سودانايل:
2025-07-06@10:08:02 GMT

قصة قصيرة: [الكرّٓبة]

تاريخ النشر: 6th, January 2025 GMT

بقلم / عمر الحويج

أفراح هذه القرية تبدأ عادة لحظات وداع الشمس، ولكن في ذلك اليوم خالف أهل تلك القرية هذه العادة، وهو حدثٌ سيظلّ يذكره الناس ما عاشوا.. تعوّدَت بت دقلولة أن تصحو مع الصيحة الأولى للدّيكة ولكن في ذلك اليوم، وهي في نومها سمعت خبطات على الدَّلُّوكَة، رفعت رأسها إلا أنها عادت مرة أخرى إلى النوم، ولكنها هذه المرة أدخلت معها ذكريات عرسها، ابتسمت خجلة، وهي تذكر أنها رقصت أمام الناس عاريةً إلا من الرَّحَط ذي السّيور المتفرّقة، وحتى نهديها لم يسترهما ساتر، لو شاهدها آخر في هذه اللحظة لوجدها وقد شبكت يديها حول صدرها، والجزء الآخر من منطقة الخجل فيها، وكأنها في هذا العمر تخاف من عيون الناس.

الشيء الذي لم تفهمه، فأصبح دهشتها الدائمة، نساء هذه الأيام لم يفعلن مثل ما فعلنه في زمانها، بالرغم من ذلك سمعَت أن الرجال في “البَنْدَر” يضربون المرأة التي تعرِّي جزءاً من ساقيها!!. هذه المرة قفزت مذعورةً وكأن الصوت قد أتى إليها من تحت العَنْقَريب، أعقبته دقّات الشَّتَم، فتمتمت بصوتٍ عالٍ، بسم الله الرحمن الرحيم، يا حامد ابْ عصاةً سيف، وتذكرت، قبل أيام قال لها محمود ود بابكر أن طاحونة العمدة، قامت بَرَاها تكَرْكِب نُصّ الليل، يا حمد الرباع ولادك السُّراع، وهي لا يغباها أن ذلك الليل هو الذي يبيت فيه الأسطى ود عجيب مع أهله في الشرق، لكي يجهز لهم حاجيات السبوع من (سوق التلاتة)، قطع عليها تخيلاتها عثمان ود الحداد، وقد وقف فوق رأسها حاملاً بين يديه (السقو). في لحظة مرت بخاطرها كل فتيات القرية، توقفت عند كل واحدة منهن ولكنها أبداً لم تجد إحداهن قد حددوا لها زواجها في هذا اليوم. نظرت إلى ود الحداد مرة أخرى، تأكدت أنه (السقو)، نظرت إليه مندهشةً، مستفسرةً فهي تعرف أن ود الحداد “جلدوا حلو ما يملأ السقو مويه أكان كسروا رقبته”، ولكن لخيبتها تركها ود الحداد لحيرتها ودهشتها وهرول خارجاً وهو يقهقه بصوت عال حين تأكد له أنها قد استيقظت تماماً، نهضت من رقدتها، وبعجلة غير معهودة فيها كَرَبَتْ قُرْقَابها، فهي منذ زواجها وهي تعمل بنصيحة أمها، أن لا تَكْرُب بطنها عند النوم، فالزوج لا يحب أن يبحث عن موضعه كثيراً. في لحظات كانت خارج الحوش، تذكرت أنها تركت ود عاشّة المرحومة نائماً، فانقبض قلبها، فهي أبداً لم يحدث منذ أن ماتت أمه يوم ولادته أن تركته خلف بالها، عادت إليه مرة أخرى ولكنه كان نائماً، وصوت دقّات الدَّلُّوكَة في الخارج يزداد، والسؤال، في شنو يا ربي؟؟، يمنع لحظة اختراق الصوت إلى أذنيها، لن توقظه، هكذا قررت لتذهب وتقف أمام الباب، فيكفي هذا لتعرف ماذا هناك، حملت معها (البَنْبَر) فالمسافة ليست بعيدة يمكنها أن ترى وهي في مجلسها قرب الباب، تعلقت نظراتها حيث (شجرة الدَّلُّوكَة)، أهل القرية كلهم يعبرون من عندها مهرولين إلى هناك، ازدادت دهشتها، هؤلاء الناس حتماً كانوا يعرفون، شجرة الدَّلُّوكَة مكتظة بالناس، برغم قصر نظرها وضعفه، فهي تستطيع أن ترى حتى الغبار المتطاير من جراء (العَرْضَة) التي يمارسها الصبيان، يمكنها من مجلسها أن تخمن الراقصة، فهذا هو ابَّشَر ود علوية لا يفارق الدائرة، حتى طاقيته المنسجة الحمراء لا يقرّ لها قرار، حتماً التي ترقص هي الشول بت أحمد، حقاً إنها جميلة، لا يطالها غير ابَّشَر زينة شباب القرية، من حنجرتها كادت تنزلق زغروده، ولكن احتبستها ذكرى، المسكين هي “رايداهو”، لكن ما في طريقة مع أبوها العمدة، القال داير يعرسها لي الوليد المفيعيص بتاع البندر الجابوه حكيم في الشفخانة، قال شنو؟، عشان عالجه من مرض الـ… ، أهه… هو عاد والله غاشِّيْهُ ساكت، المرض ده من وِعينا وفتَّحْنا، سمعنا قالو ده ما مرض حُكَمَا، أخير ليه كان اتيقن، وعرّس البت وشاف جديدها، قبل ما يفوت الفوات، آها كمان جاء الصعيليك ود الرجف الله “ماكل” الناس خشم ساكت، ليلو يجُوْغِر في المريسة، والأم بي هناك تسقي في الناس العَرَقِي، نوع ده يسو ليهو شنو؟، ما في بت تقوم ترقص أكان سمحة كان شينة، هو طالع فوق أكاتفين الصبيان، بس شوفوني، أهه عاد، الفيهُ حُرْقُصْ بَرَاهو بِرْقُص. صراخ حفيدها يجعلها تتوقف عن المتابعة، والناس ما زالت تتقاطر حيث شجرة الدَّلُّوكَة، تلملم ثوبها وتهرول إليه، تراه يبحث في الظلام عنها، يشتد صراخه، حين يجدها غير موجودة بالقرب منه. يصمت فجأة حين تمسك به وتحمله، يدعك عينيه حين تصطدمان بالضوء خارج الغرفة تجلس به على البنبر، يحس بما يجري حوله، يمسك بها من طرف ثوبها، يريدها أن تذهب به، ولكنها متأكدة من أنه لم يكمل نومه، وهذا ما يقلقها، يُمَّة في شنو؟، تمتم بها في غضب حين أحسّ أنها تجاهلت رغبته. تعال اطلع ارقد فوق “سَدْرِي” أكلمك بالفي، يستجيب لرغتبها في سرعة أدهشتها، وهي التي تعرف مدى عناده وتلفَّتت بحثاً عما تقوله، فهي نفسها لا تعرف ماذا حدث، ولكن يجب أن يكمل نومه، ضمَّته إلى صدرها في حنان وبدأت تهتز به إلى الأمام تارة وإلى الخلف أخرى، وهو لا يزال مستكيناً لها، مبحلقاً بعينيه إلى فمها، منتظراً منها أن تتكلم، نظرت إلى شجرة الدَّلُّوكَة التي لم تعد تسع كل الموجودين، وفي رأسها صورة عثمان ود الحداد وهو يحمل (السقو ) لأول مرة، وهي ما زالت مندهشة، والطفل يبحلق فيها بعينيه الناعستين، تنظر إليه وتبتسم: قالوا كان في بلد زي بلدنا دي، كَرَبَة كبيرة ليها كرعين ما بنعدّن وخشماً واسع ما بتوصف، مليان سنون. الكربة دي قعدت تعضِّي في الناس، بالزمن الما شوية والتَّعَضِّيهو الكَرَبَة تقعد تشرب من دمه.. تشرب من دمه، لا من يقع ناشف، وقدر ما حاول أهل البلد دى يقتلوا الكَرَبَة ما قدروا عليها، وهي تعضِّي في الناس، والناس تموت من العض، لغاية ما جاء واحد، قالوا عليه ساحر، قال ليهم الكَرَبة دي ما بتموت إلا نامن تسمع نهيق حمار الوحش… ما صدقوه في الأول.. ضحكوا، لكن وكت العض كتر، والموت ملا البلد، مرق صبيان القرية وقِدَّامُن الساحر وبقوا يفتشوا لي حمار الوحش وبعد تعب وعطش وموت لِقُوه…ولمن دخل البلد ونهق أكان الكَرَبَة وقعت ميتة، واتلمّ اليوم داك الناس في شجرة.. ذي شجرتنا دي، وقعدوا يرقصوا ويغنوا ويعرضوا.. و.. ونظرت إلى الطفل، فإذا به قد أغمض عينيه ونام، حملته بهدوء ودخلت به إلى الغرفة لتضعه على عنقريبه وأصوات الدَّلُّوكَة ترتفع اكثر… ودقات الشَّتَم تعلو… وهي حتى الآن لم تعرف ماذا حدث، لكن وكت الولد صحى مرة ونام تاني، ما أظن يصحى بعد ده.. اللَّمْشِي أشوف الناس ديل مالُن… وتضع من فوقه ثوبها القديم، حتى تطمئن أكثر، ثم بعدها تهرول إلى الخارج، ولا يزال السؤال في شنو يا ربي؟؟… يمنع لحظة، اختراق صوت دقات الدَّلُّوكَة إلى أذنيها.

omeralhiwaig441@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الک ر ب

إقرأ أيضاً:

غريب هنا غريب هناك

سالم بن نجيم البادي

 

  قلق على قلق وكأنه ريشة في مهب الريح تتلاعب به أفكاره الهادرة   ويردد: لا الزمان  زماني ولا المكان مكاني، غريب وأنا بين قومي، وأفكاري لا تنسجم مع أفكارهم، من المخطئ، أنا  أم هم؟

روحه تائهة ونفسه تحثه على الرحيل، وحين يرحل يتضاعف لديه  وجع الشعور بالغربة ويرغب في أن يعود سريعا.

لكنه يتذكر ذلك التصادم بينه وبين الناس في المجتمع الذي يعيش فيه، وفي الغربة تعتريه مشاعر جارفة من الندم، لأنه سافر ويخالجه ذلك الشعور المر بالخذلان، ويخيل إليه أنه محارب من الجميع، ويقرر البقاء لكن شعور الغربة لا يفارقه، وحين يسافر يختار المدن العالمية الأكثر شهرة، يريد أن يداوي جروح نفسه بالهروب المستمر، هروب يتبعه هروب، وعودة ثم هروب، ومشكلته عجزه عن الانسجام مع الناس في مجتمعه.

وفي السفر يمارس هوايته القديمة، التسكع في قلب المدن التي يزورها، ويخالط الناس في الشوارع الخلفية، يبحث  عن الفقراء والباعة الذين يفترشون الأرصفة ومن لا مأوى لهم، ويزور الأحياء الفقيرة والمدن المهمشة والأقليات، يبحث عن الإنسان المسحوق،  يجلس ساعات طويلة في المقاهي يراقب الناس ويزور المتاحف والمسارح ودور السينما والمكتبات والمباني التاريخية.

ومع أنه يتأبط قلقه، لكن يرفض أن يعيش حياة ماجنة، فلا كأس ولا غانية ولا حتى علبة سيجارة، يبتعد عن الحانات والملاهي ودور البغاء، مع أنهم يتهمونه بذلك، ويعتقدون أن بعض الكتاب والشعراء  تستهويهم الحياة البوهيمية، يحمل مصحفا صغيرا يؤنس وحشتة بين الحين والآخر، ويمنحه لحظات من السكينة، وتفرح روحه إن عثر  على مسجد، ويصلي أحيانا في الحدائق العامة، ولا يحفل بنظرات الناس الذين يتجمعون حوله، ويستغربون من الحركات التي يفعلها وهو يصلي.

هو هارب من الناس، لكن هؤلاء لا يعرفونه ولا يعرفهم، وهو هنا ليتخلص من قيود العادات التي لا يستطيع ممارستها في  مجتمعه، حتى صار يستغرب من تمسك الناس بها، هو يعتقد أن بعض هذه العادات  ممجوجة، والناس يفعلونها على مضض، وقد تتحول إلى نفاق ورياء ومجاملة، ويستدل على ذلك بانتشار الغيبة والنميمة والحسد والتباغض عند الناس إلا من رحم الله، لقد خالط الناس كثيرا في بلده، وشاهد الغريب من أفعالهم، فهم أمامك يمارسون التقوى  والمودة وصفو الحديث، وما إن تغيب عن أنظارهم حتى يتحول ذلك النقاء إلى غيبة  شنيعة وأحاديث كاذبة وملفقة عنك، كان يعتقد أن هؤلاء ثلة قليلة، لكنه وللأسف الشديد اكتشف أن أعدادهم كبيرة، ويتحدث عن الزيف في المجتمع وضآلة الفكر، ومع كل ذلك هو يؤمن أن كل المجتمعات فيها الصالح والطالح ويلوم نفسه التي صارت غريبة داخل الوطن وخارجه، وقد يتصرف بحسن نية وبراءة، ويأتي بأقوال وأفعال يظنها عادية، ولكنهم يغضبون ويعدون ذلك خطايا لا تغتفر ويلحقون به الأذى الشديد.

لقد أضرَّ به كثيرا هذا الهوس بقراءة الكتب في الشعر والروايات والقصص والتاريخ والشريعة والقانون والسياسة  والفلسفة  والتربية وطرق تدريس المناهج الدراسية والإدارة التربوية والفنون التشكلية   والأغاني وتراث الشعوب المادي والمعنوي والأفلام التي تعرض في السينما والمسلسلات وإدمان متابعة الأخبار.

ولقد أرهقته أوجاع الإنسان في كل مكان، وهذه الحروب التي يكون وقودها البشر الأبرياء.

ولا عجب والحال هذه أن يشعر بالغربة في الحل والترحال وأن تتعمق الفجوة بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه.

 

لكن السؤال المحير الدي ظل يشغل فكره هو.. من المسؤول عن هذه الغربة، هو أم المجتمع؟

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • القرية التراثية بمنطقة جازان تحتضن “ثَقِّف 3”
  • غريب هنا غريب هناك
  • 1.5 مليون شجرة مثمرة.. تبوك تتصدّر إنتاج المملكة من العنب بنسبة 38%
  • تبوك تتصدّر إنتاج المملكة من العنب بنسبة 38% تحققها أكثر من مليون ونصف شجرة مثمرة
  • عبر أكثر من 1.5 مليون شجرة مثمرة.. تبوك الأولى بين مناطق المملكة في إنتاج أجود أصناف العنب
  • سورة قصيرة يوم عاشوراء بها ينزل الرزق طول السنة .. هل تعرفها؟
  • مصرع شخص سقط من أعلى شجرة مانجو بقنا
  • مصرع عامل سقط من شجرة مانجو فى قنا
  • عوض بابكر : رحيل من لا يُعوَّض
  • اعترافات فيلسوف جهادي