صحيفة التغيير السودانية:
2025-12-13@17:43:55 GMT

استقلال السودان.. الزيف والحقيقة!

تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT

استقلال السودان.. الزيف والحقيقة!

فايز الشيخ السليك

ابتسمتُ عندما قدم لي مشرفي في الشركة التي أعمل بها التهنئة بمناسبة (عيد ميلادي) الافتراضي، لم أودُ قطع حبل دهشته بسبب فرادة تاريخ الميلاد المصادف الأول من يناير.

لم أخبره بأنَّ هذا التاريخ زائف، لا اليوم حقيقي، ولا الشهر صحيح ولا السنة كذلك، لكن كل ما أذكره أنه في أحد أيام الشتاءات القارصة في سودان ثمانينات القرن الماضي ذهبنا مجموعة من أولاد القرية إلى الخرطوم، لاستخراج “شهادات التسنين”، حيث اكتفى الطبيب بالنظرة إلى الطفل الواقف أمامه، وفتح فمه، ثم كتابة تاريخ الميلاد تقديراً، ربما يكون أحدنا أصغر سناً، لكنه طويل القامة، فيكتب له القومسيون الطبي ميلاً أكبر منا، أو العكس.

هي حكايات من تواريخ ميلاد كثيرين؛ غالباً ما تكون تواريخ زائفةً مثل أشياء كثيرة عندنا، كقول الشاعر، وغناء المغني..

كرري تحدث عن رجالٍ كالأسود الضارية..

خاضوا اللهيب، وشتتوا كتل الغزاة الباغية..

ما لان فرسانٌ لنا، بل فرَّ جمع الطاغية..

وهو على غير حقيقة الوقائع التي حدثت في معركة كرري في سنة ١٨٩٨، التي ولج الاستعمار عبر بوابتها، وأسس دولته “الكولونيالية” بعد ترسيم خطوط السكك الحديد، والسعي لتحديث الحياة السائدة وقتها، وتأسيس بعض المشاريع الزراعية الكبرى كمشروع الجزيرة بغرض تصدير قطنه إلى مصانع لانكشير في بريطانيا العظمى، ولنستورد نحن ذات القطن” أقمشةً وثياباً لندنية وسويسرية؛ ونظل ندور في تبعية إلى يومنا هذا، ونحن نحتفل بذكرى الاستقلال التاسعة وستين مع أنه استمرار لذات أسس ونهج الدولة التي أسسها المستعمر.

وردت تعريفات الدولة في الفكر السياسي، وفي علم الاجتماع، وفي مفاهيم التنمية منذ أن بدأ الإنسان يفكر في تأطير علاقته مع الآخرين، لتحقيق مصالحه، ومصالح أسرته، وعشيرته، وقبيلته، حال وجود آخرين يختلفون عنه في تلك الكيانات الأسرية والعشائرية والقبلية، وهي كيانات تربط المجتمعات المقيمة داخل حيز جغرافي معين، وترتبط مصالحها ببقائها على وئام، أو توافق على حد أدنى من التعايش.

وظهر المصطلح قبل آلاف السنين في الفلسفة الإغريقية، بجمهورية أفلاطون، “يوتوبيا”، وهي نظرة مثالية مستندةً على كيان يتم تقسيمه إلى حاكم فيلسوف، وحراس مساعدين، وعمال يدويين، فيما جاءت رؤية الفيلسوف الإسلامي الفارابي في مدينته الفاضلة ترجمةً لفلسفة أفلاطون والتأكيد على دور الأخلاق في السياسة، ثم كانت رؤية ابن خلدون القائمة على العصبية، في تقسيم المجتمعات، إلا أن نقلةً نوعية شهدتها أوروبا؛ لا سيما بعد أن طوت حقبة الانحطاط الفكري، ودحرجت أركان الدولة الدينية ” الثيوقراطية”، أو الكهنوتية”.

يرى المفكر العربي الدكتور محمد عابد الجابري أن “النظريات الأوروبية حول الديمقراطية وحول المسألة الاجتماعية وحول العلاقة بينهما كانت نظريات تؤطِّرها وضعية تاريخية معينة قوامها جملة أسس وأركان من أهمها ما يلي: وجود الدولة الوطنية القومية، وجود بنى صناعية حديثة متنامية، وجود طبقة برجوازية متمسكة بالقيم اللبرالية، وجود طبقة عاملة يتزايد عدد أفرادها يوماً بعد يوم، وجود أحزاب تؤطِّر الأفراد، وتتقاسم النخب “، ويضيف ” أنَّ اختفاء القبيلة وذوبانها ” في المجتمع الأوروبي” كإطار يستقطب ولاء الأفراد كان شرطاً لقيام نوع آخر من الولاء هو التبعية للسيد الإقطاعي أولاً ثم للحزب أو النقابة بعد ذلك”.

يضطَّر الأفراد في أي مجتمعٍ اضطراراً طبيعياً إلى البحث عن كيانً ينتمون إليه، وتتنوع الكيانات من سياسية إلى مدنية أو نقابية، وروابط ثقافية وفنية وأدبية، وهي أوعية مهمة لاستيعاب طاقات الأفراد فيها، ولإشباع غرائزهم الاجتماعية والحاجة إلى الانتماء، كخطوة مهمة من خطوات تحقيق الذات، فراعي الأبقار سيكون سعيداً لوجود اتحاد رعاة يقاسمه همومه اليومية والحياتية، والمزارع في حاجة إلى اتحاد مزارعين لمتابعة مشاكل الزراعة، وهناك من يبحث عن منظمة تدافع عن حقوق الإنسان، أو تقديم الخدمات الطوعية، وهناك من يسعد بالاشتراك في ناد رياضي، أو جمعية ثقافية، وطلاب المدارس والجامعات يكونون سعداء حال توظيف طاقاتهم الشبابية في أنشطة يقدمون عبرها الخدمات لأهلهم، وهناك من تشبع غريزته السياسية والانضمام إلى حزب سياسي.

ويشير بروفيسور تيسير محمد أحمد، إلى أنِّ “الدولة ليست مجرد مؤسسة فقط أو مجرد تركيب، بل هي مركب علاقات معقد خلقته اختلافات وصراعات العلاقات الاجتماعية وأشكال التنظيم الاجتماعي المتطابقة معها”.

بينما ينحى الدكتور أبكر آدم إسماعيل، منحىً ثقافياً في تعريفه لعلاقات المجتمعات السودانية مع الكائن المسمى الَّدولة، ويقول “إن السُّودان دولة مصنوعة وقصيرة التجربة – أقل من قرنين منذ قيام الدولة الحديثة فيه – وهذه الدولة الحديثة مجرد شكل تم إلباسه على مجتمعات تقليدية مختلفة ثقافياً، ومتفاوتة تاريخياً تم جمعها حسب مقتضيات خارجية متمثلة في مصالح الاستعمار وتوجهاته في الأساس، ولما ذهب الاستعمار خلف شكل الدولة وراءه لهذه الكيانات للتنازع حوله كل بأسلحته القديمة، التي ليس ن بينها مالك لأفق يستوعب ضرورة التوازن من أجل التعايش السلمي”.

إنَّ الدولة بمعناها المفاهيمي والوظيفي، عبارة عن كيان محدد، يقع داخل رقعة جغرافية يسكنها أناس يحملون موروثاً حضارياً مشتركاً، ويوحدهم المصير، والمستقبل، والمصالح المشتركة، ويمكن تحديد هوية هذا الكيان بمدى فاعليته في رسم خطوط هندسة اجتماعية، تضع حدوداً بين الهياكل المعنية بالتشريع، والقضاء، والحكم، والخدمات، وتوفير الأمن، للأفراد، والمجتمعات في داخل هذا الكيان، وفض النزاعات فيما بينهم، ويشترط لفاعلية هذا الكيان هيكلته على أسس ديمقراطية، تراعي قيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وتوفر شروط الحرية، للجميع، دون تحيز إثني، أو ديني، أو طبقي.

نجد أنه بمفهوم الدولة الحديثة أن ثمة أحداثاً متتالية فضحت هشاشة ما يمكن تسميته “دولةً ” في السودان، ومن ضمن هذه الأحداث؛ انفصال الجنوب في يناير 2011، وتفاعلاته وكشف مقدار شرخ الوجدان الجمعي، واقتراب انسداد المعبد فوق رؤوس الجميع، هذا يمكن الانتباه إليه كذلك في سلسلة الحروب المستمرة منذ عشية ” الاستقلال ” في عام ١٩٥٥ في مناطق الجنوب الجديد بالنيل الأزرق، وجنوب كردفان، ودارفور، وشرق السودان نهايةً بالحرب العبثية الحالية، وهو أمرٌ جدير بالتوقف عنده، لماذا الحروب المتكررة؟ ولماذا الفشل في استدامة نظام سياسي، رغم مرور سبعة عقود على” الاستقلال؟

لم يعرف السودان عبر تاريخه مفهوم الدولة القومية بمؤسساتها الحديثة، إلا في القرن التاسع عشر، حيث بدأت في التشكُّل مع بدء الحملة التركية المصرية لاستعمار السُّودان من أجل “المال والرجال”، وكانت الأرض الممتدة من جنوب مصر حتى حدود كينيا وأوغندا جنوباً، وإثيوبيا وإريتريا شرقاً، وتشاد وليبيا غرباً عبارة عن دويلات صغيرة، مثل السلطنة الزرقاء، وسلطنة الفور، والمسبعات، وفي غرب البلاد نشأت سلطنة الفور في الفترة من 1445 م – 1874 م”، وظلت وحدة منفصلة لا رابط قومياً لها مع الشرق والشمال والجنوب، وظلت السلطنة عصية على الاستعمار لأكثر من عشرين عاماً، حتى تمكن الزبير باشا “أحد تجار الرقيق المشهورين في مناطق بحر الغزال من هزيمة الفور وضم سلطنتهم “رمزيا”.

دخل الأتراك والمصريون السودان سنة ١٨٢١، وفشل الاستعمار التركي صعوبات في بناء دولة حديثة فوق أرض بلاد مترامية الأطراف، متنوعة المناخات، ومختلفة التضاريس، إلا أن الأتراك أسسوا نظماً إدارية باستجلاب موظفين وعمال أوروبيين، وأتراك، ومصريين، كما اعتبروا اللَّغة التركية لغة التواصل والعمل، مع وجود ضعيف للّغة العربية.

تفجَّرت الثورة المهدية سنة 1881، كحركة مقاومة شعبية، ونجحت في توحيد قطاعات واسعة من السودانيين تحت زعامة الإمام محمد أحمد المهدي، الذي توفي بعد أن أنهى الحكم التركي بعد أشهر قليلة ليخلفه خليفته عبد الله التعايشي، وقد اختلفت أسباب إخضاع المهدي للمجموعات المتباينة تحت سيطرته، مع التأكيد أنه لم يكن يحمل مشروعاً وطنياً يحدد شكل الدولة وطبيعتها وحقوق المجموعات الإثنية.

كانت أبرز ملامح الفترة المهدية قيام دولة إسلامية ضعيفة فاقدة السيطرة على الأطراف وسط حروبات أهلية، ونمو صراع ذي منحى عنصري قائم على ثنائية “الأشراف”، و” الغرابة” أو ” أولاد البحر”، و”أولاد الغرب”، وهي نزعة تعكس ثنائية مستمرة في السودان، وبالطبع فإن الخليفة التعايشي فشل في فرض سلطته المركزية؛ بسبب الحروب الداخلية والخارجية.

لقد أمضى الخليفة عبد الله، معظم فترة حكمه في خوض حروبٍ داخلية بغرض إجبار مجموعات قبلية للإذعان لحكمه ولفكرة المهدية، لقد حارب الخليفة الكبابيش، والداجو، والمساليت، والفور، هذا عدا خلافاته الكبيرة مع “الأشراف”” وبالرغم من يمين الولاء الذي أقسمه كل من “الأشراف” و”أولاد البحر” فإنهم لم يكونوا مستعدين للمرة بقبول حكم الخليفة عبد الله، وبادروا على الفور بالتآمر والإطاحة به باستدعاء جيش المهدي الكبير في الغرب بقيادة محمد خالد، وهو دنقلاوي من أولاد البحر، وابن عم المهدي، ومن ناحية الخليفة قد تحرك بحزم حيث عزل خالد، وأمن الجزيرة بإمدادها من الجنوب أم درمان.

كما سعى الاستعمار البريطاني المصري لتوطيد أركان حكمه إلى ترسيخ القبلية، وإثارة العنصرية الموجودة أصلاً ما بين الشماليين أنفسهم، أو بين الشمال والجنوب بواسطة سياسات “الأرض المقفولة”، وقد كان السير هارلود مايكل، السكرتير المدني البريطاني في الفترة من 1924- 1934، هو من نصح الحاكم العام السير جون مافيري بضرورة حكم السودان من بعد، بدعم السلطات المحلية والقيادات التقليدية.

نال السودان استقلاله في يناير 1956 م على طبق من ذهب “و” صحن صيني ما فيهو شق، ولا طق” على حد توصيف السيد إسماعيل الأزهري أول رئيس سوداني، وكان الاستقلال نتيجة موازنات دولية دفعت بريطانيا بالتخلي عن عدد من مستعمراتها، ومن ضمنها السودان، وتم ذلك دونما تضحية كبيرة إلا من تحركات معزولة هنا وهناك أكبرها ثورة اللواء الأبيض في سنة 1924، وما أفرزته من إشكالات الهوية، ومأزقها، الذي أراده بعض النخبة ” باسم الشعب العربي”، فيما أصر علي عبد اللطيف بجذوره الأفريقية، ” الشعب السوداني النبيل”.

خرج الاستعمار، وخلف وراءه دولة “كولونيالية” هشة المشاعر الوطنية، ومضطربة الهوية، ويرى البروفيسور تيسير محمد أحمد علي في ورقة بعنوان “السودان…. الاستقلال ومأزق المشروع الوطني” في غالب الأحوال ما يكون الاستقلال المرحلة الأولى في عملية البناء الوطني، مربوطة بالشعور بنمو الحقوق السياسية والتحرر من السيطرة. ولا بد أن يتضمن، ليس فقط التخلص من المستعمر، بل التحرر الكامل من كافة العلاقات، والبنى، والهياكل، وحتى المفاهيم التي خلفها المستعمر، واستبدالها بأخرى تأطر لمشروع وطني كامل يقابل احتياجات الشعب والدولة المستقلة”.

وفي ذات السياق يرى الدكتور حيدر إبراهيم “لم يهتم السودانيون بعد الاستقلال ببناء دولتهم الوطنية، والتي كان لا بد أن تكون دولة وطنية، ديمقراطية، تعددية الثقافات، وعلمانية أو مدنية، ولكن السودان خضع لعملية طويلة ومركَّبة لتوظيف الدين سياسياً، ابتدرته القوى الطائفية التقليدية، وأكملته قوى جديدة محافظة” الإخوان المسلمون بمسمياتهم السودانية المختلفة، ومع زج الدين في السياسة وجعله أساساً ممكناً لأي دولة سودانية قادمة، كانت هذه مقدمة لتهميش كل العناصر غير المسلمة واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وفي هذا التوجه، وأد لفكرة الدولة الوطنية الموحدة، ومن هنا أسس حكم الإسلامويين بقصد، أو لا وعي – للتفكك الحتمي للدولة السودانية قبل أن يكتمل بناؤها الذي تعطل منذ الاستقلال”.

ورث السودانيون دولتهم المصنوعة من البريطانيين، فعلى مستوى نظم الحكم، لا نزال ندور في حلقةٍ جهنمية، ودائرةٍ شريرة، ويقتنص الجيش من سنوات الحكم حوالي (٥٧) سنةً من عمر الدولة، وأصبح حزباً مسلحاً، أو جناحاً عسكرياً لفئة سياسية، فشغل نفسه بالتجارة والتسابق نحو كراسي الحكم، فبلغت عدد الانقلابات العسكرية أكثر من عشرين محاولةً؛ كأكبر عددٍ انقلابات تشهدها أفريقيا، ويحل السودان عالميا في المرتبة الثانيةً بعد بوليفيا، فيما تعاني القوى السياسي من حالة كساح أعجزتها من الممارسة الديموقراطية الحقة، وأغرقت نفسها في “الديموقراطية الإجرائية”.

واستمرت ذات السياسات الاستعمارية اقتصادياً، إذ لا نزال نزرع الأقطان، ونصدرها إلى الصين، ونستورد في ذات الوقت الجلاليب والثياب، ونصدر الماشية الحية، ونستورد منتجاتها أحذيةً وحقائبَ جلدية، ونصدر السمسم والفول، ونستورد زيوتاً وأعلافاً وطنية.

وعلى المستوى الإداري لا نزال نحتكم في الأطراف والهوامش إلى إرادة الإدارات الأهلية والزعامات القبلية بذات طريقة إدارة المستعمرين الذين فضلوا منح الامتيازات لتك القيادات وتوكيلها للحكم بالإنابة.

تواصلت الحروب في السودان؛ إلا أن الحرب الأخيرة كانت قشةً قصمت ظهير بعير دولة مصنوعة، فاقدة للأوتاد مع كثرة الزوابع التي تواجهها، ويكفي الإشارة إلى ترك أكثر من ربع السكان منازلهم وقراهم ومدنهم، مولين هاربين إلى جبالٍ تأويهم من طوفان جرائم المتقاتلين، لا سيما قوات الدعم السريع، وأصبحت الخرطوم خاوية على عروشها تسكنها الأشباح، لدرجة عجز قادة الطرفين المتقاتلين في العيش تحت ركامها، وانهار مع ذلك القطاع الصحي العليل، والتعليمي الكسيح، وقطاع الخدمات الهش.

وفضحت كذلك ضعف مخيال النخب التي توارثت حكم هذه البلاد بلا خطط تنموية في الأصقاع النائية وحتى القريبة من مركز القرار والخدمات وجذب الناس، فلا مدارس في الأقاليم تكون بديلةً لطلاب المناطق المتأثرة بالحرب، ولا بنى تحتية تستضيف طلاب الجامعات، ولا ملاعب رياضية حتى صارت أنديتنا الرياضية ومنتخباتنا الوطنية معلقةً بين أجواء جوبا ونواكشوط وطرابلس ودار السلام.، وكشفت وجهاً قبيحاً للإنسان السوداني تمثل في محاولات الاستغلال الفاحشة للنازحين والباحثين عن مساكن تأويهم من خطر التسول وكارثة النزوح، حيث ضرب كثيرون ما كنا نحبه من قيم التكافل والمحبة والترابط الاجتماعي بيننا كسودانيين.

لقد بيَّنت حرب أبريل عمق أزمة الدولة الوطنية وضعف الرابط القومي، وانتزعت ورقة التوت عن بعض من الاستحياش المتخبئ وراء سماحة زائفة مثل شهادات تسنينا، واستسهال القتل والنهب وانتشار خطاب الكراهية، ونتج هذا بسبب فقدان مشروعٍ وطني يكون معبراً عن الجميع ثقافياً وروحيا، ومادياً، بل إن الحرب اللعينة أوضحت وهن الكيان الجغرافي الجامع، بهياكله المتحللة، وأكدت أنَّ السُّودان لا يزال كياناً أُلبس لباس الدولة الحديثة قسراً.

الوسومفائز السليك

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الدولة الحدیثة

إقرأ أيضاً:

محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..

مهدي رابح

حسبو محمد عبد الرحمن، القيادي في المؤتمر الوطني، نائب رئيس الحركة الإسلامية ونائب رئيس الجمهورية واللواء في جهاز الأمن.. كل ذلك سابقاً طبعاً، وحاليا احد قيادات الدعم السريع وعقولها المدبرة.
هذه الشخصية المفصلية في الأزمة الحالية لن تجد لسيرتها أثرا تقريبا في الخطاب السائد من كلا طرفي الحرب، بل لن تجد لها أثرا حتي في الخطاب الذي يناهض استمرارها ويسعى لإيقافها..
والسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا؟
في تقديري لأن ذلك يتناقض مع السرديات التبسيطية السائدة حاليا، ويكشف حجم التعقيد الذي تتسم به ازمتنا وصعوبة تعريفها تعريفا صحيحا، بكافة مستوياتها..
وبذلك أعني، وفي المستوى الأول، أن الحرب الحالية هي دون شك صناعة إسلاموية بامتياز بدأت منذ استيلاء الاسلامويين على الحكم بانقلاب عسكري عام 1989م، وبناءهم لنظام سياسي قائم على الاستبداد والقمع والفساد والافلات من العقاب، ثم نهبهم لثروات السودان وتدمير وتسييس مؤسساته وعلي راسها القطاع الامني والعسكري والعمل علي زرع الفتنة بين مكونات المجتمع المختلفة بتزكية الدوافع الاثنية والجهوية، وانشائهم لقوي مسلحة موازية أبرزها الدعم السريع نفسه.
وهو ما يفسر الوجود القوى للاسلامويين في صفوف الأخير وان كان أقل تأثيرا من وجودهم في الجانب الآخر، اي اصطفافا مع الجيش.
أي أن هذه الحرب هي صناعة إسلاموية لم تبدأ باطلاقهم الرصاصة الأولي في 15 ابريل 2023 ولن تنتهي غدا صباحا.
المستوي الثاني هو أن أحد عناصر هذه الحرب الاساسية هي تقاطع المصالح المادية و الصراع على الثروات بين مجموعات محدودة من النافذين. فهي نتاج لانفجار التناقضات والتنافس المتصاعد داخل الكارتيل الاحتكاري اللصوصي، الذي انقلب على ثورة ديسمبر بانقلاب أكتوبر 2021… والذي ضم بجانب بعض الانتهازيين من المدنيين، قيادات الجيش والدعم السريع والاسلامويين وبعض الحركات المسلحة، التي انضمت لهذا لكارتيل بعد الثورة..
اما المستوى الثالث فهو التدخل الخارجي، وبالاخص لدول الجوار الإقليمي، والذي اتخذ طابعا سافرا ظهرت ملامحه منذ عام 2019م، وما نتج عنه من مجزرة بشعة ضد المعتصمين أمام القيادة العامة وما تلي ذلك من انقلاب ثم تمويل ودعم طرفي الحرب حتى اليوم.. فهو صراع غير معلن بين قوى إقليمية تسعى استراتيجيا للسيطرة على السودان عبر وكلائها – ابرزها بالطبع قيادات الجيش والدعم السريع – من أجل تأمين نصيبها من تدفق مياه النيل وتعظيمه أو وضع يدها على منافذ تطل على البحر الأحمر أو على الثروات الطبيعية الهائلة التي تعج بها هذه البلاد المكلومة، او بالمقابل، وفي حال بع الدول الجارة، منع الدول المنافسة لبلوغ الأهداف المذكورة أعلاه.
إن التعريف الصحيح للأزمة يساهم في إيجاد الحلول الصائبة والمستدامة، أي تلك التي تتجاوز الوقف المؤقت والهش للقتال إلى آفاق بناء الدولة.. تلك الدولة التي لم تحظى بها الشعوب السودانية اصلا منذ الاستقلال، اي الدولة التي توفر الأمن والاستقرار والحرية والكرامة لكافة أفرادها بالتساوي.
وذلك يتطلب أن نحدد كل العناصر التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق ذلك – أي الوصول إلى سلام مستدام يمهد لبناء الدولة المنشودة – علي رأسهم الاسلامويين كعنصر مشترك ثابت، لكن أيضا قيادات الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة وتجار الحرب من جهة ومن الجهة الأخرى القوي الاقليمية التي تتحمل وزر هذه المأساة بنفس القدر.
ان اي مقاربة للحل لا تتضمن كيفية التعامل مع العناصر الأخرى لمعادلة الدمار التي تحدث في السودان يعني تطاول أمد الحرب وتعمّق آثارها الإنسانية المروِّعة .
بإستعارة مقولة غرامشي الشهيرة يمكننا أن نختم بالقول إن
“السودان القديم انتهى والسودان الجديد تأخّر في الظهور … وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش.”
وهي في حقيقة الأمر وجوه أو رؤوس متعددة لوحش واحد، ظل يتغذى علي الجهل والفقر والعنف والفساد والظلم الاجتماعي لمدى ستة عقود. ولن يقضي عليه قطع رأس واحدة لأنه سينمو في مكانه رأس جديد كما التنين في الأسطورة السومرية القديمة.

الوسوممهدي رابح

مقالات مشابهة

  • سقوط هجليج
  • عاجل. ماذا يعني إعلان استقلال منطقة القبائل عن الجزائر؟ هل يؤثر مشروع الماك على أمازيغ شمال إفريقيا؟
  • مدبولي يؤكد دعم الدولة لمختلف المشروعات الثقافية المتنوعة التي تستهدف تقديم الخدمات خاصة للشباب والنشء
  • محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..
  • رئيس الدولة ونائباه يهنئون رئيس كينيا بذكرى استقلال بلاده
  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة
  • حرب السودان تخرج عن السيطرة
  • الإمارات: الحرب في السودان بلا منتصر والإغاثة يجب أن تتدفق دون عوائق
  • الإمارات تؤكد على أولوية التوصل لهدنة إنسانية فورية بالسودان
  • رئيس الدولة ونائباه يهنئون رئيس بوركينافاسو بذكرى استقلال بلاده