سالم بن نجيم البادي
قلق على قلق وكأنه ريشة في مهب الريح تتلاعب به أفكاره الهادرة ويردد: لا الزمان زماني ولا المكان مكاني، غريب وأنا بين قومي، وأفكاري لا تنسجم مع أفكارهم، من المخطئ، أنا أم هم؟
روحه تائهة ونفسه تحثه على الرحيل، وحين يرحل يتضاعف لديه وجع الشعور بالغربة ويرغب في أن يعود سريعا.
لكنه يتذكر ذلك التصادم بينه وبين الناس في المجتمع الذي يعيش فيه، وفي الغربة تعتريه مشاعر جارفة من الندم، لأنه سافر ويخالجه ذلك الشعور المر بالخذلان، ويخيل إليه أنه محارب من الجميع، ويقرر البقاء لكن شعور الغربة لا يفارقه، وحين يسافر يختار المدن العالمية الأكثر شهرة، يريد أن يداوي جروح نفسه بالهروب المستمر، هروب يتبعه هروب، وعودة ثم هروب، ومشكلته عجزه عن الانسجام مع الناس في مجتمعه.
وفي السفر يمارس هوايته القديمة، التسكع في قلب المدن التي يزورها، ويخالط الناس في الشوارع الخلفية، يبحث عن الفقراء والباعة الذين يفترشون الأرصفة ومن لا مأوى لهم، ويزور الأحياء الفقيرة والمدن المهمشة والأقليات، يبحث عن الإنسان المسحوق، يجلس ساعات طويلة في المقاهي يراقب الناس ويزور المتاحف والمسارح ودور السينما والمكتبات والمباني التاريخية.
ومع أنه يتأبط قلقه، لكن يرفض أن يعيش حياة ماجنة، فلا كأس ولا غانية ولا حتى علبة سيجارة، يبتعد عن الحانات والملاهي ودور البغاء، مع أنهم يتهمونه بذلك، ويعتقدون أن بعض الكتاب والشعراء تستهويهم الحياة البوهيمية، يحمل مصحفا صغيرا يؤنس وحشتة بين الحين والآخر، ويمنحه لحظات من السكينة، وتفرح روحه إن عثر على مسجد، ويصلي أحيانا في الحدائق العامة، ولا يحفل بنظرات الناس الذين يتجمعون حوله، ويستغربون من الحركات التي يفعلها وهو يصلي.
هو هارب من الناس، لكن هؤلاء لا يعرفونه ولا يعرفهم، وهو هنا ليتخلص من قيود العادات التي لا يستطيع ممارستها في مجتمعه، حتى صار يستغرب من تمسك الناس بها، هو يعتقد أن بعض هذه العادات ممجوجة، والناس يفعلونها على مضض، وقد تتحول إلى نفاق ورياء ومجاملة، ويستدل على ذلك بانتشار الغيبة والنميمة والحسد والتباغض عند الناس إلا من رحم الله، لقد خالط الناس كثيرا في بلده، وشاهد الغريب من أفعالهم، فهم أمامك يمارسون التقوى والمودة وصفو الحديث، وما إن تغيب عن أنظارهم حتى يتحول ذلك النقاء إلى غيبة شنيعة وأحاديث كاذبة وملفقة عنك، كان يعتقد أن هؤلاء ثلة قليلة، لكنه وللأسف الشديد اكتشف أن أعدادهم كبيرة، ويتحدث عن الزيف في المجتمع وضآلة الفكر، ومع كل ذلك هو يؤمن أن كل المجتمعات فيها الصالح والطالح ويلوم نفسه التي صارت غريبة داخل الوطن وخارجه، وقد يتصرف بحسن نية وبراءة، ويأتي بأقوال وأفعال يظنها عادية، ولكنهم يغضبون ويعدون ذلك خطايا لا تغتفر ويلحقون به الأذى الشديد.
لقد أضرَّ به كثيرا هذا الهوس بقراءة الكتب في الشعر والروايات والقصص والتاريخ والشريعة والقانون والسياسة والفلسفة والتربية وطرق تدريس المناهج الدراسية والإدارة التربوية والفنون التشكلية والأغاني وتراث الشعوب المادي والمعنوي والأفلام التي تعرض في السينما والمسلسلات وإدمان متابعة الأخبار.
ولقد أرهقته أوجاع الإنسان في كل مكان، وهذه الحروب التي يكون وقودها البشر الأبرياء.
ولا عجب والحال هذه أن يشعر بالغربة في الحل والترحال وأن تتعمق الفجوة بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه.
لكن السؤال المحير الدي ظل يشغل فكره هو.. من المسؤول عن هذه الغربة، هو أم المجتمع؟
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
حسينا باهتزاز غريب.. كواليس مرعبة في غرق حفار بترول بخليج السويس
تتواصل في مياه خليج السويس جهود البحث والإنقاذ عن ثلاثة أفراد لا يزال مصيرهم مجهولًا بعد غرق الحفار البحري "أدمارين 12"، التابع لشركة "أديس القابضة"، في حادث مأساوي وقع أثناء قطر الحفار إلى أحد المواقع التشغيلية الجديدة شمال البحر الأحمر. وبرغم مرور أكثر من 72 ساعة على الحادث، لم تسفر عمليات التمشيط الدقيقة حتى الآن عن أي مؤشرات لوجود ناجين إضافيين.
السلطات المعنية، بالتعاون مع فرق الإنقاذ المتخصصة بشركة "جابكو"، تواصل جهودها على مدار الساعة مستخدمة كافة الوسائل البحرية والتقنية، وسط ظروف بيئية وبحرية توصف بالمعقدة. وتشير المعلومات الأولية إلى أن الحفار كان في وضع حركة طبيعي عندما وقع الحادث، في منطقة ذات أعماق متفاوتة وتيارات قوية.
وأكد اللواء عمرو حنفي، محافظ البحر الأحمر، أن التحقيقات بدأت بالفعل لتحديد الملابسات الدقيقة للحادث، موضحًا أن الواقعة حدثت خلال لحظات قصيرة حالت دون قدرة الطاقم على تنفيذ أي إجراء وقائي. وأضاف أن لجنة فنية مختصة باشرت مهامها لكشف أسباب الحادث، مشددًا على أن التنسيق مستمر بين الجهات المختصة لتقديم الدعم اللوجستي والفني لفرق البحث.
وفي روايات مؤلمة أدلى بها بعض الناجين، أشاروا إلى أنهم لم يتلقوا أي إنذار قبيل الغرق. وقال أحدهم: "كل شيء كان يسير بشكل اعتيادي، ثم شعرنا باهتزاز غريب تلاه ميل مفاجئ للحفار، وفي ثوانٍ كنا في المياه نحاول النجاة". وأضاف آخر: "تكاتفنا وسط الموج إلى أن وصلت فرق الإنقاذ وسحبتنا إلى سفن الدعم القريبة"، مشيدًا بسرعة الاستجابة ومهنية فرق الإنقاذ التابعة لـ"جابكو".
وعلى صعيد الإجراءات القانونية، أصدرت نيابة البحر الأحمر تصريحًا بدفن جثامين أربعة من الضحايا الذين تم انتشالهم في وقت سابق، بعد إتمام عمليات التشريح والمعاينة، وهم من محافظات الغربية والقاهرة وقنا والإسكندرية. وقد تسلّمت العائلات الجثامين وسط أجواء من الحزن العميق.
يُذكر أن الحفار "أدمارين 12" كان على متنه ثلاثون شخصًا عند وقوع الكارثة، وتمكنت فرق الإنقاذ من انتشال 22 منهم أحياء، بينما تأكدت وفاة أربعة، ولا يزال البحث جارٍ عن الثلاثة المفقودين، وسط تضامن واسع ومتابعة دقيقة من الأجهزة المعنية في الدولة.