تلقّى الشاعر الأمريكي جون تشياردي دعوة لحفل غداء يقيمه رجال أعمال كبار في كندا للحديث عن الشعر. ماذا عساه أن يقول لهم؟ ماذا يعني الشعر بالنسبة لهؤلاء؟ وجد هذا الشاعر الذي ترجم دانتي نفسه أمام مجموعة من الأثرياء يتحدث لهم عن موضوع لا يفهمون فيه.
عندما وقف تشياردي أمام المايكروفون وهو ينظر إلى تلك الوجوه الرمادية التي بدأت تأكل غداءها قال لهم:
ليس هناك شعر للرجل العملي.
الشعر فقط للرجل الإنسان الذي يقضي قدرا بسيطا من الوقت في الحياة العملية.
القرحة هي خيال لم يعبر عنه وينتقم بسبب الإهمال،
هي قصيدة لم تُكتب،
لوحة تشكيلية لم تُرسم.
إنها إعلان من الرجل الإنسان في أن نبع الفرح الصافي لم يستغل
وأنه سيعبّر عن نفسه ويظهر إلى السطح بطريقة موحلة.
كانت هذه العبارات المفاجئة هجوما ساخراً على الجمهور الكبير من رجال الأعمال الذين لم يستوعبوا النظرة الأحادية التي يتمتعون بها. لا يفهم رجال الأعمال إلا شيئا واحداً وهو كسب المال، وربما يكونون مغلوبين على أمرهم فهذه طبيعة الأشياء فحياة رجل الأعمال مليئة بالجانب العملي الجاد الصارم في السعي نحو تحقيق هذا الغرض الوحيد. عندما تقضي حياتك تتفاعل في هذه الثقافة المادية فمن المتوقع أن هذا سيترجم نفسه على شكل الإيمان بالنظرة الأحادية التي استعاذ منها الشعراء. كما أن إهمال الخيال المتمثّل في القصيدة أو القصة أو العمل الأدبي بشكل عام، يؤدي إلى الابتعاد عن ثراء المعاني المتعدّدة والزوايا المختلفة التي يمكن أن ينظر إليها الإنسان وبالتالي فقدان التعاطف الإنساني والوجداني في المواقف المختلفة.
قد يجد رجال الأعمال متعة كبيرة في كتابة الشعر غير أن هذا الترف الباذخ بعيد المنال بالنسبة لهم. وقد يعوّضون هذا النقص المخلّ والفشل الذريع في الوصول إلى هذه المرحلة المتقدّمة باستضافة الشعراء والاستماع لهم والتظاهر بتذوّق الشعر الذي يلقيه هؤلاء الشعراء في بلاطهم. الكثير منهم يجد تعويضاً كبيرا في احتلال موضوع القصيدة وذلك من خلال هؤلاء الشعراء الذي يكيلون المديح والثناء لهم في مجالسهم العامرة.
تبرعت امرأة غنية، بحسب جوزف بريزي صاحب مجلة شعر الأمريكية، بمبلغ 100 مليون دولار للمجلة، وكانت قد حاولت هذه المرأة أن تنشر قصائدها في هذه المجلة الذائعة الصيت لكن المحرر نفسه، وهو هنا بريزي، كان يمنع نشر هذه القصائد بسبب ضعف مستواها الفني. رغم المحاولات اللاحقة، لم تستطع هذه الشاعرة المبتدئة أن تنشر قصيدة واحدة في هذه المجلة وذلك بسبب المعايير الصارمة التي كانت تطبقها هذه المجلة المرموقة. فاقد الشيء لا يعطيه.
khaledalawadh @
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: رجال الأعمال
إقرأ أيضاً:
الإدارة الحكومية للإبداع
د. صلاح بن راشد الغريبي
أصل كل عمل إبداعي عقل قادر على الإيجاز والتفصيل إما بالكتابة أو الأداء أو الرسم أو بأي قالب يستوعب حصيلة التفكير في موضوع مُعين، وتنشط بعد ذلك المطابع ودور النشر أو شركات الإنتاج في إخراجه للجمهور المتلقي ذلك الجمهور المُتعدد في اتجاهاته والمتنوع في معارفه ورغباته.
ذلك الإخراج يستدعي عدة أمور منها تشريعات محددة ومفصلة، وأيضًا مؤسسات تعمل عليه، ولكن دعونا نسأل؛ هل ثمّة مُخرِجان اثنان لعمل فني ناجح أو رسّامان للوحة فنية واحدة أو شاعران لقصيدة واحدة نابعة من وجدان صادق غير متكلف؟!
كذلك لا تستطيع أي وسيلة نقل الاتجاه في طريقين مختلفين في الوقت نفسه إلا أن تكون النتيجة الدوران من نقطة والعودة إليها مرة أخرى أو الثبات التام في المكان نفسه.
كان لا بد من طرح مثل هذه التساؤلات للحصول على المغزى التالي:
لا يمكن الوصول إلى أي إنجاز واقعي وحقيقي ومفيد ما لم تستقل صناعة العمل الإبداعي سواء كان الكِتاب أو السينما أو الفنون المختلفة أو أي عمل إبداعي آخر في مؤسسة جامعة لكل مراحله من الألف إلى الياء من التشريع المنظم إلى إدارة عناصره البشرية والتقنية والفنية ومن بعد ذلك الوصول لتحقيق الأهداف ومراجعة ما أنجز منها وما لم ينجز في الإطارين الزماني والمكاني لهذه الأهداف.
وبذا نفهم أهمية ما تقوم به الحكومات في العالم والساعية للتقدم في جعل كل عمل إبداعي تحت إطار هيئة واحدة أو مؤسسة واحدة أو إدارة واحدة؛ من غير تشتيت أو تفريق لمفاصِلِه هذا المفصل لهذه الجهة وذلك لتلك والآخر لجهة أخرى كتوزيع الإرث الظالم أو توزيع فوضوي بلا ميزان ولا مبدأ.
يقع التشريع على هذه الجهة التي لا تدرك حقيقة العمل الميداني وتفاصيله المتغيرة أو تتدخل فيما لا تعيه من جوانب يعيها المتخصصون والتنفيذيون وحدهم؛ والذين يقع عليهم الكدح والبذل والتقريع والمحاسبة؛ في حين أن آخرين يحملهم الجشع لاختلاس ثمارهم الناضجة وحصادهم فيظلون كالذي يتلمظ اللقمة والثمرة التي بذرها وسقاها ولا يَطعَمُها أبدا أو يُعطى منها ما يجعلُ فمه مغلقا أو يده مزمومة عن جلّ حقه أو أكثره.
حينها تكون رغبة الموظف أو العامل الجاد في تجويد عمله في أدنى مستوياتها وتكون الحصيلة عملا سطحيا استعراضيا لا غير؛ ذلك إن تم العمل أصلا.
الخلاصة أنه لا بُدّ من مظلة واحدة تجمع كل صناعة إبداعية على حدة؛ بدءًا من المشاركة في وضع ضوابطها المجتمعية، وانتهاءً باستعراض نتائج العمل ومراجعته والعمل على تجويده وتطويره، وأن من يستحق أولًا ثمار الحصاد هو من يبذر ويزرع حتى تظل جذوة العطاء مشتعلة في نفسه وحتى لا يفقد همته وحرصه على ما يؤديه من عمل خدمة كان أو إنتاجًا.
التنظيم والعمل الجاد والمستمر والمتقن والتطوير الحقيقي لا يكون إلّا بوسيلة واحدة هي وجود هيئة أو مؤسسة مستقلة جامعة لكل عمل إبداعي مؤثر؛ سواء كان كتابًا (هيئة للكتاب) أو سينما ودراما (هيئة للسينما والدراما) وهكذا لأي عمل إبداعي بطابع إنتاجي كامل.