عقوبات جديدة.. كيف تؤثر على إمدادات نفط روسيا للصين والهند؟
تاريخ النشر: 12th, January 2025 GMT
الاقتصاد نيوز - متابعة
قال متعاملون ومحللون في تقرير لوكالة رويترز إن شركات التكرير الصينية والهندية ستشتري كميات أكبر من النفط من الشرق الأوسط وأفريقيا والأميركتين، مما سيرفع الأسعار وتكاليف الشحن في وقت ستكبح فيه عقوبات أميركية جديدة على شركات إنتاج النفط والناقلات الروسية الإمدادات إلى كبار عملاء موسكو.
وفرضت وزارة الخزانة الأميركية، الجمعة، عقوبات على شركتي إنتاج النفط الروسي غازبروم نفت وسورجوت للنفط والغاز إضافة إلى 183 ناقلة تعمل في شحن النفط الروسي، مستهدفة عوائد تستخدمها موسكو لتمويل حربها مع أوكرانيا.
واستخدمت روسيا الكثير من تلك السفن لنقل النفط إلى الهند والصين بعد أن أدت عقوبات غربية وسقف أسعار فرضته مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في 2022 إلى تحويل مسار تجارة النفط الروسي من أوروبا إلى آسيا. كما نقلت بعض تلك السفن النفط من إيران الخاضعة أيضا للعقوبات.
وقال مصدران تجاريان صينيان لوكالة رويترز إن صادرات النفط الروسية ستتضرر بشدة بسبب العقوبات الجديدة التي ستجبر شركات التكرير الصينية المستقلة على خفض إنتاجها فيما بعد.
وقال مات رايت، كبير محللي شؤون الشحن لدى كبلر في مذكرة إن من بين السفن التي فرضت عليها العقوبات الأحدث، هناك 143 ناقلة نفط تعاملت مع أكثر من 530 مليون برميل من الخام الروسي العام الماضي، أي نحو 42 بالمئة من إجمالي صادرات البلاد من الخام المنقول بحرا.
وأضاف أن نحو 300 مليون برميل من تلك الكمية جرى شحنها إلى الصين في حين ذهب الجزء الأكبر من الباقي إلى الهند.
وقال رايت "ستؤدي هذه العقوبات إلى تقليص أسطول السفن المتاحة لتسليم النفط الخام من روسيا على المدى القصير بشكل كبير، مما سيدفع أسعار الشحن إلى الارتفاع".
وقال متعامل في سنغافورة إن الناقلات المشمولة بالعقوبات شحنت ما يقرب من 900 ألف برميل يوميا من الخام الروسي إلى الصين على مدى 12 شهرا انقضت. وأضاف "سيشهد الأمر انخفاضا حادا للغاية".
وعلى مدى أول 11 شهرا من العام الماضي، ارتفعت واردات الهند من الخام الروسي 4.5 بالمئة على أساس سنوي إلى 1.764 مليون برميل يوميا أو 36 بالمئة من إجمالي واردات الهند. وارتفع حجم واردات الصين، ومنها الإمدادات عبر خطوط الأنابيب، اثنين بالمئة إلى 99.09 مليون طن (2.159 مليون برميل يوميا) أو 20 بالمئة من إجمالي وارداتها خلال نفس الفترة.
وتتألف واردات الصين في الأغلب من خام مزيج إسبو الروسي الذي يباع فوق سقف السعر في حين تشتري الهند في الغالب خام الأورال.
وقالت إيما لي، المحللة لدى فورتيكسا إن صادرات الخام الروسي من مزيج إسبو ستصل إلى حد التوقف إذا تم تطبيق العقوبات بشكل صارم لكن ذلك سيعتمد على ما إذا كان الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب سيرفع الحظر، وكذلك ما إذا كانت الصين ستقر بالعقوبات.
البدائل
قالت المصادر إن العقوبات الجديدة ستدفع الصين والهند إلى العودة إلى سوق النفط الملتزمة بتطبيق العقوبات للحصول على المزيد من الإمدادات من الشرق الأوسط وأفريقيا والأميركيتين.
وأضافت أن أسعار النفط الفورية من الشرق الأوسط وأفريقيا والخامات البرازيلية ارتفعت بالفعل في الأشهر القليلة الماضية مع ارتفاع الطلب من الصين والهند في وقت تقلصت فيه إمدادات النفط الروسي والإيراني وارتفعت تكلفتها.
وقال مسؤول هندي في قطاع التكرير "الأسعار ترتفع بالفعل بالنسبة للخامات من الشرق الأوسط".
وأضاف "ليس هناك خيار سوى أن نتجه إلى نفط الشرق الأوسط. وربما نضطر إلى التوجه إلى النفط الأميركي أيضا".
وقال مصدر هندي ثان في قطاع التكرير إن العقوبات المفروضة على شركات التأمين الروسية على النفط ستدفع موسكو إلى تسعير خامها بأقل من 60 دولارا للبرميل حتى تتمكن من الاستمرار في استخدام التأمين والناقلات الغربية.
وقال هاري تشيلينجويريان رئيس قطاع الأبحاث في مجموعة أونيكس كابيتال غروب "نستبعد أن تنتظر شركات التكرير الهندية، المستورد الرئيسي للخام الروسي، لمعرفة ذلك وستعمل جاهدة للعثور على بدائل في خامات حوض الأطلسي المرتبطة بالشرق الأوسط وبرنت المؤرخ".
وأضاف "سعر خام دبي القياسي لن يشهد مزيدا من الارتفاع إلا من هذا المنطلق، وذلك في وقت من المرجح فيه أن نشهد عروضا قوية على شحنات تحميل فبراير لخامات مثل عمان أو مربان مما سيؤدي لتقليص الفارق بين برنت ودبي".
وحددت إدارة بايدن الشهر الماضي المزيد من السفن التي تتعامل مع الخام الإيراني قبل فرض متوقع لإجراءات أكثر صرامة من إدارة ترامب القادمة، مما دفع مجموعة ميناء شاندونغ إلى منع الناقلات المشمولة بالعقوبات من الرسو في موانئها في الإقليم الواقع شرق الصين.
وقال تشيلينجويريان إن الصين، المشتري الرئيسي للخام الإيراني،ستتحول نتيجة لذلك أيضا إلى خامات النفط الأثقل من الشرق الأوسط ومن المرجح أن تزيد من استهلاكها للخام الكندي من خط أنابيب ترانس ماونتن.
المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز
كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار من الشرق الأوسط النفط الروسی الخام الروسی ملیون برمیل من الخام
إقرأ أيضاً:
من الأندلس إلى الشرق الأوسط.. المستعرب الإسباني إغناطيوس غوتيريث يقدم رؤية نقدية تجاه الاستشراق الجديد
ماذا لو لم يكن العالم العربي "شرقا" على الإطلاق، بل جارا في "الوسط"، وأحيانا في "الغرب"؟ وماذا لو كانت هناك مدرسة معرفية لدراسته، عمرها ألف عام، تختلف جذريا عن "الاستشراق" الذي ارتبط بالهيمنة الاستعمارية؟
هذا التحدي المفاهيمي العميق يطرحه المستعرب الإسباني البارز، إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا، أستاذ الدراسات العربية بجامعة مدريد المستقلة، الذي يرى أن النموذج الأندلسي قادر على "بناء علاقة أكثر عدلا وتوازنا بين الغرب والعالم العربي". فمن منظور إسباني متجذر في تجربة الأندلس، يدعو دي تيران إلى إحداث ثورة في المصطلحات، واستبدال "الاستشراق" الموصوم سياسيا بـ"الاستعراب الإسباني" الذي نشأ في الأساس لدراسة النصوص العربية بموضوعية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رشاد حسنوف: كيف يغير “الاستشراق الذاتي” الهوية الثقافية لأذربيجان؟list 2 of 2قراءة شاملة لجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور المؤرخ الشاب زاخاري فوسترend of listلكن رؤية دي تيران النقدية لا تتوقف عند هذا الحد، بل تمتد لتكشف بجرأة كيف أن المناهج التعليمية في بلاده "تسعى إلى التقليل من دور الأندلس في تشكيل الهوية الإسبانية" بدوافع أيديولوجية. كما يرى أن العالم العربي منح "أهمية مفرطة" للاستشراق، محمّلا إياه مسؤولية سياسات غربية لا يحركها البحث الأكاديمي، بل "خدمة المصالح الإمبراطورية".
على هامش مشاركته في المؤتمر الدولي الأول للاستشراق بالدوحة، وفي هذا الحوار مع "الجزيرة نت"، يغوص إغناطيوس غوتيريث دي تيران في الفروق الدقيقة بين تجربة بلاده المعرفية ونماذج الاستشراق المهيمنة، مقيّما مستقبل العلاقة بين ضفتي المتوسط، ومقدما رؤية تصحيحية لإرث الأندلس ودوره في بناء جسور أكثر إنصافا.
إعلانوشارك غوتيريث -أستاذ اللغة والأدب العربي والتاريخ المعاصر في العالم الإسلامي في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة- في المؤتمر بورقة بحثية مهمة بعنوان "الدور التجديدي للاستعراب الإسباني في نموذج الاستشراق الأوروبي"، قدم فيها طرحا نقديا مغايرا لما هو سائد في الحقل الاستشراقي، وسلط الضوء على خصوصية الاستعراب الإسباني، وتجذره في السياق التاريخي والثقافي للأندلس، والاختلاف الجوهري في تمثلاته للعالم العربي والإسلامي مقارنة بالنموذجين الفرنسي والبريطاني.
درس اللغة العربية وآدابها (مستمعا) في جامعة القاهرة عام 1993 وجامعة دمشق عام 1994، أنجز رسالة الدكتوراه عام 2000 موضوعها "العلاقات الطائفية في لبنان وسوريا من حقبة التنظيمات العثمانية إلى نهاية القرن العشرين".
تولى تنسيق الدراسات الأفريقية والآسيوية، وهو الاختصاص الذي تندرج فيه مقررات اللغة والثقافة العربية في جامعته، وكان قد تبوأ أمانة سر قسمه للدراسات العربية والإسلامية طوال عقد من الزمن.
ترجم عدّة كتب من الإسبانية إلى العربية، ونقل إلى اللغة الإسبانية روايات عربية معاصرة لمؤلفين معاصرين مثل إبراهيم الكوني، وإدوارد الخراط، ومريد البرغوثي، وعالية ممدوح، وبهاء طاهر، وغسان كنفاني، ومازن معروف.
ومن ترجماته الشعرية إلى الإسبانية نخص بالذكر دواوين لمحمد الماغوط وسميح القاسم ومحمود درويش وسعدي يوسف وغيرهم.
كما ترجم إلى اللغة العربية بعض الأعمال الأدبية الإسبانية كـ"رحلة علي باي إلى المغرب" (2005)، وشارك في "أسبنة" كتاب "تاريخ الأدب الإسباني المعاصر" (2006)، ونشر مقالات بالعربية في صحف ومجلات عربية عدّة.
كتب عدة مقالات في الأدب الإسباني والعربي والعالم العربي المعاصر منها: "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين التيفاشي، و"اليمن.. مفتاح العالم العربي المنسي" (2014)، و"دراسة في الجنسانية العربية: الروض العاطر" (مدريد، 2015)، ونشر دراسة عن اللغة والثقافة العربيتين في إسبانيا مع مجموعة من الباحثين الإسبان الذين يكتبون بلغة الضاد عام 2016، و"الثورات العربية.. مسيرة متواصلة" (2017).
إعلانكما نقل إلى اللغة الإسبانية "رسالة للجواري والغلمان" للجاحظ (2018)، وأسهم في دراسات ومؤلفات متعددة تبحث في أدب الرحلة، ومنها المقال المدرج في المجموعة التي نسقها الأديب نوري الجراح ("رحالة عرب ومسلمون").
pic.twitter.com/B5Pe9lHtj5
— الجزيرة نت | ثقافة (@AJA_culture) January 29, 2024
نود أن نسألكم عن الورقة البحثية التي شاركتم بها في المؤتمر، والتي حملت عنوان "الدور التجديدي للاستعراب الإسباني ضمن نموذج الاستشراق الأوروبي". ما الذي جعل الاستعراب الإسباني مختلفا عن غيره؟ ولماذا وصفتم دوره بأنه تجديدي داخل هذا الإطار الاستشراقي؟أولا، نقول إن مصطلح "الاستشراق" يحمل في طياته العديد من المعاني المزدوجة والخطيرة. ولهذا السبب نحاول أن نسمي أنفسنا ومجال دراساتنا في العربية والإسلامية باسم "الدراسات الاستعرابية"، ونعتبر أنفسنا "مستعربين". لماذا؟.. لأن الاستعراب الإسباني قد بدأ منذ أكثر من ألف عام، وكان يركز على دراسة النصوص العربية بشكل موضوعي، وبالأخص النصوص الأندلسية.
ويرتبط هذا النوع من الاستعراب، قديما وحديثا، بأهداف استعمارية استيلائية تلفيقية، كما رأينا ذلك بوضوح في موجة الاستعمار التي ظهرت في القرن الـ19.
لذلك، فإننا ندعو إلى استعادة تلك المعاني الروحية، وتلك المواقف الفكرية التي يمكن أن نطلق عليها اسم "الاستعراب الأندلسي".
ونحن نعتقد ونؤمن بأن الأندلس يمكن أن توفر مادة تاريخية وأيديولوجية غنية، نستطيع أن نستمد منها موضوعات جديدة. بل أكثر من ذلك، نرى أن النموذج الأندلسي يمكن أن يشكل مثالا يحتذى به في تبني معايير جديدة لبناء علاقة أكثر عدلا وتوازنا بين الغرب، أو العالم الأوروبي، وبين العالم العربي.
"في حوار سابق، تحدثتم عن منظور الأندلس بوصفها جسرا للتواصل بين الشرق والغرب، لكنكم رفضتم في حينه رؤيتين: الرؤية الأوروبية التي تنكر التاريخ العربي والإسلامي في الأندلس، والرؤية المقابلة التي تتشبث بخيال رومانسي يتجاهل واقع الأندلس المركب. وقد عبرتم عن موقف نقدي تجاه كلا المنظورين. فهل وجدتم في هذا المؤتمر حضورا لمثل هذا الطرح النقدي في تناول موضوعي الاستشراق والاستعراب؟ إعلانأعتقد أن هذا المؤتمر يعبر عن مفهوم معين للاستشراق، وهو المفهوم المرتبط بالجانب السياسي المؤدلج للاستشراق. وكما ذكرت سابقا، فإننا لا نفضل استخدام هذه التسمية.
أولا، لأنها تعتمد على مفهوم جغرافي، في حين أننا -نحن في إسبانيا، وأعتقد أن هذا ينطبق أيضا على شعوب أوروبية أخرى- لا نرى أن العالم العربي يحتل موقعا في "الشرق"، بل نراه يحتل موقعا في "الوسط" وأحيانا في "الغرب".
وثانيا، فإن هذه الدراسات التي تعرف بـ"الاستشراقية" ظهرت أساسا في القرن الـ19، وكانت موجهة لأغراض محددة، تمثلت في تقديم صورة معينة -غالبا ما تكون سلبية أو غير دقيقة علميا وموضوعيا- عن العالم العربي والإسلامي.
وبناء على ذلك، فإننا نبتعد عن هذه الرؤية، ونسعى إلى تصحيحها، ونأمل في بناء رؤية مستقيمة وسليمة، تستند إلى الوقائع المادية، والأدلة، والمنطق. هذا هو ما نطمح إليه.
وأعتقد أن "الأندلس"، في نظر العرب أنفسهم، يمكن أن تمثل أيضا هذه الرؤية المتوازنة: رؤية تقوم على التماس، والاحتكاك، والتواصل المستمر بين الحضارة الأوروبية القديمة والحضارة العربية القديمة كذلك.
في ورقتكم التي قدمتموها في المؤتمر، تناولتم واقع المناهج التعليمية في إسبانيا الحديثة، وفي أوروبا بشكل عام، لا سيما في ما يتعلق بمنظور التعليم لحقبة الأندلس، وكيفية تناول هذه المرحلة في المدارس والجامعات. وقد عبرتم عن رأي نقدي في هذا السياق. فكيف تقيمون المناهج التعليمية من هذه الزاوية؟ وكيف ينظر الباحثون والأكاديميون المتخصصون إلى تجربة الأندلس ودورها في التاريخ الأوروبي؟للأسف الشديد، لا بد أن نقول إن الحقبة الأندلسية لم تنل نصيبها من الإنصاف والحضور كما ينبغي، وخصوصا في المدارس، وتحديدا في المناهج التعليمية. فالأندلس، على الرغم من كونها فترة تاريخية شديدة الأهمية، تأسيسية وتكوينية في آن معا، لا تحتل مكانة تذكر في هذه المناهج.
إعلانوهذا يدل، من جهة، على انحدار المعايير التربوية في بلادي، لكنه -وربما يكون الأمر أكثر خطورة- يدل، من جهة أخرى، على تراجع الاهتمام المتعمد بالأندلس، وكأن هناك نوايا سياسية وأيديولوجية معينة تسعى إلى التقليل من دور الأندلس في تشكيل الهوية الإسبانية.
نحن، من جانبنا، نحاول أن نعيد الاعتبار للأندلس، وأن نعيد تقديمها تقديما سليما، بوصفها مرحلة أساسية في بناء الهوية الإسبانية. ولا يمكن لأي قراءة جادة لتاريخ إسبانيا الحديث أن تتجاهل الخصائص والمميزات الفريدة التي اتسمت بها الأندلس.
شهدنا في هذا المؤتمر تركيزا لافتا على ما يعرف بـ"الاستشراق الجديد"، ودور مراكز البحث والدراسات السياسية في تشكيله. برأيكم، إلى أي مدى لا يزال للمنظور الاستشراقي، سواء التقليدي أو الجديد، تأثير في تشكيل السياسات التي تنتهجها القوى العالمية تجاه منطقة الشرق الأوسط؟ وهل ترون أن هذا التأثير لا يزال فاعلا ومباشرا في رسم ملامح تلك السياسات؟باعتقادي الشخصي، أن الاستشراق قد نال أهمية مفرطة، خاصة في الدول العربية، إذ يعتقد كثير من العرب أن الاستشراق كان له دور كبير، بل نصيب الأسد، في تشكيل الرؤية السياسية الغربية للإسلام والعالم العربي. وأرى أن الاستشراق يمثل جزءا من منظومة فكرية وأيديولوجية تسعى إلى تبرير الدور الأوروبي أولا، ثم الأميركي ثانيا، على مستوى العالم.
ومن هنا، فإن ما نسميه اليوم بـ"الاستشراق"، أو "المساعي الاستشراقية"، أو "الرؤى الاستشراقية"، ربما يمكن التعبير عنه بشكل أدق بوصفه رؤية الثقافة الغربية بشكل عام، كما تتجلى من خلال وسائل الإعلام وبعض الكتابات والأدبيات. وقد يكون أولئك الذين نطلق عليهم لقب "المستشرقين" جزءا من هذه الآلية، لكنهم لا يشكلون بالضرورة جوهر الرؤية الفكرية أو الطليعة التكوينية للعالم الغربي كما نعرفه اليوم.
إعلانفالسياسات الاستعمارية الحديثة، في القرن الـ21، لا علاقة لها بذلك الاستشراق الأكاديمي الذي يمارس اليوم في الجامعات. هذه السياسات تنتمي إلى مجال آخر تماما، مجال خدمة المصالح الإمبراطورية، والمصالح السياسية والاقتصادية والجيوسياسية. وهو أمر يمارسه فاعلون آخرون، لا علاقة لهم بالمستشرقين، لا من قريب ولا من بعيد.
ما أريد قوله هو أنه أحيانا نسمع من يقول إن فلانا قد تهجم على الثقافة العربية، أو قال إن الإسلام ديانة متخلفة أو دون المستوى، أو ادعى أن المسلمين لا يزالون يعانون من "تخلف عقائدي"، فنصف هذا الشخص بأنه "مستشرق". لكن ماذا نعني حقا عندما نطلق على أحدهم صفة "استشراقي" أو "غير استشراقي"؟
بالنسبة لي، المستشرق -بغض النظر عن موقفه من العرب أو المسلمين- هو شخص ينتمي إلى مدرسة فكرية وعلمية محددة، وهي المدرسة المعنية بالدراسات العربية والإسلامية. ويفترض به أن يكون ملما باللغة العربية، متقنا للعلوم الإسلامية، وذا دراية جيدة بالمجتمعات الإسلامية.
لكن، في المقابل، نجد أن الكثير من أولئك الذين يهاجمون الإسلام والعرب -بحق أو بغير حق- لا ينتمون إلى هذه المدرسة، ولا يعرفون اللغة العربية، ولا يفقهون شيئا عن المجتمعات الشرقية. وبالتالي، لا يمكن أن نعتبرهم جزءا من هذا الحقل المعرفي. هذا هو ما أريد التأكيد عليه، أحيانا نحمل الاستشراق أدوارا لا علاقة له بها.
فالكثير من هؤلاء لا يفقهون شيئا في الثقافة أو الأدب أو التاريخ، وكل همهم أن يؤثروا في سياسات دولهم الداخلية، ويحاولون إقناع حكوماتهم باتخاذ مواقف معينة تجاه بعض الدول العربية أو الإسلامية. وغالبا ما تكون هذه المساعي التوجيهية أو النفوذية مدفوعة بمصالح اقتصادية وسياسية محددة.
وهل يشارك بعض المستشرقين -بأسمائهم- في هذه العمليات؟ للأسف، نعم.. لكن المدرسة الاستشراقية، في معناها الأكاديمي والعلمي العميق، أكبر بكثير من هذه الاستخدامات السياسية والأداتية الضيقة.
إعلان شهدنا في المؤتمر العديد من النقاشات حول موضوع "الاستغراب".. فكيف ترون هذا المفهوم؟ وهل هناك منظور بديل أو نوع من المعرفة يمكن أن يتبناه أبناء الشرق تجاه الغرب؟ وهل تعتقد أن هناك واقعا أو مناهج للدراسات الاستغرابية في الوقت الحالي؟مرة أخرى، ما هو المقصود بمفهوم "الاستغراب"؟.. إذا كان الاستغراب يقابل الاستشراق من حيث الدلالات السلبية للمصطلحين، فإنه يكون خطأ يقابل خطأ. فإذا كان الاستشراق عملية لا يمكن اعتبارها إيجابية من الناحية العلمية، نظرا لكونها ملفقة ومسيسة، فإن الاستغراب -إذا اعتبر رديفا له أو معادلا له- لا بد أن يقع في الخطأ ذاته.
على كل حال، فإن "الاستغراب" تسمية غريبة أيضا، ولا أعلم إلى أي مدى يمكننا الحديث عن "استغراب" منظم أو ممنهج. وأتصور أن هناك بعض المفكرين والمثقفين، بل حتى بعض العلماء من العرب، ممن يتحدثون عن الغرب بطريقة سلبية وغير علمية، لكن هذه ليست مدرسة فكرية يمكن أن نفيد منها أو نركن إليها.
جرى الحديث في المؤتمر عن العلاقة بين السياسات العربية تجاه فلسطين وما يرتبط بالمنظور الاستشراقي. وربما تتفقون على أن لهذا المنظور بعض الأسس والواقع، حيث طالما نظر المستشرقون إلى هذه الشعوب على أنها بدائية أو غير متحضرة. وكان ذلك بمثابة رسالة للإنسان الغربي، ليتحمل مسؤولية "تحضير" هذه الشعوب وتأهيلها لتكون جاهزة للعيش في العصر الحديث. وهذا المنظور قد استخدم على الأقل في فترة منتصف القرن الماضي في تشكيل السياسات التي أسست للاستعمار البريطاني ومن ثم للتأسيس الإسرائيلي.. فما رأيكم حول هذا الأمر؟مرة أخرى، إذا كنا نعتبر المستشرقين اليوم أولئك الذين يعملون في إطار أكاديمي ومنهجي محدد -أي في مجال دراسة العالم العربي والتاريخ الإسلامي، على سبيل المثال- فلا بد أن نقر بأن عددا كبيرا منهم يقفون اليوم إلى جانب القضية الفلسطينية.
إعلانولو ذهبنا إلى العديد من الجامعات، والمؤسسات الأكاديمية، والمراكز البحثية، وسألنا أولئك الذين يعرفون العالم العربي ويكتبون عنه، لوجدنا أن نسبة عالية منهم -من إسبانيا إلى روسيا-يتعاطفون مع الفلسطينيين ويدعمون قضيتهم. والسبب في ذلك أنهم يعرفون القضية معرفة حقيقية، ولديهم إلمام عميق بما يجري على الأرض، أكثر من غيرهم.
لذلك، لا ينبغي أن نحمل الاستشراق المعاصر مسؤولية الموقف الغربي المؤيد، في معظمه، لإسرائيل أو للمشروع الصهيوني. فالمشكلة لا تكمن في الاستشراق، بل في منظومة من المصالح الاقتصادية والسياسية الليبرالية، وكذلك في الضغوط التي تمارسها الآليات الدعائية الصهيونية، وهي آليات قوية ما زالت تهيمن على صناعة القرار وصياغة الرأي العام في الغرب.
ومن هنا، يجب أن نميز بين الأمرين. هناك "مستشرقون"، يعانون كثيرا لأنهم يوجهون انتقادات صريحة للصهيونية وللسياسات الغربية الداعمة لنظام تل أبيب، وهم يقفون ضد هذه السياسات، لكن الثقافة المؤسسة في الغرب -أي الآلية الثقافية الغربية- هي التي تصنع هذه الرؤية المنحازة.
ومع ذلك، فأنا متفائل. وأعتقد أن هذه الآلية وهذه الصناعة الأيديولوجية في تراجع، وأن الصهيونية ستفقد تدريجيا قوتها ونفوذها. وهذا أمر ضروري جدا، لأن الصهيونية لا تمثل مصيبة على الفلسطينيين فحسب، بل هي مصيبة أيضا على العدالة الإنسانية، وعلى استقرار العالم بأسره.