوة الوازنة إزاء تفوق الخصم المغتصب هو المقدرة على استيعاب كم أكبر من الخسائر. لذا، فعلى الرغم من الدمار وعشرات آلاف الشهداء والجرحى، فإن الشعب الفلسطيني لم يُهزم، وإسرائيل لم تحقق أهدافها وظل الشعب الفلسطيني يقاوم حتى النهاية.

القدس العربي

مقالات مشابهة

  • السيسي: أمامنا فرصة تاريخية فريدة.. وهذا ندائي لشعب إسرائيل
  • «أمامنا فرصة تاريخية فريدة».. نص كلمة الرئيس السيسي أمام قمة شرم الشيخ للسلام
  • قبيل انعقادها.. قراءات عربية لشفق نيوز عن قمة شرم الشيخ ومصير التسوية
  • نسليهان أتاغول تعود الى الشاشة.. وهكذا علّقت على تجربة الأمومة
  • علان لـ” صراحة نيوز”: الطلب على الليرات مرتفع لدواعي الإدخار
  • نيزك بعمر ملياري عام وعقيق البيشمركة.. قصص جيولوجية فريدة لأحجار متحف أربيل
  • مع وقف إطلاق النار.. شفق نيوز توثق عودة نازحي غزة إلى منازلهم المهدّمة
  • «إكسترا نيوز»: تدفق شاحنات المساعدات من مصر إلى غزة
  • الصَلب الفلسطيني: جرحى نازفون… ولكن غير مهزومين
  • نجوى كرم تشعل "دبي أوبرا" بحفل استثنائي يرفع شعار كامل العدد (صور)