شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة البوابة إلى اقتصاد المعرفة
تاريخ النشر: 13th, January 2025 GMT
يشهد العالم اليوم تحولًا جذريًا نحو الاقتصاد القائم على المعرفة (Knowledge-Based Economy) الذي يعتمد على المعرفة والإبداع وتقنية المعلومات كأهم الموارد الاقتصادية. فقد أصبح الذكاء الاصطناعي حجر الزاوية في تحقيق هذا التحول، حيث يُمثل قوة دافعة نحو التقدم التقني وتعزيز الإنتاجية في مختلف القطاعات. ومع ازدياد أهمية البيانات والابتكار في العصر الرقمي، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره المحرك الأساسي لتحقيق النمو المُستدام.
وعلى الرغم من الإمكانيات الكبيرة التي تتمتع بها الشركات الناشئة، إلا أنها تواجه تحديات عديدة. أبرز هذه التحديات تشمل صعوبات التمويل والدعم الحكومي، حيث تحتاج الشركات الناشئة إلى استثمارات ضخمة لتطوير منتجاتها وخدماتها. ومع أن الاستثمارات في هذا المجال تنمو، إلا أنّ تأمين الدعم الكافي خاصة في المراحل المبكرة يُعد تحديًا كبيرًا. بالإضافة إلى ذلك، تعاني هذه الشركات من قلة الكفاءات التقنية المتخصصة، مما يجعل من الصعب توظيف المواهب المناسبة. كما أنّ القوانين المتعلقة بالذكاء الاصطناعي غالبًا ما تكون غير واضحة أو متأخرة وغير مواكبة للطفرات التقنية المُتسارعة، مما يُعيق الابتكار ويُثقل كاهل الشركات الناشئة. وبالرغم من وجود بعض التحديات، ومع استمرار نمو الاقتصاد القائم على المعرفة، تُوجد العديد من الفرص الجديدة لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة. يُمكن لهذه الشركات تطوير تطبيقات جديدة لتحسين العمليات في مجالات مختلفة مثل الطب، حيث يُمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتشخيص الأمراض وتطوير علاجات مُبتكرة. بالإضافة إلى ذلك، يُمكن للشراكات بين القطاعين العام والخاص أن تُعزز من فرص نجاح هذه الشركات من خلال تطوير بيئة داعمة للابتكار. كما يُمكن لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة أن تُسهم في توطين أدوات الذكاء الاصطناعي لتعزيز إدارة وحوكمة البيانات لاسيما أمنها. حيث يمكن أن تُعزز هذه الشركات تطوير تقنيات متقدمة لتحليل البيانات وتحديد التهديدات الأمنية في الوقت المناسب، مما يُساعد المؤسسات على حماية بياناتها وأنظمتها من الهجمات السيبرانية.
من جانب آخر، في الولايات المتحدة الأمريكية، تُدعم الجامعات الشركات الناشئة من خلال حاضنات الأعمال وبرامج الابتكار. على سبيل المثال، تُدير جامعة ستانفورد برنامجًا مُخصصًا لدعم رواد الأعمال الطلاب من خلال توفير الموارد والإرشاد وتوجيههم نحو تأسيس شركات ناشئة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي. ومن بين الأمثلة البارزة كذلك، شركة «Nvidia» التي بدأت كتعاون بحثي أكاديمي وأصبحت اليوم من أكبر الشركات في مجالات الذكاء الاصطناعي ومعالجة الرسومات وغيرها بقيمة سوقية بلغت 3.579 تريليون دولا أمريكي حتى نهاية 2024م، أما في الصين، فتُركز الجامعات مثل جامعة تسينجهوا على بناء بيئة داعمة للابتكار من خلال شراكات مع الحكومة والقطاع الخاص. وتُوفر هذه الجامعات موارد بحثية وبرامج تمويل للمشاريع الطلابية، مما يُمكن الطلاب من تطوير نماذج أولية وتحويلها إلى منتجات تجارية. وتُعد شركة «SenseTime» مثالًا حيًا على هذا النهج، حيث بدأت كمشروع بحثي جامعي وأصبحت الآن من أبرز الشركات في مجال الرؤية الحاسوبية، يذكر أنّ القيمة السوقية لشركة «SenseTime» تبلغ نحو6.8 مليار دولار أمريكي.
ولضمان نجاح الشركات الناشئة، يتوجب أن تحظى بدعم متكامل من القطاعين العام والخاص، حيث يُمكن تحقيق ذلك من خلال توفير سياسات حكومية داعمة تشمل تقديم التمويل والموارد اللازمة لتطوير هذه الشركات، بالإضافة إلى سن قوانين وتشريعات واضحة تُشجع على الابتكار وتُحفز بيئة ريادة الأعمال. كما يجب على المؤسسات التعليمية والبحثية أن تعزز برامج التعليم والتدريب في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتعمل على تطوير البرامج الحالية واستحداث برامج جديدة تواكب الطفرات التقنية المُتسارعة، وتشجع البحث العلمي والتعاون مع الشركات الناشئة. كذلك، يتوجب على الشركات الكبرى دعم الشركات الناشئة من خلال الاستثمار أو إقامة شراكات استراتيجية. وفي ظل التحول نحو الاقتصاد القائم على المعرفة، تُشكل شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة مُمكنًا مهمًا لتحقيق هذا الهدف. من خلال الابتكار والتعاون مع الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص، يُمكن لهذه الشركات قيادة التغيير نحو مستقبل أكثر ازدهارًا. المستقبل يعتمد على تضافر الجهود المشتركة من جميع القطاعات لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقها لتحقيق اقتصاد معرفي مُستدام.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: شرکات الذکاء الاصطناعی الناشئة الاقتصاد القائم على المعرفة الولایات المتحدة الأمریکیة تقنیات الذکاء الاصطناعی ملیار دولار أمریکی الشرکات الناشئة هذه الشرکات من خلال
إقرأ أيضاً:
الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي 1/5
عبيدلي العبيدلي
خبير إعلامي
يُعدّ الذكاء الاصطناعي أحد أبرز الظواهر التقنية المعاصرة التي يعتقد الكثيرون أنها ستُعيد رسم ملامح الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين. فمنذ بداية الألفية، تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد كونه فرعًا نظريًا في علوم الحوسبة، إلى محرك فعلي لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، وربما العالمي، بما في ذلك تشكيل سلاسل الإنتاج، وأسواق العمل، وأنظمة اتخاذ القرار. ومع كل طفرة في هذا المجال، تتسارع التحولات الاقتصادية، وتتشكل استقطابات فكرية جديدة تتوزع بين مؤيدين يرون فيه أداة فعالة لتحفيز النمو، ومعارضين له لا يكفون عن التحذير من مغبة تداعيات انعكاساته الاقتصادية البنيوية.
يمتاز الجدل حول الذكاء الاصطناعي بطابعه الديناميكي، إذ لا يتصل فقط بفعالية التقنية، بل يتقاطع مع قضايا توزيع الثروة، ومستقبل العمل، والمساواة الرقمية، والسيادة الاقتصادية. وقد بات من الملحّ، بشكل قاطع، التفكير فيه باعتباره قضية سياسية–اقتصادية–أخلاقية بامتياز، تتطلب تجاوز التقييمات التقنية البحتة نحو تحليلات عميقة للبنى الاقتصادية والاجتماعية.
تهدف هذه المقالة إلى تفكيك هذا الجدل من خلال عرض شامل لحجج المؤيدين والمعارضين، وتحليل القضايا المحورية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في الاقتصاد، مع تقديم حالات واقعية تجسد الاتجاهين، وأخيرًا استشراف مآلات هذه التحولات على المدى القصير والمتوسط والبعيد.
مواقف المؤيدين: الذكاء الاصطناعي رافعة للتحول الاقتصادي
يرى المؤيدون أن الذكاء الاصطناعي يمثل قفزة نوعية في تاريخ التطور الإنتاجي للبشرية، مكافئة لاختراع الكهرباء أو الإنترنت. وتتركز مبرراتهم في خمسة محاور أساسية هي:
رفع الإنتاجية وتقليل التكاليفتُظهر التجارب أن الذكاء الاصطناعي قادر، وبكفاءة غير مسبوقة، على مضاعفة إنتاجية القوى العاملة البشرية من خلال الأتمتة الذكية وتحليل البيانات والتعلّم الآلي. فالشركات التي تبنت أدوات تحليل البيانات والتنبؤ باستخدام AI – كـ Amazon وAlibaba، نجحت في خفض تكاليف التشغيل، وزيادة كفاءة سلسلة الإمداد، وتسريع دورة الإنتاج. وتُشير دراسة صدرت في العام 2022 عن مؤسسة PricewaterhouseCoopers (PWC) إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يضيف 15.7 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول 2030.
خلق نماذج أعمال جديدةلا يقتصر أثر الذكاء الاصطناعي على تحسين العمليات التقليدية، بل يفتح الباب أمام نماذج أعمال جديدة بالكامل. فالخدمات المالية مثلًا شهدت ظهور شركات FinTech تستخدم الذكاء الاصطناعي في تقييم الجدارة الائتمانية والتسعير التفاعلي. وفي الطب، بات التشخيص القائم على AI يتفوق على بعض القدرات البشرية. هذا يعني أن الذكاء الاصطناعي لا يُقصي العمل البشري، بل يُعيد تعريفه.
تمكين الدول النامية عبر القفزات التقنيةمن أبرز وعود الذكاء الاصطناعي قدرته على مساعدة الدول النامية في تجاوز مراحل التصنيع التقليدي. ففي الهند مثلًا، ساعدت أدوات الذكاء الاصطناعي المزارعين في التنبؤ بالمواسم الزراعية وتحسين الإنتاج. أما في كينيا، فتم تطبيق الذكاء الاصطناعي في إدارة شبكات الكهرباء المحدودة لتعظيم كفاءتها. هذا الاستخدام "التنموي" يخلق أملًا بإعادة التوازن العالمي عبر التكنولوجيا.
تعزيز الحوكمة واتخاذ القرار الاقتصاديتُستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي اليوم في تحليل اتجاهات الاقتصاد الكلي، وتقييم المخاطر الائتمانية، وضبط التهرب الضريبي. فالهند طوّرت نظامًا رقميًا يعتمد على AI لرصد التجارة غير الرسمية والتهرب من الضرائب، مما ساعد في رفع الإيرادات العامة بنسبة 14%. كما تلجأ بعض الحكومات إلى أدوات الذكاء الاصطناعي لمحاكاة نتائج السياسات الاقتصادية قبل تطبيقها.
تسريع البحث العلمي والابتكاربفضل قدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات، ساهم الذكاء الاصطناعي في تسريع وتيرة البحث العلمي، خاصة في مجالات الأدوية، والطاقة، والمناخ. كما أدى إلى تخفيض تكاليف الابتكار، مما يُمكّن الشركات الناشئة من المنافسة في مجالات كانت سابقًا حكرًا على الشركات العملاقة.
مواقف المعارضين: الذكاء الاصطناعي كتهديد اقتصادي بنيوي
رغم الحماس الذي يُبديه أنصار الذكاء الاصطناعي، فإن معارضيه يُثيرون مخاوف جوهرية تتجاوز المسائل التقنية إلى بنية الاقتصاد العالمي نفسه. يرى هؤلاء أن الذكاء الاصطناعي، في صيغته الحالية، وجوهر أدائه التقني، لا يخدم التنمية الشاملة، بل يُكرّس الاحتكار، ويقضي على الوظائف، ويُعمّق الفجوة الطبقية، ويُضعف قدرة المجتمعات على السيطرة على مستقبلها الاقتصادي ويمكن تلخيص دعوات المنتقدين في النقاط التالية.
تهديد سوق العمل وتفكيك الطبقة الوسطىيشير المنتقدون إلى أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى فقدان الملايين من الوظائف، خاصة في المجالات المتوسطة المهارة التي شكلت تاريخيًا عماد الطبقة الوسطى. فعلى سبيل المثال، تعمل تقنيات الترجمة الآلية على تقليص الحاجة للمترجمين، وتقوم خوارزميات المحاسبة بتقليل الطلب على المحاسبين التقليديين، بينما بدأت السيارات ذاتية القيادة تُهدد وظائف سائقي الأجرة والنقل.
وفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2023)، من المتوقع أن تستبدل الأتمتة نحو 85 مليون وظيفة بحلول العام 2025، رغم خلقها وظائف جديدة. إلا أن هذه الوظائف تتطلب مهارات عالية في البرمجة، وتحليل البيانات، والرياضيات، وهي مهارات لا تمتلكها الغالبية العظمى من العاملين حاليًا. هذا الخلل قد يؤدي إلى بطالة هيكلية مزمنة وتآكل الاستقرار الاجتماعي.
تعميق الاحتكار وتركيز الثروةيرى كثيرون، ممن يقفون في وجه توسيع نطاق استخدامات الذكاء الاصطناعي، أنه بوعي أو بدون وعي، يُعزز من هيمنة الشركات الكبرى، خاصة تلك التي تمتلك البيانات الضخمة والبنى التحتية السحابية. فشركات مثل Google وMeta وAmazon تملك من المعلومات والقدرات الحسابية ما يُمكّنها من احتكار الابتكار وتوجيه السوق وفق مصالحها. وهذا الوضع يخلق ما يسميه بعض الاقتصاديين "الرأسمالية الخوارزمية"، حيث يتحول السوق إلى مساحة مغلقة تديرها خوارزميات بلا شفافية.
هذا التركّز لا يُضعف فقط المنافسة، بل يخلق فجوة عميقة بين الشركات العملاقة وبقية الفاعلين الاقتصاديين، ويمنع الشركات الناشئة في الدول النامية من الدخول الجدي إلى السوق.
إخفاقات أخلاقية وتمييز منهجيالعديد من حالات سوء استخدام الذكاء الاصطناعي كشفت عن ميل هذه التكنولوجيا إلى إنتاج نتائج متحيزة وغير عادلة. تعود هذه المشكلة إلى أن نماذج الذكاء الاصطناعي تُدرَّب على بيانات تاريخية تعكس أوجه التمييز الطبقي أو العرقي أو الجندري في المجتمع. على سبيل المثال، في عام 2018 اضطرت شركة Amazon إلى سحب نظام توظيف آلي تبين أنه يقلل تلقائيًا من تقييم السير الذاتية للنساء.
تنعكس هذه التحيزات في القرارات الاقتصادية: من يُمنح قرضًا؟ من يتم قبوله في الوظيفة؟ من يُصنف كزبون مميز؟ الذكاء الاصطناعي هنا لا يُعيد إنتاج التمييز فقط، بل يُخفيه تحت قناع "الحياد الرقمي".
تقويض السيادة الاقتصادية الوطنيةيرى النقاد أن الذكاء الاصطناعي، وخاصة في مجال صنع القرار الاقتصادي، يُضعف قدرة الدول على التحكم في سياساتها. فمع ازدياد الاعتماد على خوارزميات خارجية في القطاعات الحيوية، تفقد الحكومات، وعلى وجه الخصوص حكومات الدول الصغيرة أو النامية، السيطرة على أدوات الرقابة والتنظيم. في حالات عديدة، باتت قرارات تتعلق بالإقراض أو التوظيف أو الاستثمار تُتخذ بناء على أنظمة خوارزمية مملوكة لشركات خاصة لا تخضع للرقابة العامة.
الأمر لا يقتصر على الدول النامية، بل يمتد إلى الاقتصادات المتقدمة، حيث بدأت البنوك والشركات الكبرى تعتمد على نماذج ذكاء اصطناعي من تطوير شركات خارجية، ما يخلق تهديدًا حقيقيًا لـ "السيادة الاقتصادية الرقمية".
نشوء أزمات اقتصادية خوارزميةأحد المخاوف الكبرى يتعلق بالقدرة المحدودة للبشر على توقع وتفسير سلوك أنظمة الذكاء الاصطناعي المعقدة. فقد نشهد في المستقبل أزمات مالية أو تجارية أو استهلاكية ناتجة عن قرارات آلية غير مفهومة أو تفاعل تلقائي بين أنظمة متنافسة. مثال على ذلك ما حدث في "الانهيار الخاطف" (Flash Crash) في بورصة نيويورك عام 2010، حيث أدت معاملات آلية إلى انهيار الأسواق خلال دقائق دون تدخل بشري.
لذا يحذر المعارضون من أخطار تنامي استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي أنه إذا استمر الاعتماد المفرط على أنظمة لا يمكن تفسيرها أو مساءلتها، فقد نصل إلى نقطة تفقد فيها المؤسسات الاقتصادية سيطرتها على أدواتها نفسها.
رابط مختصر