الحرب في السودان ربما في طريقها للتوسع واستطالة أمدها
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
بكري الجاك
بغض النظر عن كيف بدأت الحرب، المؤكد أن ما كان يسمى بقوات الدعم السريع كانت تجهز لهذه المعركة منذ وقت طويل، والمؤكد أيضا أن الاسلاميين أو تحالف المال والسلطة الذي يسمى جزافا المؤتمر الوطني قد عادوا للسيطرة على جهاز الدولة في أعقاب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 ، و عملوا بشكل ممنهج على إبطال كل عمليات التغيير التي بدأت في أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019.
المؤكد أيضا أن التنافس حول السلطة مقرونا مع الخلل البنيوي المتمثل في تعدد الجيوش و غياب وحدة القيادة هي العوامل المباشرة لاندلاع الحرب واستمرارها. والمؤكد أيضا أن هنالك حرب تدور و موت و خراب كبير يحدث في الخرطوم في دارفور و في غرب و جنوب كردفان، و الذي أصبح جليا لكل ذي عقل أن هذه الحرب تدور في الظلام و بحملات بروباغاندا ضعيفة الحبكة وفقيرة الخيال تسعى إلى التأثير في الرأي العام، و بخلاف الدمار و الموت الذي تشهده العين لا أحد يعلم كيف تصنع قراراتها و كيف تدار و ما هي أهدافها النهائية لكل طرف و ماذا يعني الانتصار فيها و كيف يعرف الانتصار فيها. أما السرديات التي يقدمها الطرفان حول مشروعية الحرب و قدسيتها لكل منهم في محاولة لتجنيد السودانيين و خطب ودهم و كسب دعمهم تظل من الاشياء التي يجب أن تجعل عجائب الدنيا تسعة بدلا من سبعة، اعجوبة الدنيا الثامنة هي أن قوات مثل قوات الدعم السريع التي هي امتداد موضوعي و فلسفي لفكرة الجنجويد( حتى وإن تم تقنينها بواسطة سلطة شرعنة القتل ) يمكن أن تكون هي ذات القوات التي ستنهي التهميش و تبني دولة حديثة وتجلب لها الديمقراطية ( كده ضر بس) فسلوك هذه القوات في الوقت الحالي (من احتلال البيوت و الاغتصابات و القتل العشوائي و النهب و منطق الغنيمة) يؤكد أن طبيعتها غير قابلة للتغيير حتى و أن صنع لها قانون و غيرت زيها و أسلحتها. أما أعجوبة الدنيا التاسعة هي أن الجيش، الذي صنع الدعم السريع تدريبا و تسليحا و بانتدابات خيرة كوادره و دخل معه في شراكات اقتصادية على مستوى المؤسسات والقيادات، قد استوعب دروس هذه الأخطاء المؤسسية القاتلة والآن يعمل على تصحيحها، فالمنطق يقول أن هذه المعركة ليست معركة كرامة و انما هي محض محاولة للانفراد بالسلطة لتوظيف جهاز الدولة لمواصلة نهب الموارد للقلة الكليبتوقراطية المتحكمة في مفاصل اقتصاد البلاد.
عليه، ليس هنالك معنى في الخوض في صحة أي من السرديات لأنها لا تستقيم منطقا و هي محض حجج لاستعطاف الناس و محاولة لاكساب هذه الحرب شرعية سياسية ومشروعية اجتماعية تفتقدها بالكامل، فالذي يرغب في هزيمة الكيزان و الفلول ( هو الدعم السريع شنو غير كيزان وفلول في نفسه) لا يحتل بيوت الناس ويهتك أعراضهم وينهب ممتلكاتهم بينما القطط السمان من الكيزان ظلت تسرح و تمرح و كلها لها شراكات اقتصادية مع امبراطورية آل دقلو الاقتصادية.
الذي بدأ جليا الآن من واقع ما يحدث في المواجهات بين البني هلبة و السلامات و ما يحدث في الخوي و ما يحدث في الخرطوم يؤكد أنه لم يعد هنالك قوات تسمى قوات الدعم السريع وإنما هنالك مليشيات خارجة عن اي سلطة و ليس لها قيادة مركزية موحدة تستطيع السيطرة عليها، هذه القوات تعمل بعقل الغنيمة و انتهاز الفرص للنهب و السرقة التي هي نمط حياة لعدد كبير من المنتسبين فيها. أما ضعف الجيش و شبه انهياره فهي حقيقة لا تخطئها عين و اذا تقدمت خمسة تاتشرات من هذه القوات المتفلتة ربما يمكنها الوصول إلى الدمازين خلال ساعات، فما يحدث في قرى شمال الجزيرة ينذر بما هو قادم. أما مهاجمة قوات الحركة الشعبية إلى مدن جنوب كردفان ( كادوقلي تحديدا) فهو أمر في غاية الغرابة و لا يستقيم مع أي منطق عسكري أو سياسي إلا منطق المؤامرة، هذه المدن أصبحت مأوى للفارين من جحيم الخرطوم.
و مع خروج هذه القوات عن السيطرة و مع وجود فرص لتوجهها لممارسة النهب في مدن أخرى من المنطقي أن نتوقع توسيع دائرة الحرب، و حيال غياب الجيش و عدم قدرته من القيام بدوره من الطبيعي أن يفكر الناس في تسليح أنفسهم للدفاع عن ممتلكاتهم وأعراضهم، ومع حالة ضعف المجتمع المدني و فشله (حتى الآن) في تنظيم نفسه في خطاب موحد يعكس ضمير الشعوب السودانية ستسود خطابات الحشد العرقي والاثني،و سيتسلح الناس و سيحاربون القبائل التي ينحدر منها أفراد القوات المتفلتة بدلا من قتال المعتدين فقط، و مؤشرات كل ذلك أصبحت جلية خصوصا خطابات الحشد في ولاية نهر النيل وفي شرق السودان. الأسوأ أن ممارسة الاستخبارات العسكرية في المضايقة على الآمنين من أبناء هذه القبائل سيجعل خيارات الناس كلها صفرية و أنهم في لحظة ما سيقتلون فقط لكونهم من هذا المكون القبلي أو ذاك و حينها ينخرط الناس في القتال اضطرارا لا رغبة وتصبح حرب اهلية حقيقية بدلا من كونها حرب الدولة ضد مكونات ظلت تطعن في شرعية الدولة طوال عمر الدولة السودانية منذ استقلالها.
إذن ماذا نفعل حيال هذه التطورات؟
في تقديري أي حل سياسي لا يأخذ في الاعتبار أنه لا مكان لما كان يسمى قوات الدعم السريع في لعب أي دور سياسي في مستقبل البلاد لا فرصة له في القبول أو التحقق، و بالمثل لا يمكن أن يكون هنالك أي دور للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية مستقبلا هذا مع ضمان إبعاد كل قيادات القوات المسلحة الحالية مع التأكيد على أن ينحصر دور القوات العسكرية في الترتيبات المتعلقة بوقف إطلاق النار الدائم و الانسحاب خارج المدن بالتزامن مع وصول قوات اقليمية لحفظ الأمن و البدء في عمليات اعادة تأهيل أولا و تسريح برعاية دولية مع الاحتفاظ بقوة صغيرة من النخبة تكون بمثابة نواة لجيش الدولة في المستقبل على أن يكتمل بناؤه بعد أن يتوافق السودانيون على مشروع وطني تنموي ودستور دائم يتم فيه تعريف دور الجيش في الدولة مستقبلا بعيدا من الكليشيهات مثل حماية الحدود و الدستور. كما لابد أن تكون هناك إجراءات واضحة و محددة لمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب و التخريب الذي سببته الحرب و يجب أن لا يكون ثمن السلام هو الهروب من العقاب أو المكافأة بدور سياسي كما يفكر بعض الساسة من الذين يدّعون الحكمة و البراغماتية كأقصر طريق لإنهاء الحرب علي حساب اي بوصلة أخلاقية.
منذ اليوم الثالث للحرب كنت قد كتبت وتحدثت في عدة قنوات عن أن هذه الحرب ستنتهي بواحد من ثلاثة سيناريوهات وهي ان ينتصر الجيش بالكامل أو تنتصر قوات الدعم السريع بالكامل أو يصبح تعريف الانتصار غير ممكن لأي طرف مما يعني أن يكون الحل متفاوض عليه. و في وقتها تحدثت عن أن الميزة التفضيلية للجيش هي سلاح الطيران والمدفعية إلا أن عدم تمسك قوات الدعم السريع بالارض و تمتعها بخفة الحركة ستبطل هذا المفعول بالإضافة إلى أن هذه الحروب تخاض في المدن ووسط المدنيين و ليست في خنادق. و كنت قد تنبأت (تحليلا لا نبوة) حينها بطول أمد الحرب وأنه سوف لن يكون هناك نصر حاسم لصعوبة تعريف معنى النصر الحاسم لأي طرف و هذا ينذر باستمرارها. و كنت أيضا قد تحدثت عن أن أي صراع مسلح بعد أن يندلع لابد أن يخلق ميكانيزمات داخلية و ديناميكيات لا علاقة لها وسرديات الحرب و من أطلق الرصاصة الأولى.
ياسادتي نحن الآن وصلنا ميس الميكانيزمات الداخلية لحرب السودان التي كل الدلائل تشير إلى احتمال توسعها، و المؤشرات هي: خروج جزء كبير من قوات الدعم السريع وبعضها أصبح لا يأتمر بأمر أي قيادة مركزية و بالمقابل بدأ الناس بالتسلح و الحشد العرقي والاثني، دخول قوات الحركة للقتال في جنوب كردفان، و اندلاع الاشتباكات القبلية في عدة مناطق في دارفور و كردفان و حالة التوتر و الخوف التي تعتري جل مناطق السودان، و مع الأخذ في الاعتبار ما يحدث في اثيوبيا و ما بين أثيوبيا وأريتريا و مع احتمالات تطوره يظل شرق السودان في وضعية هشة للحفاظ على السلم فيه.
أما العملية التفاوضية ما بين جدة و أديس أبابا من خلال عمل الرباعية لتوحيد الجهود في مبادرة الإيقاد المدعومة من الاتحاد الأفريقي و التي رفضها الجيش أو من يتحدث نيابة عنه، و مع الأخذ في الاعتبار كل الهرج و المرج عن مشاركة المدنيين ومحاولات القوى السياسية في الحرية و التغيير و الكتلة الديمقراطية و الاسلاميين بالتآمر على أي جهد مدني لبناء جبهة مدنية شعبية عريضة تعلي صوت المدنيين و تعكس تصوراتهم في وقف الحرب و تشكيل المشهد الوطني في أعقاب الحرب حتى يصبح التفاوض حول كيكة سلطة الخراب ما بعد الحرب سهلة التقسيم، ولكل دوافعه و دفواعاته، فالإسلاميين وبعض المصابين بعاهة التخوين يشككون في أي جهد وطني خالص لوقف الحرب، أما القوي السياسية الأخري تحرص علي السيطرة علي أي عمل حتى تتمكن من توجيهه لخدمة مصالحها السياسية حتي في أزمنة الحرب.
كل هؤلاء تناسوا حجم المعاناة التي يواجهها السودانيين في مناطق الحرب و في المناطق الآمنة نسبيا بل لم تساءلوا هل فعلا الجهات التي تتفاوض لها علاقة بالقتال الذي يدور في عدة مناطق الآن؟ فهذه الصراعات بدأت تأخذ طابع حياة خاصة بها بمعزل عن السرديات و التحشيد و البروباغاندا، و هذا يجعل فرضية وقف الحرب عبر التفاوض و كل هذا الهرج و المرج أمر قد يكون لا معنى له، وربما المدخل الصحيح هو فهم الطبيعة الجديدة التي بدأ يأخذها الصراع (أو الصراعات) و التفكير في عدة مداخل للحلول تتجاوز فكرة الوحدة المركزية للقوات و المشاكل.
خلاصة القول إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع لما يحدث لبلادنا و لو أن الأمور تؤخذ بالتمني لفعلت كل ما في وسعي من الدعاء لإنهاء هذه المعاناة بوقف الحرب واستعادة الأمن و السكينة لكل الناس، و لكن للأسف المؤشرات على الأرض و الطريقة التي يتطور بها الصراع الاجتماعي بعد أكثر من مئة يوم من القتال تنذر بأن هنالك احتمال كبير بتوسيع دائرة الحرب و بأخذها بعدا جديدا، هذا يعني مزيدا من الموت و مزيدا من الخراب و تعطيل للحياة المدنية للطلاب و المرضي و عامة الناس. و الاسوأ أننا كسودانيين لم يعد بيدنا الكثير لفعله سوي الاستمرار في بناء صفنا المدني و توحيده و تنسيق جهوده و لكن جل مفاتيح الحلول هي في أيدي القوى الإقليمية و الدولية و للأسف من الصعب القول الآن بأن هناك إرادة إقليمية و دولية و حريصة على إغاثة السودانيين و مساعدتهم في إنهاء حرب تدور في أرضهم و بواسطة ابنائهم لكنها تخدم مصالح اقليمية و دولية و استمرارها ربما يعني استمرار بيع السلاح و نتيجتها قد تقود إلى تقسيم السودان أو تحوله إلى صومال جديد. إزاء هذا الألم علينا فعل ما نستطيع لتغيير هذه الديناميكيات الجديدة للصراع كما علينا ربط الأحزمة النفسية و المادية و الاستعداد لفترة عصيبة في تاريخنا الوطني الزاخر بالخيبات الوطنية الكبرى من قبل إلا أن هذه الحرب ربما ستكون أكبر هذه الخيبات.
بكري الجاك
14 أغسطس 2023
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع هذه القوات ما یحدث فی هذه الحرب أیضا أن فی عدة أن هذه
إقرأ أيضاً:
البرهان يناور بذكاء ويتوعد الدعم السريع
تخيل بلدا يقف على جرف هارٍ تدفعه حرب ضارية إلى الهاوية، وجيشا يقاتل على جبهات متشعبة، واقتصادا ينهار طبقة بعد أخرى، بينما تتنازع قوى عالمية على أرضه وموانئه وذهبه وموقعه الاستثنائي.
وفي قلب هذا المشهد يقف رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، محاولا أن يمسك بالعصا من وسطها: يلوح للغرب بإمكانية الشراكة، ويشد في الوقت نفسه خيوط الارتباط بالشرق الصاعد.
ليس ذلك تقلبا سياسيا ولا انتقالا عشوائيا بين المحاور، بل مناورة وجودية فرضتها الجغرافيا القاسية، وحرب أنهكت الدولة والمجتمع، وتوازنات دولية تجعل من السودان ساحة اختبار كبرى في صراع النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وفي هذا السياق تحديدا، برزت آخر رسائل البرهان إلى الغرب عبر مقاله الذي اختار له بعناية صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025؛ رسالة لم تكن مقال رأيٍ عابرا، بل مذكرة سياسية مشفرة، صيغت بقدر محسوب من الإيحاء لتصل مباشرة إلى دوائر صناعة القرار.
الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة والانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي، ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا
الرسالة السياسية والصفقة غير المعلنةفي مقاله المثير، حمل البرهان قوات مليشيا السريع مسؤولية الحرب، رافضا توصيف الصراع بأنه "صراع جنرالين"، ومؤكدا أنها حرب تمرد على الدولة.
لكنه لم يكتفِ بهذا التوصيف؛ بل بنى المقال كله على فكرة واحدة: إذا ساعدتموني على تفكيك مليشيا الدعم السريع وإنهاء التمرد، فسأكون جاهزا للمضي في مسار التطبيع، وتقديم صيغة حكم مدني ترضيكم.
لوح البرهان بالانتقال الديمقراطي، وذكر الغرب بأن الصراع يهدد مصالحه في البحر الأحمر، وفتح باب الشراكة الاقتصادية، مشيرا إلى دور للشركات الأميركية في إعادة الإعمار. بدا المقال أقرب إلى عرض تفاوضي مكتمل الأركان: دعم عسكري وسياسي مقابل شرعية واستقرار وتعاون أمني.
هذه الرسالة ليست معزولة؛ فهي تأتي في وقت تتنامى فيه تحركات البرهان على الساحة الدولية: خطابات في الأمم المتحدة، إشارات إيجابية في الملفات الإنسانية، وانفتاح محسوب على المؤسسات الغربية.
إعلانلكن هذه الإشارات لا تعني انقلابا إستراتيجيا نحو الغرب، بل هي جزء من لعبة أكبر توازن فيها القيادة السودانية بين مكاسب اللحظة، ومخاطر الاصطفاف الحاد.
بين القيمة الجيوسياسية وكلفة الاصطفافيحتل السودان موقعا استثنائيا. فهو بوابة البحر الأحمر، وممر التجارة العالمية، وخزان ضخم للمعادن والأراضي الزراعية. ولهذا تتصارع عليه القوى الكبرى اليوم، كما لم تفعل من قبل.
الصين ترى في السودان امتدادا لطريقها التجاري نحو أفريقيا. استثماراتها الضخمة في الموانئ والبنية التحتية والزراعة، تجعلها تبحث عن طريقة لتفادي انهيار كامل قد يبتلع مصالحها. وبكين، رغم هدوئها المألوف، تدرك أن الفوضى في السودان تعني خسارة سنوات من العمل الاقتصادي والإستراتيجي، ولذلك تتحرك بدقة: دعم محدود للجيش، وضغط خلفي لتثبيت الاستقرار دون الاصطدام بالغرب مباشرة.
أما روسيا فقد استعادت أدواتها غير النظامية عبر "أفريكا كوربس"، البديل الجديد لفاغنر، بهدف ترسيخ وجود إستراتيجي دائم على البحر الأحمر. بالنسبة لموسكو، السودان ليس مجرد شريك إستراتيجي، بل هو مفتاح لدخول القرن الأفريقي بعمق، وتحقيق توازن مع الضغوط الغربية في أوكرانيا، وأوروبا.
الغرب من جهته يراقب بقلق تمدد الشرق. لكنّ لديه شرطا واحدا لم يتغير: لا دعم اقتصاديا حقيقيا دون التقدم في ملف التطبيع، وهندسة المسرح السياسي الداخلي، واستبعاد تيار بعينه.
هكذا يجد السودان نفسه أمام معادلة مستحيلة:
الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة. الانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي.
ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا، والمناورة بين الشرق والغرب أشبه بخيط نجاة رفيع، لكن لا بد من السير عليه.
عدم الانحياز الذكي ورهان الداخلضمن هذه الحسابات الدولية المعقدة، يبرز مسار ثالث يفرض نفسه بقوة:
عدم الانحياز الفعال، وهو ليس حيادا سلبيا كما في الستينيات، بل إستراتيجية قائمة على مزيج من الانفتاح الانتقائي، والمداورة الدبلوماسية.
هذا المسار يعني:
تعاونا اقتصاديا عميقا مع الصين، دون الارتهان لها. شراكة أمنية مع روسيا، دون التحول إلى بوابة لها على البحر الأحمر. انفتاحا على الغرب، دون الوقوع في فخ الشروط الثقيلة التي قد تشعل الداخل. بناء دور إقليمي يعتمد على الجغرافيا لا على الأيديولوجيا.بهذه المقاربة، يتحول السودان من ساحة صراع إلى لاعب يجيد توظيف الصراع لصالحه.
بيد أن كل هذا لن ينجح إذا لم يتم حسم المعركة الأهم: معركة الداخل. فالرهان الحقيقي ليس على واشنطن ولا بكين ولا موسكو، بل على قدرة القيادة السودانية على:
توحيد الجبهة الداخلية، إعادة بناء المؤسسات، وقف النزيف الاقتصادي، وفرض إرادتها على القوى الإقليمية المتدخلة.
فمن دون جبهة داخلية متماسكة، تصبح المناورة الخارجية مجرد لعبة خطرة قد تسقط عند أول هزة. ومن دون قرار وطني صارم، لن تستطيع الخرطوم تحويل ثقلها الجيوسياسي إلى قوة حقيقية.
الخلاصة: المناورة ليست خيارا.. بل قدرا سياسياما يقوم به البرهان اليوم ليس استسلاما للغرب ولا انحيازا للشرق، بل مناورة إجبارية تهدف إلى جمع السلاح من منطقة، والشرعية من أخرى، والمساعدات من ثالثة، دون دفع الأثمان كاملة لأي طرف.
إعلانهي محاولة لاستثمار موقع السودان الفريد في معركة الهيمنة على البحر الأحمر، وتحويل الأزمة إلى ورقة تفاوض كبرى. غير أن هذه اللعبة الخطرة لن تجدي نفعا إذا لم يُستعَد الداخل أولا.
ففي النهاية، لا تحدد الدول الكبرى مصائر الأمم بقدر ما تحددها إرادة أبنائها.
وقدرة السودان على الخروج من النفق لا تتوقف على لعبة التوازن الدولية فحسب، بل على قوة البيت الداخلي، وتمكن القيادة من فرض رؤيتها على من يحاولون تشكيل مستقبل السودان من الخارج.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline