في هذا التقرير، رصدنا عبر المصادر المفتوحة تآكل الغطاء النباتي الأخضر، وقطع الأشجار، جراء تسارع وتيرة التوسع الاستيطاني في سبع مستوطنات ومنطقة صناعية في الضفة الغربية المحتلة.

جبل أبو غنيم بين القدس وبيت لحم؛ كان يكتسي بالخضرة، لكنّه أصبح الآن مستوطنة إسمنتية يسكنها نحو 30 ألف إسرائيلي.

بدلت إسرائيل تصنيف هذه المنطقة من « محمية طبيعية » إلى منطقة بناء؛ ليتسنى لها قطع ما بها من أشجار، والبناء فيها بداية من عام 1997.

نهج مُتجدد تتخذه إسرائيل؛ فقد دأبت على توسيع المستوطنات على حساب الغطاء النباتي الأخضر، رغم أن قرار الأمم المتحدة رقم 2334 لعام 2016، نصّ على عدم شرعية إنشاء المستوطنات، وتوسيع ما هو قائم منها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

في هذا التقرير، رصدنا عبر المصادر المفتوحة تآكل الغطاء النباتي الأخضر، وقطع الأشجار، جراء تسارع وتيرة التوسع الاستيطاني في سبع مستوطنات ومنطقة صناعية في الضفة الغربية المحتلة.

وتراجعت مساحة الغطاء الشجري في فلسطين في الفترة بين 2001 و2023 بمعدل 21 هكتاراً.

كما تقلصت مساحات الغابات من نحو 320 ألف دونم عام 1970 إلى 245 ألف دونم خلال عام 2023.

البناء على محمية طبيعية

« فتحت لي جرحاً، ووضعت فيه الملح »، بهذه العبارة وصف رئيس جمعية وادي قانا الزراعية الخيرية، الدكتور نافذ خضر منصور، ما يجيش به صدره عندما تطرقنا في حديثنا معه إلى منطقة وادي قانا، التي شهدت فترة طفولته وصباه.

يقول خضر الذي يبلغ من العمر 64 عاماً: « أنا من مواليد وادي قانا، عشت فيها وأعرفها شبراً شبراً »، مسترجعاً حياته بها قبل توغل الاستيطان الإسرائيلي: « كانت منطقة خضراء، تكسوها الأشجار والأراضي الحرجية، وينبثق منها السريس والبطم والبلوط، وشتى الأشجار الحرجية ».

كان منصور يزورها عندما كان طفلاً في العاشرة، بصحبة أبناء قريته، للتنزه ولقطف النباتات الطبيعية البرية؛ مثل الميرمية أو الفطر (المشروم).

الآن يُمنع منصور، مثله مثل الفلسطينيين، من التنزه في هذه الغابات، بعدما استحوذت إسرائيل على المنطقة، وشرعت في تحويلها إلى عدة مستوطنات؛ مثل مستوطنتي كرني شمرون، وجينات شمرون.

بلغت مساحة مستوطنة كرني شمرون، الواقعة في وادي قانا بين محافظتي قلقيلية وسلفيت، ألفاً و42 دونماً؛ من بينها 92 دونماً -على الأقل- أقيمت على محميات طبيعية، وفق الخرائط التي يتيحها نظام جيومولج للمعلومات الجيومكانية في فلسطين، التي أمدنا بها مدير دائرة الضغط والمناصرة في اتحاد لجان العمل الزراعي، مؤيد بشارات، الذي شدد على أن كل الإحصائيات المستخرجة من النظام تغطي حتى عام 2019.

وتُظهر صور الأقمار الصناعية استمرار توسع المستوطنة بين عامي 2019 و2023.

2023

2014

وفي الوادي نفسه، تُظهر صور الأقمار الصناعية توسع مستوطنة نفي أورانيم؛ فبعدما كانت هضبة تكسوها الأشجار والنباتات، أصبحت كتلة إسمنتية في الفترة بين عامي 2014 و2023.

2023 2014

وفق بشارات، تشير خرائط جيومولج الرسمية الفلسطينية إلى إقامة أكثر من 120 وحدة سكنية منفصلة جديدة في المستوطنة عام 2014، على مساحة 14 دونماً؛ تقع بعضها داخل محميات طبيعية.

الأمر نفسه ينطبق على مستوطنة جينات شمرون. يقول مدير دائرة الضغط والمناصرة في اتحاد لجان العمل الزراعي، مؤيد بشارات، إن المستوطنة اقتطعت من المحمية الطبيعية مساحة 21 دونماً، وفق ما تظهره خرائط جيومولج.

وتُبين صور الأقمار الصناعية التوسع العمراني في الشمال الشرقي من المستوطنة، في الفترة بين عامي 2014 و2023.

2023 2014

يؤكد مدير عام الإعلام والعلاقات الدولية والعامة بوزارة الزراعة برام الله، محمود فطافطة، أن إزالة الغابات والأشجار الحرجية، وتدمير المواطن الطبيعية، ممارسات تؤثر سلباً في التنوع البيولوجي، والتوازن البيئي، كما يلقي بظلاله على المناخ المحلي؛ إذ إن الأشجار توفر ظلاً وتبريداً عبر عمليات التبخير، ومن دونها قد ترتفع درجات الحرارة المحلية.

كما تؤدي إزالة الأشجار إلى زيادة انبعاثات الكربون، وارتفاع معدل الجزيئات العالقة في الهواء، التي تؤثر سلباً في جودته، نظراً لقدرة الأشجار على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء خلال عملية التمثيل الضوئي. وعند قطع الأشجار، ينطلق الكربون المُخزن إلى الغلاف الجوي؛ ما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة العالمية، بحسب فطافطة.

وتشير قياسات نسبة الجزيئات العالقة في الهواء، الصادرة عن وحدة الرصد رقم 7 الأقرب إلى قلقيلية، إلى تدهور جودة الهواء في المنطقة خلال السنوات الأخيرة؛ فبينما شهدت المنطقة يوماً واحداً فقط من جودة هواء « غير صحية » خلال عام 2018، صُنفت جودة الهواء على أنها « غير صحية » على مدار 88 يوماً في الفترة بين يناير وشتنبر 2024.

كما تظهر قياسات نسبة الكربون في هواء المنطقة أن عام 2020 شهد ارتفاعاً في متوسط نسبة الكربون، مقارنة بعام 2018.

يقول الدكتور نافذ خضر منصور، وهو يشاهد صور الأقمار الصناعية، بما تظهره من تغيرات طرأت على الموقع: « تحول المحميات الطبيعية إلى كتل إسمنتية ومستوطنات، أمر محزن بكل ما تحمله الكلمة من معنى ».

أحراش جنين المفقودة

من آن إلى آخر، تداعب ذكريات الطفولة يعقوب زيد الكيلاني، موظف حكومي فلسطيني، يقيم في قرية نزلة الشيخ زيد، شمالي بلدة يعبد الواقعة في محافظة جنين؛ حين كان يلهو في مناطق أحراش يعبد ومحيطها، التي كانت تربط بين القرى الفلسطينية. لم تكن المستوطنات حينها أُنشئت بعد، ولم تكن المساحات الواسعة من المحافظة مسيّجة بأسوار تمنع عبور الفلسطينيين.

نشأ الكيلاني وسط المزارعين، ورافقهم في جولاتهم مع أغنامهم بمناطق الغابات المزروعة منذ العهد العثماني والبريطاني والأردني؛ وقتها « لم يكن هنالك ما يمنعنا من الوصول إليها »، كما يقول.

يتابع الموظف الفلسطيني التحولات التي طرأت أخيراً على المستوطنات، قائلاً: « الاستيطان دمر الغطاء النباتي، وجرّف الأراضي، واستُبدلت كتل خرسانية بالمناظر الخلابة والطبيعية ».

ضمن المستوطنات التي يصفها كيلاني، مستوطنة ميفو دوتان، حيث أقيمت على مساحة 400 دونم، وكانت تكسوها الأشجار الحرجية، وفق مركز أبحاث الأراضي الفلسطيني.

وتظهر صور الأقمار الصناعية المُلتقطة في الفترة بين عامي 2016 و2023، استقطاع المساحات المزروعة جنوبي المستوطنة، وبناء عدة مبانٍ.

2023 2016

 

وفي عام 2023، صدر القرار الإسرائيلي رقم יוש/ 2 / 6/166 بشأن تحويل مساحات زراعية في مستوطنة حنانينت بمحافظة جنين إلى منطقة سكنية، تحتوي على عشر وحدات سكنية.

كما تظهر صور الأقمار الصناعية التمدد العمراني في أنحاء المستوطنة كلها، في الفترة بين عامي 2016 و2023.

2023 2016

بالعودة إلى خرائط جيومولج المعتمدة، يقول بشارات: « منذ عام 2016، أُزيل 15 دونماً من الغطاء النباتي في الجهة الشمالية لمستوطنة حنانينت؛ ليقام عليها 60 وحدة سكنية جديدة، وبهذا وصل عدد الوحدات السكنية في المستوطنة إلى 170 وحدة عام 2019 ».

كما تظهر صور الأقمار الصناعية توسعاً كبيراً في المساحات المبنية بمستوطنة شاكيد في محافظة جنين. وفي الفترة بين عامي 2016 و2019، أُنشئ 45 مبنىً منفصلاً، يضم نحو 90 وحدة سكنية، وفق اتحاد لجان العمل الزراعي.

كما تسارعت التغييرات العمرانية خلال الفترة نفسها في مستوطنة عمانوئيل؛ لتختفي المساحات المزروعة في جنوب شرقي المستوطنة في عام 2023، وتحل مكانها مبانٍ سكنية.

2023 2016

وتشير إحصائيات وزارة الزراعة الفلسطينية إلى اقتطاع نحو 14 ألفاً و460 دونماً من مساحة الغابات في محافظة جنين، في الفترة بين عامي 1970 و2023، في حين شهدت محافظتا سلفيت وقلقيلية، في الفترة ذاتها، تقلصاً في مساحات الغابات يقدر بخمسة آلاف و82 دونماً.

أهمية الغطاء المزروع

وفق إدارة الطاقة وحماية البيئة في ولاية « كونيتيكت » الأميركية؛ فإن الغابات تساعد على تقليل وتيرة التغير المناخي، عبر إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي وامتصاصه وتخزينه بها؛ إذ إن الباعث الأول على التغير المناخي هو زيادة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.

وأوضح مدير عام الإعلام والعلاقات الدولية والعامة بوزارة الزراعة الفلسطينية، محمود فطافطة، أن مساحة الغابات في الضفة الغربية -بما فيها القدس- وقطاع غزة، تشكل أربعة في المئة فقط من إجمالي الأراضي الفلسطينية؛ وهي مساحة منخفضة مقارنة ببلدان العالم الأخرى؛ إذ تشكل نسبة الغابات نحو 31 في المئة من إجمالي مساحة اليابسة.

وبخصوص غابات محافظة جنين، يقول فطافطة إنها تمتد على نحو 40 ألف دونم، موزعة على 27 موقعاً، وتتميز بتكيفها مع الظروف البيئية المحلية، كما تنبع أهميتها من قدرتها على التحكم في المناخ المحلي والتأثير فيه، إذ توفر الظل والرطوبة؛ ما يساعد على تعديل درجات الحرارة، وتقليل تأثيرات الظواهر المناخية القاسية.

وبناءً على تقديرات وزارة الزراعة، أزيلت ما بين 10 و15 في المئة من الأشجار في جنين، وما بين 20 و40 في المئة من الأشجار في وادي قانا.

يقول مدير دائرة الضغط والمناصرة في اتحاد لجان العمل الزراعي، مؤيد بشارات، إن محمية وادي قانا، تضم أشجار السريس والبطم والكينا والتين والقندول، مبيناً أنها تتمتع بتنوع الزهور البرية والطيور والثدييات؛ مثل الغزال الجبلي، والثعلب الأحمر، والخفاش، في حين تضم أحراش جنين ومحيطها مجموعة من الأشجار والشجيرات الحراجية الطبيعية الفلسطينية؛ مثل الصنوبر والسرو والبلوط والخروب والسماق البلدي والخريس والسريس والحنا.

منشآت صناعية

لم يقتصر الأمر على بناء وحدات سكنية في مناطق الأحراش والغابات، أو على مناطق مصنفة على أنها محميات طبيعية، بل أيضاً توسعت المناطق الصناعية على حساب الغطاء النباتي في الضفة الغربية المحتلة.

ففي محافظة جنين، توسعت المنطقة الصناعية شاحاك، الواقعة شرقي مستوطنة شاكيد، تدريجياً في الفترة بين عامي 2016 و2023، وفق ما تظهره صور الأقمار الصناعية.

2023 2016

ويقع ضمن المصانع الموجودة في المنطقة الصناعية شاحاك، مصنع شركة « ستيل ديكو المحدودة » (Steele – deco Ltd)، الذي أُسّس عام 2003، ويعمل في استيراد وتصدير الأخشاب، ومصنع شركة « شيتزر للمواد الكيميائية » (A. Shitzer LTD)، المتخصصة في توزيع المواد الكيماوية، ومصنع « تيرك المحدود » (tyrec) للمطاط الذي أُسّس عام 2007.

وأرجع تقرير نشره معهد الأبحاث التطبيقية الفلسطيني، في الخامس من يونيو 2024، بعنوان « تأثير الاحتلال والتحديات البيئة على فلسطين »، التدهور والتلوث البيئي الناجم عن المناطق الصناعية الإسرائيلية في المستوطنات إلى « افتقارها للوائح البيئية المناسبة؛ ما يؤدي إلى تلوث كبير للأراضي والمياه، فالنفايات الخطرة الناتجة من هذه الصناعات تُلوث الأراضي الزراعية الفلسطينية ومصادر المياه؛ ما يشكل مخاطر صحية شديدة على السكان المحليين ».

يقول الباحث في شؤون البيئة في مركز أبحاث الأراضي، المهندس رائد موقدي: « الضفة الغربية تضم عدة مناطق صناعية إسرائيلية، هذه المناطق الصناعية لا تخضع للقانون الدولي في معالجة النفايات؛ سواء الصلبة أو السائلة أو حتى الغازية، نظراً لوقوعها في الضفة الغربية؛ ما يعني عدم خضوعها للقانون الإسرائيلي بشكل مباشر، في الوقت نفسه، لا تخضع للمعايير الدولية للتخلّص من النفايات بشكل عام ».

كما يركز الباحث في شؤون البيئة على المنطقة الصناعية في « شاحاك »، قائلاً: « أُنشئت فعلياً عام 1995، غير أنها بدأت تنشط بشكل ملحوظ عام 2001… وتضم شاحاك عدداً من المصانع ذات الصلة بالصناعات البتروكيماوية، كصناعات البلاستيك، ومشتقات بعض الجلود والحديد ».

وتُعدّ الصناعات الكيميائية من الصناعات التي تطلق الغازات الدفيئة المتسببة في ظاهرة الاحترار العالمي. كما تُعدّ صناعة البتروكيماويات -على وجه الخصوص- من أكثر الصناعات الملوثة للهواء؛ لاعتمادها على الوقود الأحفوري الذي يؤثر سلباً في البيئة، ويشكل تهديداً صحياً على المجتمعات المجاورة للمصانع.

أُنجز هذا التقرير بدعم من أريج.

كلمات دلالية إسرائيلـ الاستيطان، البيئة

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: الغطاء النباتی الأخضر صور الأقمار الصناعیة فی الضفة الغربیة فی محافظة جنین فی المئة على أن

إقرأ أيضاً:

حكم بيع الثمار بعد ظهورها على الأشجار وقبل أن تطيب.. الإفتاء توضح

تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: ما حكم بيع الثمار بعد ظهورها على الأشجار ولكن قبل أن تطيب؟

وأجابت دار الإفتاء عن السؤال قائلة: يجوز التعاقد بيعًا وشراءً على الثمار بعد ظهورها على الأشجار بمجرد أَمْن العاهة والفساد بمعرفة أهل الخبرة قبل أن تطيب للأكل كما هو مذهب السادة الحنفية، أمَّا قَبْل أمن العاهة والفساد فجائزٌ عندهم بشرطين:
 

أحدهما: أن يكون البيع مطلقًا بلا شرط؛ فلا يشترط البائعُ على المشتري قطع الثمار في الحال عند الشراء، ولا يشترط المشتري على البائع ترك الثمار في الأشجار إلى تمام النضج. والمستفاد من هذا الشرط أنه لا مانع من بقاء الثمار في الأشجار حتى تطيب لكن من غير أن يكون ذلك شرطًا في العقد.
 والآخر: أن يكون الثمر منتفعًا به في الحال أو المآل؛ سواء في الأكل أو علف الدواب أو غير ذلك، حتى يصدق عليه أنه مالٌ متقوَّم.على من تجب نفقة تجهيز الميت؟.. الإفتاء تحسم الجدلكنت مخطوبة وقولتله زوجتك نفسي واتجوزت غيره.. الإفتاء تجيبهل يجوز إعطاء زميلي في العمل من زكاة المال ؟.. الإفتاء: جائز الشروطهل أحصل على ثواب الأذكار حال ترديدها بعد خروج وقتها؟.. الإفتاء توضح


حكم بيع الثمار بعد الظهور وقبل النضوج وبيان المراد بذلك
وأوضحت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمار بعد ظهورها وقبل بُدُوِّ صلاحها؛ فروى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا؛ نَهَى البَائِعَ وَالمُبْتَاعَ".

والمراد بِبُدُوِّ الصلاح عند جمهور الفقهاء: أول ظهوره وبدايته بحيث تكون الثمرة صالحةً للأكل، وذلك يختلف باختلاف نوعها؛ فمنها ما يكون بتغير لونها، وأخرى بتغير طعمها، وثالثة بالخبرة، وأن تؤمن فيها العاهة والفساد وتغلب السلامة، وليس المراد كمال النضج؛ حيث عبّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «حتى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا»، ولم يقل: "حتى يتم صلاحها".


وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى تُطْعَمَ -أي تصلح للأكل-" رواه مسلم. وفي رواية أحمد: "حَتَّى تَطِيبَ".


قال الإمام ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (3/ 170، ط. دار الحديث): [وأما بدو الصلاح الذي جوّز رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم البيعَ بعده، فهو أن يصفر فيه الْبُسْرُ، وَيَسْوَدَّ فيه العنب إن كان مما يَسْوَدُّ، وبالجملة أن تظهر في الثمر صفة الطيب. هذا هو قول جماعة فقهاء الأمصار؛ لما رواه مالكٌ، عن حميدٍ، عن أنسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ -أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم- عَنْ قَوْلِهِ: «حَتَّى يُزْهِيَ»، فَقَالَ: «حَتَّى يَحْمَرَّ»] اهـ.


وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (11/ 440، ط. دار الفكر) في بيان هذا المعنى: [بُدُوُّ الصلاح يرجع إلى تغير صفةٍ في الثمرة؛ وذلك يختلف باختلاف الأجناس، وهو على اختلافه راجعٌ إلى شيءٍ واحدٍ مشتركٍ بينهما وهو طيب الأكل] اهـ.


وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 396، ط. دار المعرفة): [وقد جعل النهي ممتدًّا إلى غاية بُدُوِّ الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن فيها العاهةُ وتغلب السلامةُ فيثق المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بُدُوِّ الصلاح؛ فإنه بصدد الغرر] اهـ.


وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (4/ 69، ط. مكتبة القاهرة): [فإن كانت ثمرة نخلٍ: فبدو صلاحها أن تظهر فيها الحمرة أو الصفرة. وإن كانت ثمرة كرمٍ: فصلاحها أن تتموه. وصلاح ما سوى النخل والكَرمِ: أن يبدو فيها النضج. وجملة ذلك: أن ما كان من الثمرة يتغير لونُهُ عند صلاحه؛ كثمرة النخل، والعنب الأسود، والإِجَّاصِ -أي الكمثرى والمشمش-: فبدو صلاحه بذلك -أي بتغير لونه-. وإن كان العنب أبيض: فصلاحه بِتَمَوُّهِهِ؛ وهو أن يبدو فيه الماء الحلو، ويلين، ويصفر لونه. وإن كان مما لا يتلون؛ كالتفاح ونحوه: فَبِأَن يحلو، أو يطيب. وإن كان بطيخًا أو نحوه: فَبِأَن يبدو فيه النضج. وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل طيبًا صغارًا وكبارًا؛ كَالقِثَّاءِ والخيار: فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادةً] اهـ.


واكتفى الحنفية في بدو الصلاح بأمن العاهة والفساد وإن لم تطب الثمرة على النحو الذي فصلته المذاهب الأخرى؛ قال الإمام ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (4/ 555، ط. دار الفكر): [بدو الصلاح عندنا: أن تؤمن العاهة والفساد] اهـ.
إلا أن الفقهاء قد فرقوا في هذه المعاملة بين ثلاث صور:
الأولى: البيع بعد ظهور الثمار قبل بُدُوِّ الصلاح بشرط القطع: فاتفقوا على جوازها؛ لما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَبْتَاعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَتَذْهَبَ عَنْهُ الْآفَةُ»، ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن العلة التي علَّل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهيه عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها هي خوف الآفة على الثمر، ومع وجود القطع فإن هذه العلة غير متحققة، والأحكام تدور مع عللها وجودًا وعدمًا.


قال الإمام ابن عابدين في "رد المحتار" (4/ 555): [قال في "الفتح": لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر، ولا في عدم جوازه بعد الظهور قبل بُدُوِّ الصلاح بشرط الترك، ولا في جوازه قبل بُدُوِّ الصلاح بشرط القطع فيما ينتفع به، ولا في الجواز بعد بدو الصلاح، لكن بدو الصلاح عندنا: أن تؤمن العاهة والفساد] اهـ.


والثانية: البيع بعد الظهور قبل بُدُوِّ الصلاح بشرط الترك: وهذه الصورة قد أجمع الفقهاء على بطلانها؛ لأنه شرطٌ لا يقتضيه العقد، ولأنه شغلٌ لملك الغير؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (4/ 63): [وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك إلى الجزاز؛ لم يَجُزْ. وإن اشتراها على القطع؛ جاز. لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يشتريها بشرط التبقية؛ فلا يصح البيع إجماعًا؛ «لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛ نهى البائع والمبتاع» متفق عليه. النهي يقتضي فساد المنهي عنه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث] اهـ.


والثالثة: البيع بعد الظهور قبل بُدُوِّ الصلاح بغير شرط -أي بيعًا مطلقًا-: وهي محل الخلاف بين الفقهاء:
فذهب جمهور الفقهاء إلى القول بمنع هذه الصورة من التعامل؛ أخذًا بظاهر النصوص الواردة، واحترازًا عن الوقوع في الغرر، ومنعًا للنزاع والشقاق بين المتعاملين.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 396، ط. دار المعرفة): [(نهى البائعَ والمشتري)؛ أما البائع: فلِئَلَّا يأكل مالَ أخيه بالباطل. وأما المشتري: فلِئَلَّا يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل، وفيه أيضًا قطع النزاع والتخاصم، ومقتضاه جواز بيعها بعد بُدُوِّ الصلاح مطلقًا؛ سواء اشترط الإبقاء أم لم يشترط؛ لأن ما بعد الغاية مخالفٌ لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدًّا إلى غاية بُدُوِّ الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن فيها العاهةُ وتغلب السلامةُ فيثق المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بُدُوِّ الصلاح؛ فإنه بصدد الغرر.. وإلى الفرق بين ما قبل ظهور الصلاح وبعده ذهب الجمهور. وعن أبي حنيفة: إنما يصح بيعها في هذه الحالة حيث لا يشترط الإبقاء، فإنْ شرطه لم يصح البيع] اهـ.

توجيه السادة الأحناف ما ورد من النهي عن بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها
ذهب الحنفية إلى القول بجوازها، وحملوا النهي على ما قبل ظهور الثمر بشرط الترك على الشجر، وعلى ما بعد ظهوره بشرط القطع؛ وهذا لا خلاف في منعه؛ قال الإمام ابن عابدين في "رد المحتار" (4/ 555): [والخلاف إنما هو في بيعها قبل بُدُوِّ الصلاح على الخلاف في معناه لا بشرط القطع: فعند الشافعي ومالكٍ وأحمد: لا يجوز.

 وعندنا: إن كان بحالٍ لا ينتفع به في الأكل ولا في علف الدواب؛ فيه خلافٌ بين المشايخ، قيل: لا يجوز، ونسبه قاضي خان لعامة مشايخنا. والصحيح: أنه يجوز؛ لأنه مالٌ منتفعٌ به في ثاني الحال إن لم يكن منتفعًا به في الحال -بمعنى أنه مالٌ متقوَّم-] اهـ.


وقال الإمام ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (5/ 325، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وأجاب عنه -أي عن الحديث الوارد بالنهي- الإمامُ الحلواني كما في "الخانية": أنه محمولٌ على ما قبل الظهور، وغيره على ما إذا كان بشرط الترك، فإنهم -أي الجمهور- تركوا ظاهره -أي الحديث-؛ فأجازوا البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع، وهي معارضةٌ صريحةٌ لمنطوقه؛ فقد اتفقنا -أي الحنفية والجمهور- على أنه متروكُ الظاهر، وهو لا يحل إن لم يكن لموجب، وهو عندهم: تعليله عليه الصلاة والسلام بقوله: «أرأيتَ إن منع اللهُ الثمرةَ؛ فيما يَستَحِلُّ أحدُكُم مالَ أخيه»، فإنه يستلزم أن معناه أنه نهى عن بيعها مدركةً -أي على أنها قد أدركت الصلاح- قبل الإدراك -أي قبل أن تدركه حقيقةً-؛ لأن العادة أن الناس يبيعون الثمار قبل أن تقطع، فنهى عن هذا البيع قبل أن توجد الصفة المذكورة، فصار محل النهي بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط الترك إلى أن يبدو الصلاح، والبيع بشرط القطع لا يُتَوَهَّمُ فيه ذلك، فلم يكن متناولًا للنهي، وإذا صار محله بيعها بشرط تركها إلى أن تصلح فقد قضينا عهدة هذا النهي؛ فإنا قد قُلنا بفساد هذا البيع، فبقي بيعُها مطلقًا غيرَ متناولٍ للنهي بوجهٍ من الوجوه] اهـ.

وذكرت انه يتبين من هذا الكلام أن الحنفية قد اشترطوا لجواز هذا الصورة شرطين:
أحدهما: أن يكون البيع مطلقًا بلا شرط؛ فلا يشترط البائعُ على المشتري قطع الثمار في الحال عند الشراء، ولا يشترط المشتري على البائع ترك الثمار في الأشجار إلى تمام النضج.
والمستفاد من هذا الشرط أنه لا مانع من بقاء الثمار في الأشجار حتى تطيب لكن من غير أن يكون ذلك شرطًا في العقد.
والآخر: أن يكون الثمر منتفعًا به في الحال أو المآل؛ سواء في الأكل أو علف الدواب أو غير ذلك، حتى يصدق عليه أنه مالٌ متقوَّم.


وأكدت بناءً على ما سبق: أنه يجوز التعاقد بيعًا وشراءً على الثمار بعد ظهورها على الأشجار بمجرد أَمْن العاهة والفساد بمعرفة أهل الخبرة قبل أن تطيب للأكل كما هو مذهب السادة الحنفية، أمَّا قَبْل أمن العاهة والفساد فجائزٌ بشرطيه عندهم.
 

طباعة شارك حكم بيع الثمار بعد الظهور وقبل النضوج الثمار بيع الثمار حكم بيع الثمار بعد الظهور البيع حكم بيع الثمار بعد ظهورها على الأشجار

مقالات مشابهة

  • شتاء بلا مخالفات.. حملة وطنية لدعم الأمن الغذائي والحد من الرعي الجائر
  • هيونداي كريتا كروس أوفر بـ 700 ألف جنيه
  • إيران: ندعو دول المنطقة لوقف توسع “إسرائيل” ومستعدون لتعزيز التعاون الاقتصادي مع تركيا
  • حكم بيع الثمار بعد ظهورها على الأشجار وقبل أن تطيب.. الإفتاء توضح
  • وزير خارجية تركيا: توسع إسرائيل الإقليمي هو التهديد الأول في المنطقة
  • زراعة جرش تكشف هوية المعتدين على الأشجار الحرجية
  • اليوسف يستعرض جهود تطوير الصناعات الوطنية وتحسين البيئة الأعمال الصناعية
  • انسات الجياد يفوز علي سموحة بمهرجان الاسكندرية
  • 39 نوعاً نباتياً محلياً يعزز الغطاء الأخضر في الحدود الشمالية
  • كيم كارداشيان تكشف نيتها للسخرية من لصوص باريس 2016