عربي21:
2025-12-14@04:00:15 GMT

الثورة في الثورة

تاريخ النشر: 18th, January 2025 GMT

أحيت تونس مهد الربيع العربي يوم 14 جانفي /يناير2025 الذكرى الخامسة عشرة لثورة الحرية والكرامة المجيدة، التي فجرها الشاب المكافح محمد البوعزيزي بأقوى ما عنده من روح الأنفة والكرامة في حركة احتراق تراجيدي عمدت حلقاتها الاحتجاجية المتلاحقة التي عمت جميع جهات الوطن التونسي المهمشة ليشتد لهيبها في شارع الثورة بالعاصمة وينهي مساء يوم 14 يناير 2011 "ببن علي هرب" هرب الرئيس المخلوع تاركا وراءه مخاوفه واقبيته وظلاميته وافعاله التي بلغت منتهاها واترجف ـ بعد فوات الأوان ـ من مآلاتها.



وفي قراءة متأنية لمسارات الثورة ونجاحاتها وإخفاقاتها وما انتهت إليه من وأد لتطلعاتها اخترنا عنوان "الثورة في الثورة" اقتباسا لعنوان كتاب المناضل الأممي ريجيس دوبريه حين أجري مراجعات مفصلية ذات أهمية للفاعلين الميدانيين. وعسى أن ينجح الفاعلون الميدانيون في إجراء مراجعاتهم الضرورية لتجاوز الفشل الذي ضرب مساراتهم.

وتحضرني هنا معارضة شعرية للنشيد الخالد لأبي القاسم الشابي الذي صدحت به حناجر الثوار تساوقا مشاعر الألم والامل:

إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد ان يستجيب القدر
أبا قاسم يا بديع الزمان
تمهل قليلا هنا واصطبر
فماذا تقول لك الكائنات
إذا غاب محورها واستتر
هل الشعب يوما بحق أراد
وهل يا ترى يستجيب القدر

قبل سنوات عشر من مئوية الوفاة للشاعر الزيتوني العربي التونسي الكبير أبي القاسم الشابي 1934 وبعد 15 سنة من مئوية الميلاد 1909 لم تزل أشعاره روحا ثائرة جعلت منه ايقونة لثورات الربيع وشعارا اضاء تطلعات ثوار تجاوزت اصداؤهم الوطن العربي الى عواصم أوروبية وامريكية. وهو ما جعل من الربيع منعرجا تاريخيا له ما بعده.

تأتي ذكرى الثورة التونسية المجيدة في هذه السنة ضمن تغيرات جغرافية واستراتيجية متتالية. لكن من يراقب أوضاع الربيع اليوم سيلاحظ ضمورا وانكفاء وتراجعا أدى إلى النكسة والفشل والانكسار. قد تفتح الثورة السورية اليوم على أفق جديد إذا انتصرت على العقل التقليدي وتخطت مستنقعات الطائفية. إلا أن عموم الحصائل المسجلة في بقية بلدان الربيع تكشف سيطرة للثورة المضادة وردة عن الديمقراطية والحرية وعودة ـ نأمل أن تكون مؤقتة ـ إلى زمن الجليد وإغراق راية النجمة والهلال في الظلام بكل ما تعنيه من رفض:

ـ لحقوق المواطن التونسي والعربي في التحرر
ـ  لتمسك الوطن العربي بوحدته وعزته
ـ لحقوق الشعب في الحرية والعدالة الاجتماعية والتطور التنموي والعيش الكريم.

مع ما يرافق ذلك من تقاليد الاستبداد وسلوكيات عسس الليل وزوار الفجر.

فما الذي يحصل في تونس؟

هل بات السؤال صعبا وممنوعا. كيف انتهت ثورة الربيع العربي التي كانت تونس وردتها المنفتحة وزنادها القادح للحراك العربي إلى هذا الحصار والفقر السياسي والمعرفي والاقتصادي الاجتماعي.

قد تفتح الثورة السورية اليوم على أفق جديد إذا انتصرت على العقل التقليدي وتخطت مستنقعات الطائفية. إلا أن عموم الحصائل المسجلة في بقية بلدان الربيع تكشف سيطرة للثورة المضادة وردة عن الديمقراطية والحرية وعودة ـ نأمل أن تكون مؤقتة ـ إلى زمن الجليد وإغراق راية النجمة والهلال في الظلام بكل ما تعنيه من رفضأليس غريبا أن يكون اغلب قيادات الصف الأول والثاني من مختلف ألوان الطيف السياسي الحزبي والمدني للحركة الديمقراطية والوطنية الإسلامية رهائن في سجون منظومة التصحيح التي لم تعد تهتم او تلتزم بالنظام الجمهوري للدولة؟

والأغرب من ذلك أن القادة المسجونين ورغم العقاب الجماعي الذي يوحدهم لا زال بينهم برزخ لا يبغيان. ولم تدفعهم بعد معاناة المواطنين في الحواضر والأرياف والجهات المهمشة إلى ضرورة توحيد الرؤية والممارسة حول الحركة الديمقراطية، واسترجاع الثورة، وأهدافها العامة، والاستراتيجية.

عشرية مرتبكة

ويحق لجميع المواطنين والفاعلين السياسيين أن يتساءلوا عن الأسباب التي أدت بعشرية الثورة المربكة والمرتبكة وخماسية التصحيح الى هذه الحال؟

سيقال إن الأسباب موضوعية تقاطعت فيها التطورات الإقليمية والجيوسياسية وموجات الثورة المضادة التي جندت كل اساطيلها الإعلامية والمالية والأمنية لإجهاض الثورة في تونس والاجهاز على المشروع الديمقراطي. اضافة الى أدوار لعبتها الأجهزة الأمنية والأيديولوجية والمالية للنظام القديم في زواج متعة كاثوليكي مع منتهكي السيادة الوطنية لدولة الثورة.

إلا أن هذه الإجابة وحدها لا تسمن ولا تغني أمام حجم التحدي الذي واجهته الثورة من النيران الصديقة للداخل وعوامله الذاتية قبل الإغراق في العوامل الخارجية، رغم كونها عوامل حاسمة وصلبة لا يمكن تجاهلها ولا يمكن لها أيضا أن تكون الشجرة التي تخفي الغابة.

البعد الاجتماعي والبعد الديمقراطي

اندلعت ثورة 17/ ديسمبر 2010 في بعدها الاجتماعي من الهامش الجغرافي والسكاني التونسي في حلقات من الحركة الاحتجاجية الاجتماعية بمختلف المدن التونسية وبلغ أوجها إلى العاصمة في 14 يناير 2011 متوجة ببعد سياسي أنهي 65 سنة من الهيمنة والاستبداد الاوتوقراطي للنظام البائد ببعديه الدستوري والتجمعي.

إلا أن البعدين السياسي والاجتماعي للثورة قد افترقا منذ الأيام الأولى للثورة وذلك بحكم اختلاف القيادات وتنازعهم حول الترتيبات التأسيسية للدولة في قصر قرطاج والقصبة وباردو / الرئاسة والحكومة ومجلس نواب الشعب. وبقيت القاعدة الاجتماعية للثورة تلعق دماءها وتنتظر. وكانت تلك أولى نقاط الضعف التي اصابت الثورة في مقتل.

ورغم ما أشاعته حكومة الترويكا من حريات في التنظيم والتظاهر والاعلام والتعبير فإنها لم تجب عمليا عن التحديات التي تخص:

ـ الوضع الجديد للفئات المهمشة والمحرومة
ـ إادماج ضحايا الاستبداد
ـ الإحاطة بجرحى وضحايا الثورة
ـ التحويل العملي لجماهير الشعب الذين عاملهم النظام القديم كرعايا وكقبضة من غبار إلى مواطنين احرارا في وطن حر يتمتع فيه الجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات.

ـ تحويل المواطن من الوظيفية الى العضوية بالمصطلح الغرامشي او من السلبية الى الفعالية السياسية.

ـ مالات ومخاطر التناقض بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية. وفي غياب ذلك الوضوح تسلل التغول الحقيقي للثورة المضادة وانقلابات التوافق والتصحيح.

وباتت تلك حال المشهد السياسي الذي تغلبت فيه أيديولوجيا الرغبة على ابستمولوجيا الإرادة الحرة والمشتركة وذلك رغم الجهود المبذولة لإنجاح عمومي للثورة ومحاولة التقرب ولو الشكلي من نبض الشعب.

لقد كان الانقسام حادا داخل مكونات الطيف السياسي والمدني حول:

ـ باراديغم الإفشال المتمثل في اعادة انتاج النمطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام القديم في مرحلتيه الدستورية والتجمعية وبناء "ديمقراطية لطفاء" بدون إسلاميين تقتصر على اليسار الوظيفي والليبرالية الريعية والبرجوازية الطفيلية. وفي غمار نشوة بدايات الانتصار الثوري اعلن عديد المثقفين والسياسيين عن نهاية البورقيبية والحال انه كان يتوجب على  العقل السياسي للثورة ان يعمل على إنهاء البورقيبية قبل اعلان نهايتها.

ـ  باراديغم الثورة المتمثل في محاولة ارساء ديمقراطية تستوعب جميع التونسيات والتونسيين المتساوين في الوطن والمواطنة.

ولم يكن الإصرار الخطابي والإعلامي على مبدأ "ديمقراطية بدون إسلاميين "التي انتهت إلى "ديمقراطية دون ديمقراطيين" في لحظتي حكم بن علي وحكم التصحيح لـ 25 يوليو2021، إلا إصرارا متهافتا يعكس غرق طيف هائل من الفاعلين في مستنقع الرومانسية والميتافيزيقا السياسية التي تتخطى الواقع السياسي إلى ما ورائياته.

ورغم أن الإسلاميين لم يدعوا حقا فوق حقوق المواطنين ولم يدعوا أنهم شعب الله المختار ولا أنهم وكلاء الحكم اللاهوتي إلا أن الطيف المقابل الرافض لوجودهم والحالم برميهم في البحر ضاع في متاهة التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي، وهي معادلة تشربوها بدغمائية لاهوتية عبأتهم بمشاعر الكراهية والعنصرية، ففضلوا التعامل مع الثورة المضادة والبرجوازية الطفيلية على أن يستكملوا أهداف الثورة الوليدة.

النبي والبروليتاريا

كريس هارمن المنظر الماركسي البريطاني وعضو اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي ببريطانيا ورئيس تحرير مجلة العامل الاشتراكي ثم مجلة الأممية الاشتراكية كان له موقف آخر من التحالفات الثورية ورأي مختلف حول دور الإسلاميين في الثورة سجله في كتابه الشهير "النبي والبروليتاريا" ذكر فيه أن للإسلام الشعبي أهمية كبرى ودور فعال في حياة المسلمين. "فهو يتشكل بناء على تفاعل بين الإسلام كدعوة والعادات والتقاليد المحلية لكل مجتمع، بل ولكل منطقة في نفس المجتمع".

ولذلك كله: فالدعوة للعودة لممارسات النبي ليست بالضرورة دعوة للعودة إلى الماضي، إنها دعوة للتمرد ضد الحاضر وتبني سلوكات واختيارات جديدة. فقد كان الإسلام حاضرا في مواجهة الغزاة الأجانب.. وأضاف أن العودة إلى البداية هي رفض للحاضر من أجل التغيير، واعتبار البداية مصدرا ثوريا يضمن التعبئة، ويضمن التضحية. وأشار في ثنايا كتابه إلى أن الحركات الإسلامية لا تدعو إلى العودة للاقتداء بالماضي، لأن هذا أمر مستحيل أصلا، "فالتطلع لإعادة خلق ماضٍ مثالي هو تعبير عن إرادة لتغيير المجتمع الحالي تغييرا جذريا". كما ينبغي "التمييز بين الإسلاميين وبين التقليدانيين، فالأمر يتعلق عند الإسلاميين بالإصلاح وليس بالدفاع عن التقليد". فالتقليدانية الإسلامية تريد إدامة الواقع والحفاظ عليه مادام يخدم الطبقات المسيطرة، أما الحركات الإسلامية فهي حاملة لإيديولوجية تهدف إلى تغيير المجتمع، لذلك لا يمكن وصفها "بالتمامية" (أو الشمولية أو التزمتية، أي الدعوة للحفاظ على المذهب كما هو في كليته) لأن "التمامية تحيل على التصلب الديني والنقاء الثقافي والتقليدانية السياسية والمحافظة الاجتماعية ومركزية المبادئ العقائدية ورفض العالم الحديث".

لم يكن الإصرار الخطابي والإعلامي على مبدأ "ديمقراطية بدون إسلاميين "التي انتهت إلى "ديمقراطية دون ديمقراطيين" في لحظتي حكم بن علي وحكم التصحيح لـ 25 يوليو2021، إلا إصرارا متهافتا يعكس غرق طيف هائل من الفاعلين في مستنقع الرومانسية والميتافيزيقا السياسية التي تتخطى الواقع السياسي إلى ما ورائياته.ترتكز الحركات الإسلامية "على الملاءمة الإيديولوجية والمرونة الثقافية إضافة إلى رفض الوضع القائم وأخذ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بعين الاعتبار". ونظرا لقابلية الخطاب الإسلامي للتأويلات فيصعب التمييز دوما بين الحركات الإسلامية والتقليدانية، وينبغي التأكيد على ما قامت به الحركات الإسلامية في غزة ولبنان وإيران واحتجاجات الإسلاميين في بلدان عديدة ضد غزو العراق ومن اجل فلسطين. /انتهى كلام هارمن.

كانت تلك آراء وانطباعات المنظر الماركسي كريس هارمن التي يتابع التحولات من بعيد، فما هي حال رفاق الوطن الواحد وحتى أبناء المنحدر الطبقي الواحد مع اسلامييهم؟

لقد كان حضور الاسلاميين الفاعل في الثورة حجة على تهافت معادلة التناقض على قاعدة الحداثة التي اعتمدها الحداثويون لأن طيفا من الإسلاميين يتطلع أيضا الى مقاربات جديدة في الحداثة، والتحديث، والتقدم والتقدمية.

الأيديولوجيا والجمود النظري

اندلعت الثورة في تونس وعجزت الطبقة السياسية والمدنية من تشكيل قيادة موحدة وإعداد خطط وبرامج وخارطة طريق للثورة نظرا للجمود النظري وكوابحه البنيوية لدى جميع الأطراف. وهو ما وفر للنزعات اليمينية للنظام القديم من اغتنام اللحظة المربكة وإعادة إنتاج سياساتها باسم التواصل في الدولة.

لقد كانت الأيديولوجيا المتصلبة والدغمائية لعدد من المكونات السياسية والمدنية للثورة أكثر فاعلية وسمكا وارتفاعا من جدار برلين في التفريق بين أبناء القضية الواحدة.

فقد تمسك كل طرف بعقائديته على انها الحق وانجيل الخلاص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه او من خلفه. وتحولت الأفكار والمقاربات الى تيولوجيا سياسية او لاهوت سياسي لا فكاك منه الا بالإذعان او النفي. إذ لا يقبل التفاعل والمثاقفة والنقاش والحوار بين المختلفين. فيسوسون الناس بالحق ويتجاهلون الحقيقة الاجتماعية والسياسية الماثلة بين أيديهم.  ويشترك في ذلك عديد الفاعلين من اليسار الماركسي والإسلاميين والقوميين ومدعي الليبرالية.

النقد والنقد الذاتي

ويكشف ذلك اهم خطأ ارتكبه عديد الفاعلين ويتمثل في غياب ثقافة النقد وممارسة النقد الذاتي. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم/سورة الرعد الآية11 /.

 أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ/سورة ال عمران165 /

وهو نقد يفتح على تجاوز الأخطاء الظرفية والبنيوية وتجديد الوعي والممارسة وملاءمة مشاريع البرامج والخطط التشغيلية مع متطلبات الواقع ومتغيراته.

تعددت قراءات المفكرين النقديين مثل سلامة كيلة وياسين الحاج صالح وفؤاد مرسي والسيد ياسين ولطفي الخولي من التيار الماركسي وسعد الدين إبراهيم وعياض بن عاشور وبرهان غليون من التيار الليبرالي وعصمت سيف الدولة من التيار القومي وخالص جلبي وعبد الله النفيسي وفهمي هويدي من التيار الإسلامي. إلا أن تلك المقاربات لم تصل إلى وعي مختلف ألوان الطيف السياسي وهو ما غلب أوضاع الهشاشة الميدانية والتباينات الحادة.

الرافعة الديمقراطية

وباتت الديمقراطية مجرد آلية للتسوية السياسية والانتخاب والاحتكام إلى صناديق الاقتراع والتداول السلمي على السلطة. وهي آليات إذا بقيت مجردة دون اعتمادها على تعميق الثقافة الديمقراطية وتركيز بيئتها المفهومية وتعميمها على المواطنين ستكون عائقا أمام المشروع الديمقراطي للمجتمع التونسي وسياتي من يقايض الديمقراطية بالخبز والزيت والسكر وخطابات الديماغوجيا العالية.

الدولة والدولة الوطنية

كانت ثورات الربيع إيذانا بنهاية النظام العربي الرسمي بأجهزته المادية والأيديولوجية وهو ما حشد كل ترساناته المالية والإعلامية والديبلوماسية من أجل الإجهاز عليها وانهائها. وهو ما حصل فعلا لكن في دورة من دورات المعركة وليس في جميع دوراتها، فقد علمنا التاريخ أن التحولات والمنعرجات الكبرى في التاريخ لا تأتي هكذا بين عشية وضحاها.

لقد كانت الأيديولوجيا المتصلبة والدغمائية لعدد من المكونات السياسية والمدنية للثورة أكثر فاعلية وسمكا وارتفاعا من جدار برلين في التفريق بين أبناء القضية الواحدة.ولكن تعثر النظام العربي الرسمي يؤكد أن الدولة الوطنية التي تأسست غداة الاستقلال لم تستوف شروط راهنيتها في الزمان والمكان وفي الاجتماع والاقتصاد السياسيين ولا شروط تمثيلها لشعوبها وشروط التتويج العملي لملاحم بطولات معارك التحرير الوطني وشهدائها. وظلت تسوس شعوبها في ظل تبعية ركنت حدث الاستقلال بين قوسين وتجاهلت مشاريع النهضة والتنوير والتطور العلمي والمعرفي واستراتيجيات الحداثة والتحديث الموعودة رغم مسحة التحديث الظاهرة والمتفاوتة من نظام عربي إلى آخر.

فتحت الثورة أفقا جديدا لاستكمال أضلاع الدولة الوطنية الجديدة وشروط نهوضها واستقلاله وتحديثها إلا أن عديد السياسيين المعارضين وحديثي العهد والتجربة بالحكم كانوا لا يفرقون بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام ومفهوم السلطة ومفهوم الحكم، مما أقعدهم عن إعادة انتاج السياسة وإعادة توزيعها وفقا لأهداف الثورة ووجدان الثائرين.

ونظر عديد الفاعلين السياسيين الى الدولة على أنها كيان مقدس أو هيكل محايد. والحال أن الدولة لا تستقر ولا تفرض هيبتها الا بعصبية داعمة كما يقول ابن خلدون وطبقات اجتماعية حاضنة وقاعدة اقتصادية وطنية مثمرة ومحفزة صانعة للخيرات والخبرات والثروة ومادة التوزيع العادل له.

 فقد عملت الوزارات كأنها جزر متناثرة بتسيير إداري وبيروقراطي محافظ ليس بينها ناظم سياسي وتصور استراتيجي للمدى القريب والمتوسط البعيد. وبقيت وزارات السيادة بيد المنظومات المحافظة للنظام القديم تواليه وتعيد إنتاجه، بعد نزاع عبثي حول تحييد وزارات السيادة، ولم تتولها الثورة إلا بعضا من سنة وبضعة أشهر. فتجردت دولة الثورة من شروط قوتها وهيبتها ومن ووظائف الاحتكار المشروع للقوة الصلبة. وباتت نهبا للتنازع والانقلاب.

نجاحات وإخفاقات حركة النهضة

وطبيعي أن ينصب اهتمام الإعلاميين والمراقبين المحليين والإقليميين والدوليين على حركة النهضة باعتبارها أهم مكون من مكونات المشهد السياسي في دولة الثورة.

ولئن حققت حركة النهضة نجاحات في مختلف محطات التمثيل الانتخابي إلا أنها أخفقت في استثمار ذلك النجاح في النقلة النوعية بأنصارها ومناضليها وتحويل تلك القاعدة الانتخابية الواسعة إلى مواطنين عضويين في المشروع الوطني ضمن تحالفات طبقية ووطنية تكون حاضنة للمسار الثوري والديمقراطي.

  فقد واجهت الحركة أعتى حملات الشيطنة بأضخم ترسانة مالية وإعلامية ولوجستية خاصة بعد الانقلاب المصري وارتداد موجة الربيع في سوريا.

ولم تستند الحركة إلا على مناضليها الذين انهكتهم السنون واستهلكتهم العذابات في المنافي والسجون رغم ما التزموه من صمود وتعلق فلكي بحلم وامل قد تأتي به مقدرات الأسباب والسنن.

ولم تكن ردود حركة النهضة ولا جاهزيتها في حجم تلك الحملات، واكتفت بالتطمينات والدفاعات الناعمة. لم تتمرس على الاعلام الحرفي والموضوعي ولم تتكيف مع ثقافة الصورة واستراتيجيات الاتصال والتواصل والومضة التعريفية والسينما والبرامج الحوارية المعبأة بالمضامين البرنامجية والثقافية لمشروعها الوطني والاستراتيجي. رغم كثرة لجانها الوظيفية التي اغرقت في مصارعة طواحين الذباب الإلكتروني، ودعاوي القنوات التلفزيونية الموجه.

التوافق

بدت سياسة التوافق الذي جمع الشيخين راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة والباجي قائد السبسي رئيس حركة نداء تونس ورئيس الجمهورية التونسية سياسة استثنائية ناجحة أدت إلى نوع من الهدنة والاستقرار السياسي امتد على سنوات خمس من العهدة الرئاسية والبرلمانية 2014/2019.

لم يرتكز التوافق على بنية تعاقدية واستراتيجية أو فلسفة سياسية لها خارطة طريق وخطط تنفيذية وتشغيلية. وإنما بنيت تلك السياسة على نوايا حسنة سرعان ما تصدعت في أول اختلاف حصل بين رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد.

البرنامج الاقتصادي والاجتماعي

وغاب عن الحركة رباطها الوثيق مع قاعدتها الاجتماعية ومنحدرها الطبقي الذي يجمع الشرائح الفقيرة والمفقرة ومزارعي الأرياف والطبقة الوسطى ورجال المال والأعمال الوطنيين وضاعت أدبياتها الاجتماعية حول خلق الثروة واعتماد الثورة العلمية والمعرفية والتكنولوجية ورسم استراتيجية في تصنيع المواد الأولية وتطوير البنى التحتية واسترجاع حقوق المستضعفين، ضاع كل ذلك بين أدراج الروتين اليومي لإدارة ما ورثته الحركة وحلفاؤها عن النظام البائد من ليبرالية طفيلية طرفية تابعة ومتوحشة ومناويلها الصدئة.

التنظيم

أغلى ما كانت تتباهى به حركة النهضة وتبز به نظراءها هو تنظيمها الحركي، وانتشاره الهرمي.. إلا أن التصدعات التي حصلت في المشهد السياسي وموجة تزييف الوعي التي انتشرت كالنار في الهشيم والتي تولاها ما سماه الفيلسوف الفرنسي "باسكال بونيفاس" بالمثقفين المزيفين وانتصار الإعلام الكاذب، لم تكن تلك التصدعات والحملات بمنأى من أن تصيب التنظيم الحركي بحريق التشققات الهيكلية والدراماتيكية حتى هجرت الحركة جميع الملفات الاستراتيجية والتربوية والروحية وبات شغلها الشاغل هو عقد المؤتمرات من أجل إقالة الرئيس المؤسس راشد الغنوشي. وكأن الانتقال القيادي هو الممر الوحيد للتجدد والتجديد. والحال أن التجدد يهم العقل السياسي والاستراتيجي والمشروع الوطني والتنويري لحركة لم تنجز بعد قطائعها المعرفية ولم تجدد تمثلها الديمقراطي والعلمي للإسلام وأنسجته السوسيولوجية والوطنية وأبعاده الإنسانية والوجودية ومجالاته الجيوسياسية والتاريخية وافاقه الروحية الرسالية. ولم تزل الحركة سجينة المركزية والتنظيم الهرمي الكلاسيكي ولم تنتقل إلى المنوال الشبكي للتنظيم الديمقراطي الحديث والمفتوح على الفضاءات الاجتماعية وعلى الحركة الشبابية والنسوية وشبكات المجتمع المدني وجمعياته وعلى الروح الوطنية العامة والجامعة للفعاليات والارادات الشعبية.

كانت تلك الانشقاقات والتصدعات أولى مقدمات الهشاشة البرلمانية التي تسللت منها منظومة الاستبداد والفساد اليمينية القصووية المتطرفة للانقلاب على الثورة فوق مدرعات ودبابات  "التصحيح ".

المأساة والثورة

ولئن توحدت مأساة العائلات المرابطة أمام سجن المرناقية وتشابكت أيديهم المضرجة لتدق أبواب الحرية الحمراء فإن قادة الحركة الوطنية الإسلامية والديمقراطية لم يتوصلوا بعد في لحظة الذكرى الخامسة عشرة لثورة الحرية والكرامة المجيدة إلى أرضية الحد الأدنى للاتفاق والتعاقد الاجتماعي والوطني حول التأسيس الثاني للثورة. لكن وقوف جميع الفاعلين أمام اخطائهم ومتاهاتهم البنيوية والاعتراف بها والاحتكام إلى آلية النقد والنقد الذاتي والتجاوز من طفولية التشظي وغوغائياتها إلى الالتقاء الاستراتيجي حول الوطن، سيكون الطريق الضروري والوحيد للتجديد والتجدد وإنجاز الثورة في الثورة كما كتب وأسس المناضل الأممي الكبير "ريجيس دوبريه".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تونس الثورة السياسة تونس ثورة سياسة رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکات الإسلامیة حرکة النهضة الثورة فی من التیار فی الثورة لقد کان وهو ما إلا أن

إقرأ أيضاً:

هل تحالف الإسلام السياسي وقوى اليسار لنصرة فلسطين؟

"حين يكون الإسلاميون في المعارضة، يجب أن تكون قاعدتنا: مع الإسلاميين أحيانا، وضد الدولة دائما" من كتاب "النبي والبروليتاريا" لمؤلفه المفكر الاشتراكي البريطاني الراحل كريس هارمن، والذي قدم فيه رؤيته للثورة الإسلامية في إيران.

ثمة ما يسوِّغ تسليط الضوء على بروبوغاندا التحالف الأخضر الأحمر، كما يروج له مناصرو الصهيونية، محاولين ربط الحراك العالمي من أجل فلسطين بتحالف قائم ومنظم بين الإسلام السياسي واليسار، ساعين لإضفاء صبغة أيدولوجية راديكالية تبدو منفرة في الغرب.

وهو تعبير لا يختلف من حيث منطلقات وغايات الربط التضليلي بمساعي ربط الإسلام بالإرهاب.

فما هي حقيقة ائتلاف الأخضر مع الأحمر؟ وما هو السياق التاريخي والفكري الذي تتقارب فيه الحركات الإسلامية مع اليسارية؟ وكيف تحاول إسرائيل توظيفه؟

متظاهرون يرفعون الأعلام واللافتات خلال مسيرة تضامنية مع الفلسطينيين في سيدني بأستراليا (الفرنسية)العداء للسامية

تحاول مراكز الأبحاث والصحف العبرية اختزال الحراك العالمي من أجل فلسطين بألوان أيديولوجية تبدو راديكالية ومتنافرة في ذات الوقت، محاولة تصوير الحراك الحر من أجل فلسطين بتعدديته الواسعة، كتحالف تآمري "لقوى ظلامية" متناقضة جوهريا لكنها تجتمع على "العداء للسامية".

ويتجلى هذا الاختزال عبر مستويات مؤسسية متعددة ومتكاملة، انطلاقا من مبدأ "مكافحة نزع الشرعية" الذي أسّس له معهد ريوت الإسرائيلي في تقريره تحت عنوان "بناء جدار ناري سياسي ضد نزع الشرعية عن إسرائيل".

يصنف التقرير أي خطاب مناهض للتطرف الإسرائيلي أو يشكك في يهوديتها أو يُساوي بينها وبين نظام الفصل العنصري بوصفه تهديدا وجوديا، ويضع حركة المقاطعة والناشطين الأكاديميين ومنظمات حقوق الإنسان في خانة "شبكة نزع الشرعية" التي تستوجب الملاحقة والمواجهة.

وبموجب هذا، يتحول حتى النقد السياسي للاحتلال والمطالبة بحقوق الفلسطينيين من حيّز الخلاف المشروع وفقا لمبادئ الديمقراطية إلى فعل عدائي يتطلب المواجهة.

إعلان

وقد تبنّت الحكومة الإسرائيلية هذا الإطار المفاهيمي، فأوكلت إلى وزارة الشؤون الإستراتيجية منذ عام 2015 مهمة "قيادة الحملة ضد حركة المقاطعة ومحاولات نزع الشرعية عن إسرائيل"، وصرّحت مديرتها العامة سيما فاكنين غيل، الرقيبة العسكرية السابقة، أمام الكنيست بأن "الانتصار يعني ألا تكون الرواية السائدة في العالم أن إسرائيل تساوي الفصل العنصري".

أما على الصعيد الأكاديمي البحثي، فتتضافر جهود شبكة من مراكز الفكر الإسرائيلية في تغذية المفهوم وترسيخه، وأنتج مركز القدس  للأمن والشؤون الخارجية مواد حول "التحالف الأخضر الأحمر".

كما أصدر سلسلة من الدراسات تصف الحراك الداعم لفلسطين بأنه بيئة خصبة لدعم حركة المقاومة الإسلامية حماس، بالإضافة إلى إدراج منظمات كـصوت يهودي من أجل السلام وطلاب من أجل العدالة في فلسطين ضمن هذا التحالف.

وتتولى مؤسسات مثل معهد دراسة معاداة السامية في واشنطن ترويج هذه الأطروحات في الأروقة السياسية الأميركية وتعمل بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية، كما تمول الوزارة مراكز بحثية مثل معهد دراسة معاداة السامية، وهو المعهد الذي وصف منظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين بالتبعية لجماعة الإخوان المسلمين.

وقد أفردت وزارة شؤون الشتات ومكافحة معاداة السامية في تقريرها السنوي الصادر في أبريل/نيسان الماضي نقاشا تفصيليا حول "التحالف الأخضر الأحمر" ضمن توصيف التهديدات التي تواجه إسرائيل.

اختزال الحراك

يوكد حجم الاحتجاجات وتركيباتها المتنوعة ما يناقض اختزال الحراك العالمي الداعم لفلسطين بتحالف "تآمري مشبوه" بين اليسار والإسلاميين. فقد وثق اتحاد إحصاء الحشود في كلية كيندي بجامعة هارفارد على سبيل المثال ما يقارب 12400 احتجاج مؤيد للحق الفلسطيني ورافض للإبادة عبر الولايات المتحدة بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويونيو/حزيران 2024.

ووثق المعهد ذاته 3700 يوم احتجاجي فيما يزيد عن 500 مؤسسة أكاديمية أميركية، واعتبر ذلك أطول موجة احتجاجات أثارها حدث خارجي في الولايات المتحدة منذ بدء جمع البيانات في 2017.

وشملت تركيبة الاحتجاجات منظمات من فئات مختلفة، ففي جامعة كولومبيا، ضمت الاحتجاجات أكثر من 100 مجموعة طلابية منها ما هو روابط طلابية تخصصية، وروابط ذات أصول قومية أو جغرافية، وروابط طلابية دينية كرابطة "صوت يهودي من أجل السلام"، التي تضم 32 ألف عضو فاعل. وقد جمعت مخيمات الاحتجاج في 117 جامعة طلابا من السكان الأصليين، والطلاب السود واللاتينيين.

ومما يدحض اختزال الحراك بثنائية أيديولوجية انخراط رجال دين مسيحيين، فقد وقع -على سبيل المثال- أكثر من 140 أسقفا وقياديا كنسيا من طوائف متعددة تشمل الكاثوليك واللوثريين والمينونايت والكويكرز الانجيليين على وثيقة داعية الى وقف الحرب ووقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل.

وعلى صعيد الكنائس الأميركية الأفريقية، وقّع أكثر من 1000 قسّ أسود يمثّلون مئات الآلاف من أبناء الرعايا على عريضة تطالب بوقف إطلاق النار، ونشروا إعلانا كاملا في صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان "قادة الإيمان المسيحي السود من أجل وقف إطلاق النار".

إعلان

كما اعتُقل 135 من أتباع كنيسة المينونايت في مبنى الكونغرس في ديسمبر/كانون الأول 2023 وهم يرتّلون التراتيل الدينية ويطالبون بوقف إطلاق النار، وقد تبع ذلك احتجاج منظم لأتباع الكنيسة في 40 منطقة في الولايات المتحدة وكندا، وقد وصفته المنظمة الإنجيلية ريد لاتر كريستيان بأكبر يوم عمل مسيحي منسّق من أجل وقف إطلاق النار منذ بدء الحرب.

ولم يقتصر التنوع على الفضاءين الديني والأكاديمي، بل امتدّ إلى عالم الأعمال. ففي يناير/كانون الثاني 2024، على سبيل المثال، طالبت شركة "بن آند جيريز" للمثلجات -وهي شركة متعددة الجنسيات- علنا بوقف فوري ودائم لإطلاق النار.

وصرّحت رئيسة مجلس إدارتها أنورادها ميتال لصحيفة فايننشال تايمز بأنه "من المذهل أن الملايين يتظاهرون حول العالم في حين أن عالم الشركات صامت". وقد رفعت الشركة دعوى قضائية ضد شركتها الأم "يونيليفر" بسبب محاولات إسكات دعمها لحقوق الفلسطينيين.

تقارب ضمن حراك سياسي أوسع ومتعدد الألوان

غير أن نفي اختزال الحراك العالمي بثنائية أيديولوجية لا يعني إنكار وجود تقارب بين اليسار والجماعات الإسلامية في سياق الحراك الداعم لفلسطين، إذ تشير الشواهد الميدانية إلى أن هذا التقارب لم ينبثق من تآمر أو تنسيق سري، بل تَشكّل كرد فعل على الأفعال الإسرائيلية المجرّمة دوليا ضمن فضاءات ديمقراطية مشتركة.

ولعل "حراك فيرغسون-غزة" في صيف 2014 تُجسّد هذه الديناميكية بوضوح حين تزامنت الاحتجاجات ضد مقتل مايكل براون على يد الشرطة الأميركية مع الحرب الإسرائيلية على غزة التي أودت حينها بحياة 2200 فلسطيني.

وقد وصف المؤرخ روبن كيلي من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس هذا التزامن بأنه "العاصفة المثالية للتعبئة"، إذ أرسل ناشطون فلسطينيون عبر تويتر نصائح للمحتجين في فيرغسون حول كيفية التعامل مع الغاز المُدمع، في حين رفع المحتجون السود الأعلام الفلسطينية في شوارع المدينة.

وقد نتج عن هذا التضامن في 2015 ذهاب وفد من الناشطين إلى فلسطين بتنظيم من مؤسسة "حراس الحلم"، وضم الوفد مؤسِّسة حركة "حياة السود مهمة" باتريس كولورز.

كيف يتآلف الإسلام واليسار؟

تتخلص منطلقات اليسار لشراكة نفعية حذرة مع الإسلاميين في مقولات كريس هارمان أحد قادة حزب العمال الاشتراكي البريطاني في كتابه الذي أطلق عليه اسم "النبي والبروليتاريا"، وقد وضح فيه منطلق الشراكة مع الإسلاميين، إذ أفاد بوضوح "الإسلاميون ليسوا حلفاءنا"، لكنه دعا اليساريين إلى عدم التعامل معهم "تلقائيا كرجعيين وفاشيين" أو "تلقائيا كتقدميين ومعادين للإمبريالية " وأن "الشعور بالثورة لدى أتباعهم يمكن توظيفه لأغراض تقدمية".

في المقابل، يستند الإسلاميون في شراكتهم مع اليسار وغيرهم من الفاعلين المخالفين للعقيدة الإسلامية إلى تأصيلات فقهية كفقه الأولويات عند محمد الوكيلي والذي يجيز تأخير الخلافات الأيدولوجية لصالح مواجهة تهديدات أكبر.

بالإضافة إلى فقه الموازنات والمصالح المرسلة الذي يبيح التعاون على أهداف مشتركة كمقاومة الظلم بما لا يستلزم التوافق العقدي الكامل.

كما يستدعى الإسلاميون مفهوم حلف الفضول الذي شارك فيه النبي صلى الله عليه وسلم نصرة للمظلومين قبل بعثته، والذي ينظر إليه كنموذج للتحالف المرحلي على أساس أخلاقي مشترك غير عقدي.

هارمان: دعا اليساريين إلى عدم التعامل مع الإسلاميين "تلقائيا كرجعيين وفاشيين" أو "تلقائيا كتقدميين ومعادين للإمبريالية " (فليكر)عودة إلى التاريخ

تعود الجذور التاريخية للتقارب بين الإسلاميين واليساريين إلى الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وقد زار المفكر الفرنسي ميشيل فوكو إيران مرتين ونشر 13 مقالة يشيد فيها بالثورة كروحانية سياسية جديدة تمثل بديلا ما عن الحداثة الغربية.

ووفرت أعمال فكرية كأعمال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد التأسيسية الاستشراق والمسألة الفلسطينية بنية فكرية تغذي مساحة ربط مطاطية بين كلا التيارين، إذ ربط بين نقد الإمبريالية الغربية والاضطهاد الممارس ضد الفلسطينيين، والذي تضعه الحركات الإسلامية على سلم أولويات فعلها النضالي.

إعلان

ويرتكز التقارب بين الإسلاميين واليساريين على قيم مشتركة محددة مثل: مناهضة الاستعمار، والتضامن ضد الظلم وعنف الدولة غير المشروع.

وتُظهر الدراسات الأكاديمية، كدراسة كريستيان ديفيس بيلي المنشورة في مجلة "أميركان كوارترلي" عام 2015، أن الناشطين على جانبي النضال يرون روابط بين عنف الدولة والاحتلال والعرق، حيث يعاني الأميركيون السود والفلسطينيون من السيطرة العسكرية سواء من قوات الاحتلال الإسرائيلية أو من جهاز الدولة البوليسي الأميركي.

كما أن إطار "التقاطعية" الذي تبنته حركات العدالة الاجتماعية يوفر مساحة نظرية للتضامن دون الحاجة إلى تجانس أيديولوجي كامل.

وتؤكد دراسة لودفيغ سونّيمارك المنشورة عام 2025 في مجلة "علم الاجتماع النقدي" أن حركة التضامن الطلابية تُشكّل "بيئة تضامنية" تربط الطلاب النشطاء بفاعلين دوليين وبالقيادة الفلسطينية ضمن كتلة عالمية مناهضة للهيمنة، حيث تتكيف ممارسات التضامن وخطاباته باستمرار مع السياقات المحلية والوطنية والعالمية المتغيرة.

وبذلك، فإن التقاء الأخضر والأحمر في مساحات الاحتجاج لا يعكس مؤامرة مُدبّرة بقدر ما يعكس استجابة مشروطة ومحدودة لقضايا مشتركة، تتشكل عبر الفضاءات الديمقراطية من جامعات ومنصات رقمية وتجمعات احتجاجية، وتُحرّكها الأفعال الإسرائيلية أكثر مما يُحركها التنسيق المسبق.

مقالات مشابهة

  • نتنياهو يزعم: اغتيال رائد سعد القيادي بحماس بسبب أنشطة إعادة تسليح الحركة
  • دراسة: قلة الحركة تزيد خطر آلام الظهر المزمنة بنسبة 60%
  • كاريكاتير الثورة
  • شهداء الحركة الرياضية .. الحلقة 380 (نظير النشاش)
  • شرطة دبي تؤكد سلاسة الحركة المرورية خلال فعاليات مهرجان «شتا حتا»
  • الخدمات الاجتماعية العسكرية تكرّم عددا من ذوي الإعاقة من منتسبي القوات المسلحة
  • هل تحالف الإسلام السياسي وقوى اليسار لنصرة فلسطين؟
  • وزير العمل: ننتظر إقرار الموازنة أو تخصيص مالي لشمول فئات جديدة بالرعاية الاجتماعية
  • القضاء الأعلى يوبخ مسؤولًا بعد كتاب عن إسقاط النظام السياسي في العراق
  • الضباب يشلّ الحركة بمناطق عراقية والرؤية تتراجع لمسافات محدودة في بعضها (صور)