في عالم الفكر الفلسفي والتجارب الروحية، يتجلى الإلهام المعرفي كمفهوم غني بالمعاني، مثير للتساؤلات حول مصادر المعرفة وحدود العقل البشري. يتردد هذا التساؤل بشكل متزايد في عصرنا الحالي، حيث يقف الإنسان بين زخم المعلومات الرقمية المتدفقة وما تحمله من فرص وآفاق، وبين مخاوف الانحدار إلى السطحية والتشتت. هنا، يظهر الإلهام المعرفي كعامل مركزي يمكن استثماره لبناء رؤى إبداعية وفكرية، أو تركه ليصبح عنصرًا ضائعًا في دوامة التطور المفرط.

في الفضاءات الصوفية، يشير أهل التصوف إلى الإلهام كمنهج معرفي يندرج ضمن التجربة الروحية العميقة. الصوفي، عندما يخوض في رياضات روحية مكثفة، يدرك حقائق وكشوفات تتجاوز حدود العقل التقليدي. هذه الكشوفات، كما يرون، ليست نقيضًا للعقل، بل مكملة له، حيث يُعطى العقل دورًا محدودًا في عالم المحسوسات، بينما تتولى البصيرة – تلك العين الروحية التي تستمد نورها من عالم الغيب – دور استكشاف ما وراء ذلك.

الإمام أبو حامد الغزالي، أحد أبرز أعلام التصوف الإسلامي، يمثل نموذجًا متميزًا لفهم هذا التداخل بين العقل والإلهام. في كتاباته، وصف الغزالي العقل بأنه أداة ضرورية للمعرفة، لكنه أكد أن له حدودًا عندما يتعلق الأمر بعوالم الماورائيات. في هذه العوالم، يتولى الإلهام والبصيرة قيادة الرحلة المعرفية، حيث تصبح الحقائق واضحة بلغة تتجاوز القوالب التقليدية. ما يميز الغزالي هو قدرته على التعبير عن هذه التجربة بلغة عقلية منهجية، مما أتاح لهذه الرؤية أن تكون جسرًا بين التجربة الصوفية والعقلانية الفلسفية.

اليوم، في عصر الثورة الرقمية، يتكرر التساؤل ذاته: هل يمكن للإلهام أن يظل مصدرًا معرفيًا فعالًا؟ الثورة التقنية قدمت فرصًا هائلة لإثراء الفكر، من خلال الوصول إلى مصادر معرفية متنوعة ومتاح للجميع. لكنها في الوقت نفسه، طرحت تحديات خطيرة تمثلت في السطحية، وتشتت الانتباه، وضياع المعايير القيمية. الإلهام، كي يكون فاعلًا في هذا السياق، يتطلب إطارًا أخلاقيًا ومعرفيًا راسخًا. فهو ليس مجرد دفعة مؤقتة للإبداع، بل منهج يرتبط بعمق القيم الإنسانية والقدرة على التحليل والتأمل.

ما يجعل الإلهام المعرفي أكثر إلحاحًا اليوم هو علاقته بالبيئات الأكاديمية والتعليمية، حيث أصبح التحدي مزدوجًا: توفير المعرفة من جهة، وتعزيز القدرة على الفهم العميق من جهة أخرى. لا يكفي أن نغرق الأجيال القادمة بالمعلومات؛ بل ينبغي أن نمنحهم الأدوات التي تمكنهم من تحويل تلك المعلومات إلى بصائر ورؤى.

في هذا السياق، يمكن القول إن الإلهام ليس مجرد حالة شخصية تخص الأفراد، بل هو مشروع فكري جماعي يهدف إلى دفع الحدود التقليدية للتفكير نحو آفاق أرحب. السؤال الأهم هنا: هل يستطيع الإنسان المعاصر، في ظل هذا التدفق المعلوماتي غير المسبوق، أن يستعيد جوهر الإلهام كوسيلة للارتقاء الفكري؟ أم أن التحديات التي يفرضها العصر الرقمي ستظل عائقًا أمام تحويل الإلهام إلى منهجية معرفية قادرة على التكيف مع عالم يزداد تعقيدًا؟
 

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: المعلومات الرقمية الفكر الفلسفي المزيد

إقرأ أيضاً:

صيفي تواصل ونماء .. استثمار ناجح في مواهب الطلبة

بعد النجاح الذي حققه في النّسخ السابقة؛ يأتي البرنامج الصيفي لطلبة المدارس (تواصل ونماء) 2025/2024م هذا العام، والذي تُشرف عليه وزارة التربية والتعليم ويُنفّذ بالمديريات العامة بالمحافظات التعليمية في مختلف الولايات بسلطنة عمان، ليحظى بمشاركة واسعة من المجتمع المحلي والتعليمي والمؤسسي؛ نظرًا لتنوع الأنشطة والمجالات وثراء البرامج التدريبية والمهارية التي يحتضنها.

وتعد المديرية العامة للتربية والتعليم بمحافظة جنوب الباطنة إحدى المحافظات التعليمية التي تعمل على إثراء ونجاح البرنامج الصيفي كل عام؛ حيث تُنفّذ الفعاليات والأنشطة التدريبية العلمية والعملية والمهارية المتنوعة في كافة ولايات المحافظة، وتضم أنشطة وأوراق عمل تطبيقية متنوعة في المجالات العلمية والتقنية والفنية والأدبية والاجتماعية والرياضية والكشفية والسياحية والاقتصادية والإعلامية والتطوعية، بمشاركة واسعة من طلبة المدارس والمختصين في تنفيذه، وتستمر أسبوعين.

ونسلط الضوء في السطور القادمة على أهمية تطبيق البرنامج ومدى الاستفادة منه، والفئات المستهدفة، والمختصين القائمين على تنفيذه، والأماكن التي يحتضنها، كذلك أبرز الأنشطة والفعاليات المتنوعة وأوراق العمل التدريبية والمهارية، ونقف على التعاون والشراكة المُثرية بين مختلف القطاعات والمؤسسات الحكومية والخاصة والأهلية والتطوعية، ونُبيّن آراء المشاركين والمنفذين والمستفيدين.

6 ولايات

تُقام فعاليات البرنامج الصيفي لطلبة المدارس (تواصل ونماء) في الأندية الرياضية والثقافية، والملاعب الخضراء، وجمعيات المرأة العُمانية، والمدارس، والحدائق، والقاعات، ومركز التدريب، بست ولايات بمحافظة جنوب الباطنة، هي: الرستاق، والعوابي، ونخل، ووادي المعاول، وبركاء، والمصنعة، إضافة إلى المغامرات، والمسير الجبلي، والتسلق، والإنزال بالحبال، والإسعافات الأولية، واكتشاف الأودية والمعالم السياحية والطبيعية، وكذلك الرحلات العلمية وغيرها الكثير، حيث تُشرف لجنة الإعداد والتنظيم للبرنامج الصيفي لطلبة المدارس (تواصل ونماء) 2025م بتعليمية جنوب الباطنة على إقامة وتنفيذ البرنامج بالتعاون والشراكة مع المختصين في ذلك.

أهداف

وقالت آمنة بنت محمد البلوشية، مديرة دائرة التوجيه المهني والإرشاد الطلابي بتعليمية جنوب الباطنة، رئيسة فريق الإعداد والتنظيم للبرنامج الصيفي بالمحافظة: إن البرنامج الصيفي يهدف إلى استثمار أوقات الفراغ، ورعاية الموهوبين، وصقل المهارات، وتنمية المواهب، وتبادل الخبرات، إضافة إلى تعزيز روح التعاون والتفاعل والعمل الجماعي، وتنمية الجوانب الشخصية والقيادية والاجتماعية والمهارية، كذلك توحيد الجهود والتعاون البنّاء مع المؤسسات الحكومية والخاصة والأهلية، لا سيما تأصيل الانتماء والهوية الوطنية والثقافية، وإبراز كافة الجوانب التنموية والمعالم التراثية والسياحية بسلطنة عمان.

وأضافت البلوشية: يحظى البرنامج الصيفي كل عام بمشاركة واسعة لطلبة مدارس المحافظة، والذي بلا شك يُنمي قدراتهم ويُكسبهم المهارات المتنوعة العلمية والعملية؛ حيث يُركز على التطبيق العملي واكتساب المهارات والعمل بها، ويُنفذه مختصون ومدربون في مختلف المجالات.

اكتشاف المواهب

وبيّن مختار بن محمد السالمي، مدير مساعد بدائرة التوجيه المهني والإرشاد الطلابي بتعليمية المحافظة قائلًا: يسعى البرنامج الصيفي سنويًا لخلق فرص أكبر لاكتشاف المواهب لدى الطلبة وصقلها بما يُوائم التقدم المتسارع والبرامج التي تناسب تطلعات التعليم وفرص العمل، كما يُتيح الفرص لمختلف شرائح المجتمع المحلي في المشاركة الفاعلة والمثرية، كتقديم أوراق عمل تدريبية في مختلف المجالات بإشراف المختصين بتعليمية المحافظة وتوفير البيئة المناسبة؛ حيث يجمع عددًا من الموهوبين والراغبين والمهتمين من الطلبة والمعلمين والإداريين والمهتمين وغيرهم من فئات المجتمع، ويشمل تقديم عدد من الأنشطة والبرامج التدريبية والمحاضرات والمسابقات وبرامج العلوم والابتكار وتقنية المعلومات والترفيه والفنون والأدب والثقافة والتراث والمغامرات والسياحية وغيرها، في المجالات العلمية والتكنولوجية والتقنية والثقافية والأدبية والفنية والرياضية والاقتصادية والإعلامية والمجال القيمي والمجال الريادي.

تنوع وثراء

من جانبه، قال خميس بن سليمان بن محمد الشكيلي، مشرف أنشطة بتعليمية المحافظة: تتنوع البرامج التدريبية العلمية والعملية والمهارية، والتي يتم تنفيذها من قبل المختصين؛ منها: تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، والحساب الذهني، والطابعات ثلاثية الأبعاد، والروبوت، والتقنيات الحديثة، والمغامرات الجبلية، والتسلق، والسباحة، والأنشطة الرياضية المتنوعة، والإسعافات الأولية، وأساسيات التصوير بالدرون والهاتف، واستخدام الكاميرات، والمناظرات، والمسابقات الثقافية، والتمثيل، وألعاب متنوعة، والمدارس الخضراء، وإعادة التدوير، والسعفيات، والفخاريات، والخزف، والرسم، وغيرها الكثير، حيث يكتسب المشارك المهارات العملية من خلال التطبيق المباشر.

آراء

وبيّنت عفراء بنت جابر بن زيد المعولية، مشرفة أنشطة مدرسية والمشرفة على تنفيذ البرامج قائلة: في إطار تنفيذ البرنامج الصيفي لصقل المواهب واستثمار الإجازة الصيفية، تتسم الفعاليات بتنوع الأنشطة مع تركيز خاص على تنمية المهارات الحياتية والتفكير الإبداعي، وقد أسهم هذا التنوع في صقل شخصية المشاركين وتعزيز الوعي، ومن أبرز محاور التميز في البرنامج نجاحه في بناء شراكات مجتمعية فاعلة، إضافة إلى خلق جيل مبدع ومنتج وقيادي.

وقال سعود بن مسعود بن خلف الذهلي، أحد المدربين المختصين في المغامرات الجبلية والتسلق، في لقاء معه: يأتي هذا العام بعد نجاح تطبيق نشاط المغامرات الجبلية والتسلق والإنزال والإسعافات الأولية في الأعوام السابقة؛ حيث بدأنا في البرنامج بقرية بلد سيت بوادي بني عوف بولاية الرستاق منذ سنتين، ثم قمنا بتطبيقه بوادي السحتن ووادي مستل في العام الماضي، ويُنفذ هذا العام بولاية العوابي وولاية نخل وولاية وادي المعاول، ويركز البرنامج على التطبيق العملي والتدريب المباشر واكتساب المشاركين مهارات متعددة ومتنوعة.

وقالت علياء محروس السيد، إحدى المدربات ومقدمات أوراق العمل في المجال الفني: لمست شغف الطالبات وتطور مهاراتهن يومًا بعد يوم، حيث أبدعن في تنفيذ تصاميم فنية جميلة أظهرت قدراتهن وإبداعهن في هذا المجال؛ لذلك نسعى لاستمرار تقديم البرامج العملية.

من جانبه، قال خالد بن سيف المعولي، نائب رئيس نادي الشباب: يتعاون نادي الشباب مع فريق إعداد وتنفيذ البرنامج الصيفي لطلبة المدارس؛ حيث تستضيف القاعة الرياضية بالنادي مجموعة من الفعاليات والأنشطة الرياضية التي يُنفذها عدد من المدربين، مستهدفين طلبة المدارس ذكورًا وإناثًا.

وأوضح الطالب أحمد بن سامي البحري قائلًا: من البرامج المهمة والمثرية لدى الطلبة هو البرنامج الصيفي الذي يُقام كل عام؛ حيث يعمل على استغلال أوقات الفراغ، واكتساب المهارات، وتعزيز القيم، وصقل وتنمية المواهب، وتبادل الخبرات؛ لذلك أنصح الطلبة الاستفادة من هذه البرامج والمجالات المتنوعة والمثرية، ويعد من برامج التنمية المستدامة.

فيما قالت الطالبة هاجر بنت أحمد بن إبراهيم المعولية: استفدت كثيرًا من مشاركتي في البرنامج الصيفي؛ منها التواصل مع الآخرين بصورة فعالة، واكتساب خبرات جديدة، ومهارات متنوعة، وتطبيقها في الحياة اليومية.

حرص واهتمام

هذا وتحرص وزارة التربية والتعليم ممثلة في المديريات التعليمية بالمحافظات على الاهتمام بالطلبة خلال الإجازة الصيفية، وتقديم برامج وأنشطة هادفة من شأنها تنمية وصقل قدراتهم، فضلًا عن تزويدهم بالمهارات والمعارف المختلفة العملية التدريبية والتطبيقية، كذلك تأصيل قيم المواطنة وتعزيز السمات القيادية لديهم، ويأتي البرنامج الصيفي هذا العام بشعار (تواصل ونماء) ليؤكد الاستدامة ونجاح البرنامج في النسخ السابقة، لا سيما الشراكة الواسعة والنتائج التي يعمل على تحقيقها.

مقالات مشابهة

  • محمد سعيد حميد يكتب : يا بلادي
  • أنماط طرائق التفكير السوداني (٢)
  • 40 عاما على إطلاقه.. ماذا تبقى من نقد العقل العربي للجابري؟
  • مصر والسعودية.. استدعاء الماضي وتغييب العقل
  • صيفي تواصل ونماء .. استثمار ناجح في مواهب الطلبة
  • د. حسن محمد صالح يكتب: الفاشر .. يا خط دفاع ما ينكسر يا راية في جيش الفتى البرهان
  • المقاصد بين النبوة والخلافة.. قراءة في العقل الاستراتيجي المؤسس.. كتاب جديد
  • رسالة مؤثرة من المنجم بعد رحيله عن الشباب: “الله يكتب فيها الخير”
  • المالية تُحدّث رسوم رخص الإشغال واستثمار المياه.. إليكم هذا البيان
  • نصر الدين زار شيخ العقل: رفع التغطية الدوائية بنسبة 300% ونسير خطوة خطوة