الحرب في السودان ربما في طريقها للتوسع واستطالة أمدها
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
بكري الجاك
بغض النظر عن كيف بدأت الحرب، المؤكد أن ما كان يسمى بقوات الدعم السريع كانت تجهز لهذه المعركة منذ وقت طويل، والمؤكد أيضا أن الاسلاميين أو تحالف المال والسلطة الذي يسمى جزافا المؤتمر الوطني قد عادوا للسيطرة على جهاز الدولة في أعقاب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 ، و عملوا بشكل ممنهج على إبطال كل عمليات التغيير التي بدأت في أعقاب تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019.
المؤكد أيضا أن التنافس حول السلطة مقرونا مع الخلل البنيوي المتمثل في تعدد الجيوش و غياب وحدة القيادة هي العوامل المباشرة لاندلاع الحرب واستمرارها. والمؤكد أيضا أن هنالك حرب تدور و موت و خراب كبير يحدث في الخرطوم في دارفور و في غرب و جنوب كردفان، و الذي أصبح جليا لكل ذي عقل أن هذه الحرب تدور في الظلام و بحملات بروباغاندا ضعيفة الحبكة وفقيرة الخيال تسعى إلى التأثير في الرأي العام، و بخلاف الدمار و الموت الذي تشهده العين لا أحد يعلم كيف تصنع قراراتها و كيف تدار و ما هي أهدافها النهائية لكل طرف و ماذا يعني الانتصار فيها و كيف يعرف الانتصار فيها. أما السرديات التي يقدمها الطرفان حول مشروعية الحرب و قدسيتها لكل منهم في محاولة لتجنيد السودانيين و خطب ودهم و كسب دعمهم تظل من الاشياء التي يجب أن تجعل عجائب الدنيا تسعة بدلا من سبعة، اعجوبة الدنيا الثامنة هي أن قوات مثل قوات الدعم السريع التي هي امتداد موضوعي و فلسفي لفكرة الجنجويد( حتى وإن تم تقنينها بواسطة سلطة شرعنة القتل ) يمكن أن تكون هي ذات القوات التي ستنهي التهميش و تبني دولة حديثة وتجلب لها الديمقراطية ( كده ضر بس) فسلوك هذه القوات في الوقت الحالي (من احتلال البيوت و الاغتصابات و القتل العشوائي و النهب و منطق الغنيمة) يؤكد أن طبيعتها غير قابلة للتغيير حتى و أن صنع لها قانون و غيرت زيها و أسلحتها. أما أعجوبة الدنيا التاسعة هي أن الجيش، الذي صنع الدعم السريع تدريبا و تسليحا و بانتدابات خيرة كوادره و دخل معه في شراكات اقتصادية على مستوى المؤسسات والقيادات، قد استوعب دروس هذه الأخطاء المؤسسية القاتلة والآن يعمل على تصحيحها، فالمنطق يقول أن هذه المعركة ليست معركة كرامة و انما هي محض محاولة للانفراد بالسلطة لتوظيف جهاز الدولة لمواصلة نهب الموارد للقلة الكليبتوقراطية المتحكمة في مفاصل اقتصاد البلاد.
عليه، ليس هنالك معنى في الخوض في صحة أي من السرديات لأنها لا تستقيم منطقا و هي محض حجج لاستعطاف الناس و محاولة لاكساب هذه الحرب شرعية سياسية ومشروعية اجتماعية تفتقدها بالكامل، فالذي يرغب في هزيمة الكيزان و الفلول ( هو الدعم السريع شنو غير كيزان وفلول في نفسه) لا يحتل بيوت الناس ويهتك أعراضهم وينهب ممتلكاتهم بينما القطط السمان من الكيزان ظلت تسرح و تمرح و كلها لها شراكات اقتصادية مع امبراطورية آل دقلو الاقتصادية.
الذي بدأ جليا الآن من واقع ما يحدث في المواجهات بين البني هلبة و السلامات و ما يحدث في الخوي و ما يحدث في الخرطوم يؤكد أنه لم يعد هنالك قوات تسمى قوات الدعم السريع وإنما هنالك مليشيات خارجة عن اي سلطة و ليس لها قيادة مركزية موحدة تستطيع السيطرة عليها، هذه القوات تعمل بعقل الغنيمة و انتهاز الفرص للنهب و السرقة التي هي نمط حياة لعدد كبير من المنتسبين فيها. أما ضعف الجيش و شبه انهياره فهي حقيقة لا تخطئها عين و اذا تقدمت خمسة تاتشرات من هذه القوات المتفلتة ربما يمكنها الوصول إلى الدمازين خلال ساعات، فما يحدث في قرى شمال الجزيرة ينذر بما هو قادم. أما مهاجمة قوات الحركة الشعبية إلى مدن جنوب كردفان ( كادوقلي تحديدا) فهو أمر في غاية الغرابة و لا يستقيم مع أي منطق عسكري أو سياسي إلا منطق المؤامرة، هذه المدن أصبحت مأوى للفارين من جحيم الخرطوم.
و مع خروج هذه القوات عن السيطرة و مع وجود فرص لتوجهها لممارسة النهب في مدن أخرى من المنطقي أن نتوقع توسيع دائرة الحرب، و حيال غياب الجيش و عدم قدرته من القيام بدوره من الطبيعي أن يفكر الناس في تسليح أنفسهم للدفاع عن ممتلكاتهم وأعراضهم، ومع حالة ضعف المجتمع المدني و فشله (حتى الآن) في تنظيم نفسه في خطاب موحد يعكس ضمير الشعوب السودانية ستسود خطابات الحشد العرقي والاثني،و سيتسلح الناس و سيحاربون القبائل التي ينحدر منها أفراد القوات المتفلتة بدلا من قتال المعتدين فقط، و مؤشرات كل ذلك أصبحت جلية خصوصا خطابات الحشد في ولاية نهر النيل وفي شرق السودان. الأسوأ أن ممارسة الاستخبارات العسكرية في المضايقة على الآمنين من أبناء هذه القبائل سيجعل خيارات الناس كلها صفرية و أنهم في لحظة ما سيقتلون فقط لكونهم من هذا المكون القبلي أو ذاك و حينها ينخرط الناس في القتال اضطرارا لا رغبة وتصبح حرب اهلية حقيقية بدلا من كونها حرب الدولة ضد مكونات ظلت تطعن في شرعية الدولة طوال عمر الدولة السودانية منذ استقلالها.
إذن ماذا نفعل حيال هذه التطورات؟
في تقديري أي حل سياسي لا يأخذ في الاعتبار أنه لا مكان لما كان يسمى قوات الدعم السريع في لعب أي دور سياسي في مستقبل البلاد لا فرصة له في القبول أو التحقق، و بالمثل لا يمكن أن يكون هنالك أي دور للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية مستقبلا هذا مع ضمان إبعاد كل قيادات القوات المسلحة الحالية مع التأكيد على أن ينحصر دور القوات العسكرية في الترتيبات المتعلقة بوقف إطلاق النار الدائم و الانسحاب خارج المدن بالتزامن مع وصول قوات اقليمية لحفظ الأمن و البدء في عمليات اعادة تأهيل أولا و تسريح برعاية دولية مع الاحتفاظ بقوة صغيرة من النخبة تكون بمثابة نواة لجيش الدولة في المستقبل على أن يكتمل بناؤه بعد أن يتوافق السودانيون على مشروع وطني تنموي ودستور دائم يتم فيه تعريف دور الجيش في الدولة مستقبلا بعيدا من الكليشيهات مثل حماية الحدود و الدستور. كما لابد أن تكون هناك إجراءات واضحة و محددة لمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب و التخريب الذي سببته الحرب و يجب أن لا يكون ثمن السلام هو الهروب من العقاب أو المكافأة بدور سياسي كما يفكر بعض الساسة من الذين يدّعون الحكمة و البراغماتية كأقصر طريق لإنهاء الحرب علي حساب اي بوصلة أخلاقية.
منذ اليوم الثالث للحرب كنت قد كتبت وتحدثت في عدة قنوات عن أن هذه الحرب ستنتهي بواحد من ثلاثة سيناريوهات وهي ان ينتصر الجيش بالكامل أو تنتصر قوات الدعم السريع بالكامل أو يصبح تعريف الانتصار غير ممكن لأي طرف مما يعني أن يكون الحل متفاوض عليه. و في وقتها تحدثت عن أن الميزة التفضيلية للجيش هي سلاح الطيران والمدفعية إلا أن عدم تمسك قوات الدعم السريع بالارض و تمتعها بخفة الحركة ستبطل هذا المفعول بالإضافة إلى أن هذه الحروب تخاض في المدن ووسط المدنيين و ليست في خنادق. و كنت قد تنبأت (تحليلا لا نبوة) حينها بطول أمد الحرب وأنه سوف لن يكون هناك نصر حاسم لصعوبة تعريف معنى النصر الحاسم لأي طرف و هذا ينذر باستمرارها. و كنت أيضا قد تحدثت عن أن أي صراع مسلح بعد أن يندلع لابد أن يخلق ميكانيزمات داخلية و ديناميكيات لا علاقة لها وسرديات الحرب و من أطلق الرصاصة الأولى.
ياسادتي نحن الآن وصلنا ميس الميكانيزمات الداخلية لحرب السودان التي كل الدلائل تشير إلى احتمال توسعها، و المؤشرات هي: خروج جزء كبير من قوات الدعم السريع وبعضها أصبح لا يأتمر بأمر أي قيادة مركزية و بالمقابل بدأ الناس بالتسلح و الحشد العرقي والاثني، دخول قوات الحركة للقتال في جنوب كردفان، و اندلاع الاشتباكات القبلية في عدة مناطق في دارفور و كردفان و حالة التوتر و الخوف التي تعتري جل مناطق السودان، و مع الأخذ في الاعتبار ما يحدث في اثيوبيا و ما بين أثيوبيا وأريتريا و مع احتمالات تطوره يظل شرق السودان في وضعية هشة للحفاظ على السلم فيه.
أما العملية التفاوضية ما بين جدة و أديس أبابا من خلال عمل الرباعية لتوحيد الجهود في مبادرة الإيقاد المدعومة من الاتحاد الأفريقي و التي رفضها الجيش أو من يتحدث نيابة عنه، و مع الأخذ في الاعتبار كل الهرج و المرج عن مشاركة المدنيين ومحاولات القوى السياسية في الحرية و التغيير و الكتلة الديمقراطية و الاسلاميين بالتآمر على أي جهد مدني لبناء جبهة مدنية شعبية عريضة تعلي صوت المدنيين و تعكس تصوراتهم في وقف الحرب و تشكيل المشهد الوطني في أعقاب الحرب حتى يصبح التفاوض حول كيكة سلطة الخراب ما بعد الحرب سهلة التقسيم، ولكل دوافعه و دفواعاته، فالإسلاميين وبعض المصابين بعاهة التخوين يشككون في أي جهد وطني خالص لوقف الحرب، أما القوي السياسية الأخري تحرص علي السيطرة علي أي عمل حتى تتمكن من توجيهه لخدمة مصالحها السياسية حتي في أزمنة الحرب.
كل هؤلاء تناسوا حجم المعاناة التي يواجهها السودانيين في مناطق الحرب و في المناطق الآمنة نسبيا بل لم تساءلوا هل فعلا الجهات التي تتفاوض لها علاقة بالقتال الذي يدور في عدة مناطق الآن؟ فهذه الصراعات بدأت تأخذ طابع حياة خاصة بها بمعزل عن السرديات و التحشيد و البروباغاندا، و هذا يجعل فرضية وقف الحرب عبر التفاوض و كل هذا الهرج و المرج أمر قد يكون لا معنى له، وربما المدخل الصحيح هو فهم الطبيعة الجديدة التي بدأ يأخذها الصراع (أو الصراعات) و التفكير في عدة مداخل للحلول تتجاوز فكرة الوحدة المركزية للقوات و المشاكل.
خلاصة القول إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع لما يحدث لبلادنا و لو أن الأمور تؤخذ بالتمني لفعلت كل ما في وسعي من الدعاء لإنهاء هذه المعاناة بوقف الحرب واستعادة الأمن و السكينة لكل الناس، و لكن للأسف المؤشرات على الأرض و الطريقة التي يتطور بها الصراع الاجتماعي بعد أكثر من مئة يوم من القتال تنذر بأن هنالك احتمال كبير بتوسيع دائرة الحرب و بأخذها بعدا جديدا، هذا يعني مزيدا من الموت و مزيدا من الخراب و تعطيل للحياة المدنية للطلاب و المرضي و عامة الناس. و الاسوأ أننا كسودانيين لم يعد بيدنا الكثير لفعله سوي الاستمرار في بناء صفنا المدني و توحيده و تنسيق جهوده و لكن جل مفاتيح الحلول هي في أيدي القوى الإقليمية و الدولية و للأسف من الصعب القول الآن بأن هناك إرادة إقليمية و دولية و حريصة على إغاثة السودانيين و مساعدتهم في إنهاء حرب تدور في أرضهم و بواسطة ابنائهم لكنها تخدم مصالح اقليمية و دولية و استمرارها ربما يعني استمرار بيع السلاح و نتيجتها قد تقود إلى تقسيم السودان أو تحوله إلى صومال جديد. إزاء هذا الألم علينا فعل ما نستطيع لتغيير هذه الديناميكيات الجديدة للصراع كما علينا ربط الأحزمة النفسية و المادية و الاستعداد لفترة عصيبة في تاريخنا الوطني الزاخر بالخيبات الوطنية الكبرى من قبل إلا أن هذه الحرب ربما ستكون أكبر هذه الخيبات.
بكري الجاك
14 أغسطس 2023
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع هذه القوات ما یحدث فی هذه الحرب أیضا أن فی عدة أن هذه
إقرأ أيضاً:
السودان.. فرص نجاح الحكومة الجديدة في ظل التحديات الماثلة
بعد ما يقارب الأربع سنوات من قرارات رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والتي قضت بحل حكومة الدكتور عبد الله حمدوك في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وفض الشراكة مع قوى الحرية والتغيير تم تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسا للوزراء في أيار/ مايو الماضي. وإدريس الذي يتكئ على تجربة طويلة في العمل في المنظمة العالمية للملكية الفكرية مع علاقات واسعة مع جهات داخلية وخارجية؛ لا يُعرف له انتماء سياسي للأحزاب السودانية، وكان مرشحا مستقلا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2010، وتردد اسمه أكثر من مرة بعد سقوط نظام الرئيس عمر البشير وخاصة بعد قرارات قائد الجيش، ولكن تأخر تعيينه نتيجة تطورات سياسية داخلية وخارجية. ويجيء تعيينه لهذا الموقع المهم وسط تحديات كبيرة تشهدها البلاد، الأمر الذي يطرح تساؤلا مركزيا عن فرص نجاحه وسط هذه الأمواج العاتية التي تحيط بالبلاد وتكاد تعصف بها إلى المجهول..
فعلى المستوي العسكري والأمني، لا تزال الحرب التي تشنها مليشيا الدعم العسكري منذ أكثر من عامين تتواصل في أكثر من ولاية، فمن بين ولايات السودان الثماني عشرة تسيطر مليشيا الدعم السريع بشكل كامل على أربع ولايات في دارفور، بينما تحتدم المعارك في تخوم الفاشر؛ عاصمة الإقليم في ولاية شمال دارفور، أما في إقليم كردفان فإن الحرب تدور سجالا في ولاياتها الثلاث مع تقدم ملحوظ للجيش في كل محاور القتال، غير أن اصطفاف قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان عبد العزيز الحلو مع المليشيا قد يعقد التحركات العسكرية للجيش وخاصة في ولاية جنوب كردفان. وفي وسط السودان لا سيما ولاية الجزيرة والعاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، لا تزال أصداء الانتصارات التي حققها الجيش بطرد المليشيا تتردد، غير أن تلك الانتصارات ليست إلا خطوة في مشوار طويل يتطلب توفير الأمن والخدمات، خاصة وأن المليشيا اعتمدت تكتيكا جديدا يقوم على استهداف المنشآت الحيوية في المدن الآمنة، ولا سيما العاصمة الإدارية بورتسوان، بالمسيرات الاستراتيجية، ثم الحاجة للوقوف على العودة الطوعية لملايين من المواطنين ما بين نازح ولاجئ، والعمل على عودة الحكومة نفسها للعاصمة الخرطوم، حيث تباشر مهامها حاليا من مدينة بورتسودان الساحلية على البحر الأحمر (ألف كيلو متر شرقي الخرطوم)..
يحتاج رئيس الوزراء كامل إدريس أن يتجاوز عتبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات الصعبة ومباشرة مهامه، ولا تبدو خطوة تجاوز تلك العتبة يسيرة
وفي الملف الاقتصادي، تنتظر الحكومة المتوقع تشكيلها تركة ثقيلة أحدثتها الحرب الحالية، فقد استهدفت مليشيا الدعم السريع وبشكل ممنهج كل المؤسسات الاقتصادية، من مصانع وبنوك، ودمرتها تدميرا شاملا في العاصمة الخرطوم، وهناك تقديرات أولية تقول بأن حجم الخسائر يتجاوز 215 مليار دولار في القطاع الصناعي والزراعي وحده، بينما تقول تقارير المنظمات الإنسانية إن 70 في المئة من المستشفيات والمؤسسات الصحية خارج الخدمة حاليا، والخسائر في البنية الصحية يقدر بحوالي 11 مليار دولار، كما أن المليشيا قد قامت بعمليات نهب واسعة ومنظمة استهدفت ممتلكات المواطنين ومدخراتهم، بجانب تخريب خدمات المياه والكهرباء وسرقة معدات الطاقة والمحولات الكهربائية. والتحدي الأبرز في هذا المحور هو في كيفية إعادة تشغيل النظام الاقتصادي وإعادة بناء منظومته اللوجستية، وضمان توفير المطلوبات العاجلة لتحريك عجلة الاقتصاد..
وعلى المستوى الإنساني، تتحدث الأمم المتحدة عن أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث تسببت الحرب في مقتل ما بين 70 ألف إلى 100 ألف شخص من المدنيين، وتجاوز عدد النازحين واللاجئين لدول الجوار عشرة ملايين، وتوقفت العملية التعليمة لأكثر من ستة ملايين تلميذ مدرسي وأكثر من 700 ألف طالب جامعي..
وبعد تحرير الخرطوم بدأت عودة المواطنين لمنازلهم، ولكن لا تزال الشكوى قائمة من انعدام الخدمات الأساسية خاصة بعد استهداف مليشيا الدعم السريع لمحطات المياه والكهرباء بالمسيرات الحربية، ويقول والي ولاية الخرطوم إن حكومة الولاية قادرة على توفير الأمن والخدمات. وتتزايد الأزمة الإنسانية في ولايات دارفور وبعض مناطق ولايات كردفان، حيث لا تزال المعارك دائرة، مما يضعف قدرة المواطنين على الوصول لمزارعهم وممارسة نشاطاتهم الاقتصادية المطلوبة..
أولويات ملحة وعقبات في الطريق..
يحتاج رئيس الوزراء كامل إدريس أن يتجاوز عتبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات الصعبة ومباشرة مهامه، ولا تبدو خطوة تجاوز تلك العتبة يسيرة بالنظر إلى ما تسرب للإعلام خلال الأيام الماضية من إصرار أطراف اتفاق جوبا وأبرزهم حركة العدل والمساواة برئاسة الدكتور جبريل إبراهيم الذي يشغل منصب وزير المالية، وحركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، على الاحتفاظ بنفس الوزارات المهمة كالمالية والمعادن والتي ظلت تشغلها منذ التوقيع على اتفاق جوبا في 2020، بينما يقول تفسير آخر إن الحكومة ملزمة فقط بنسبة الـ25 في المئة التي نصت عليها اتفاقية جوبا للسلام دون النص على وزارات محددة، كما أن تطاول الفراغ التنفيذي خلق أوضاعا وزارية في الخدمة المدنية اضطر معها مجلس السيادة لممارسة بعض الصلاحيات التنفيذية في الفترة الماضية، وتحتاج مستويات الحكم لإعادة تنظيم الاختصاصات بما يخلق الانسجام ويؤسس للتعاون البناء دون تدخل من أحد الأطراف في صلاحيات الآخر.
وعلى كل حال، فإن المهمة المركزية أمام رئيس الوزراء وحكومته المرتقبة هي استعادة عمل أجهزة الدولة لتعمل بكفاءة وقدرة تمكنها من إعادة تفعيل ديوان الخدمة العامة، والعمل على نقل الحكومة للعاصمة القومية الخرطوم، وهو ما يتطلب وبصورة عاجلة دعم قوات الشرطة والأمن وأجهزة العدالة كالنيابة والقضاء لتقوم بدورها، إذ مع بداية عودة النازحين لمنازلهم برزت مشكلة التفلتات الأمنية في الخرطوم من مجموعات كانت تعمل مع قوات الدعم السريع التي قامت إبان سيطرتها على الخرطوم بإطلاق سراح آلاف الموقوفين في السجون وتسليحهم في معركة عدوانها ضد الشعب السوداني. ثم إن الحكومة بحاجة عاجلة لخطة اقتصادية إسعافية تركز على الإسراع بتحريك عجلة الإنتاج في محاور الزراعة والصناعة والاستثمار، وتوظيف الموارد المتاحة كالذهب والبترول والموانئ، لتوفير الأرضية المناسبة لانطلاق برنامج إعادة الإعمار الكبير.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد المليشيا، فإن الحكومة مدعوة لبذل الجهد الكبير لتوفير مظلة الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع المليشيا، وهي ليست مهمة سهلة خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي باحتلال المليشيا لمنطقة المثلث الحدودي الاستراتيجية بين السودان مصر وليبيا، وذلك بمساندة من مليشيات ليبية مدعومة من خليفة حفتر، وعلاقات مضطربة مع دول الجوار في تشاد وجنوب السودان وكينيا التي توفر ملاذا لقيادات المليشيا العسكرية والسياسية.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد المليشيا، فإن الحكومة مدعوة لبذل الجهد الكبير لتوفير مظلة الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع المليشيا، وهي ليست مهمة سهلة خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي باحتلال المليشيا لمنطقة المثلث الحدودي الاستراتيجية بين السودان مصر وليبيا
ويزداد التحدي في هذه النقطة من سعي المليشيا لإنشاء حكومة موازية في دارفور والمناطق التي تسيطر عليها، على غرار التجربة الليبية، وعلى الرغم من فشلها حتى الآن في ذلك إلا أن الأمر يتطلب تحركا ديبلوماسيا فاعلا يحاصر المليشيا ويقضي على طموحاتها السياسية. وما يشجع في هذا الأمر هو الترحاب الذي قوبلت به خطوة تعيين رئيس الوزراء من قبل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وأطراف إقليمية عدة، ويرجح أن يعود السودان عضوا فاعلا في الاتحاد الأفريقي بعد رفع تجميد عضويته منذ قرارات الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وفي آذار/ مارس الماضي أدان الاتحاد الأفريقي محاولات المليشيا إقامة حكومة موازية، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا في الموقف الأفريقي نتيجة التغيير الذي تم في رئاسة المفوضية والجهود الكبيرة التي اطلع بها مندوب السودان في المنظمة الأفريقية المهمة. وفي ظل تراجع الحديث عن الحلول السياسية، تحتاج الحكومة لصياغة مشروع متكامل للتعامل مع المستجدات المتوقعة في هذا الإطار..
وبعد الفراغ من المهام العاجلة تنتظر الحكومة المقبلة مهمة كبرى، وهي كيفية تهيئة البلاد نحو الوضع السياسي الطبيعي وإنهاء حالة الانتقال الهشة التي استطالت منذ سقوط النظام السابق في نيسان/ أبريل 2019، وكان من المرجح أن تنتهي بالانتخابات بعد أربع سنوات. والتحدي الأبرز هنا هو في تفكك الحاضنة السياسية التي تقف خلف الجيش وفشلها في تكوين تحالف مرن يمكنها من الدفع السياسي والاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب، وتحتاج الحكومة والمجلس السيادي لتعميق التشاور مع الأطراف السياسية لتنظيم الحوار السوداني- السوداني الذي وعد به رئيس الوزراء في أول خطاب له بعد أداء القسم، وذلك للنظر في كيفية التحول نحو الانتخابات وإنهاء حالة الانتقال. وفي خضم ذلك تطل قضايا لا تقل أهمية مثل رتق النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب، وخطاب الكراهية الذي انتشر بصورة كبيرة بين المكونات الاجتماعية..
ومع كل تلك التحديات الكبيرة يبدو التفاؤل وافرا بين مكونات الشعب السوداني لاستعادة الأمن والاستقرار بعد تعيين رئيس الوزراء، وقبله تحرير العاصمة الخرطوم وبداية عودة النازحين واللاجئين لمنازلهم، وبداية حياة جديدة يتلمسون فيها دروب الأمل ومسارات المستقبل..