القحاتي الوحيد الذي لم يطاوعني قلبي على كراهيتهِ كان محمد الفكي.. الحقّ أقول لكم. يترآءى إليّ في خيالي على هيئةِ شخصيةٍ يمكنُ رسمها سينمائيًّا لرجلٍ يمتازُ بالبراءةِ والعقلِ البسيط غير المركّب. يتقلّب بين صُنوف الدهر، ويُواجهُ مصاعب الحياة الجمّة بلا قدرات عقلية توازي حجم التعقيدات!
يركبُ القطار مسرعًا.
يدخل السجن وفي السجن يتعرّف على عتاة المجرمين، ومن بينهم رجل طاعن في السن يحاول تعليمه أبجديات الإجرام.. لكن الفكي لا يتعلّم، ولا يُصغي جيّدًا إلى دروس الرجل؛ إنّما يتظاهرُ بالاهتمام والنباهة؛ فقط لأن العجوز يخصه بطعامٍ جيدٍ أو بصندوق بسكويت عند الصباح.. وهي بالطبع أشياء ثمينة في دنيا السجن؛ وبالتأكيد فإنها تعني الكثير لرجل واضح أنه نَهِم و”بطيني” كود الفكي.
تمضي الليالي الكئيبة بين عيني المتحمّس المسكين دون أنْ يتسلل خاطره ليستذكر شيئًا من دنيا ما قبل الزنزانة؛ إنه يعيش لحظته فقط منهمك مع لعب الورق وقضاء الساعات الطوال نائمًا. وفي يوم بين ردهات الزنازين ينادي شرطي بدين ببطنٍ ضخم: محمد الفكي سليمان.. محمد الفكي سليمان -بينما محمد الفكي منهمك في الأكل ويده إلى ما قبل الكوع غارقة في فتة العدس- يلكزه أحد زملاء السجن: بنادوك يا فكّة!
وحين يسمع اسمه للوهلة الأولى ينفض جلبابه المتسخ ويهب واقفًا، ويرد -أيوه نعم- بينما هو مشغول بلعق أصابع يده وما تساقط من طعام على ساعده
الشرطي: يلا ألبس سفنجتك.. إفراج!!
وفي يومٍ من أيام الله بينما يغط في النوم عميقًا ويشخر بصوتٍ عالٍ.. يستيقظُ ليجد رسالة تخبرهُ أنّه مطلوبٌ حضوره في قصر الشعب ليكمل أوراق اعتماده عضوًا بمجلس السيادة!
لا يفكر مرتين! أو ربما أنّ الأمر مزحة!
وكان هذا أهمُ ما يمتاز به المتحمّس المسكين صاحب الشارب الجميل
ومباشرةً يغلق الرسالة ويذهب لقائمة الاتصال: الو الطاهر.. ود عمتي.. ازييك.. متذكر البدلة الشديتا منك في عرسي.. أيوه بس عاوزها.. عندي مشوار القصر.. قالوا محتاجين لي هناك.. قصر الشباب والأطفال شنو يا الطاهر! قصر الشعب بقول ليك.. عارف براك يا الطاهر البلد دي ما بتمشي إلا بالزينا.. ومحتاجة مننا مساعدة.. شوف البلد دي منقة بس تعبر يا الطاهر.. منقة بس.. منقة جد.. الو.. اسمعني يا الطاهر.. رصيدي ح يقطع.. الطيب ود حلتكم الحلاق داك قاعد ولا مشى المزاد ناس خالتو.. كويس.. خلاص بجي أحلق وألبس عندكم.. الجماعة نمشي ليهم مزبطين.. الطاهر المنق.. توت توت توت
يرتدي الفكي بدلة الطاهر التي تبدو ضيّقةً عليه بعض الشئ. يدخل مُسرعًا ويعبرُ العتبات في زهوٍ طفولي، ويقطع المسافات داخل المبنى على سجادٍ أحمر. حين يصل أمام طاولة خشبية يفك غطاء القلم بفمه للامضاء على أوراق بروتوكول روتينية، ليذهب بعدها خلف موظفٍ صغيرٍ لاستلام مكتبه الجديد في قصر الشعب.
في خضم هذه التفاصيل والتغيرات المُفاجئة وما بين حال اليوم والأمس.. لا ينتابُ الفكي أيُّ نوعٍ من أنواع الارتياب أو أدنى درجةٍ من درجات القلق الوجودي. وبالطبع لا يدفعه الذهن المتدهور حتى للشك بمنطق: ربما تكون هذه “الكاميرا الخفيّة”، ومؤكد أنْ لا فسحة بينه وبين ذاته ليسأل متأملًا في رحلة الحياة ومشوارها العجيب: “يا ابن القباب الحُمْرِ ويحَكَ! من رَمَى. بِكَ فوق هذي اللُّجَّةِ الزرْقَاءِ؟”
إنه نوع أولئك المتصلين فقط بالحواس المباشرة. اووه إنه الآن جائع.. يشعر بالجوع ولا شئ سوى ذلك!
القلق الوحيد الذي ينتابه الآن هو على من ينادي ليطلب الطعام في هذا المكان الغريب!
الفكي لا يبدو خسيسًا ودنيئًا كخالد سلك، ولا شحيحًا متغطرسًا وعابدًا للؤم ومتعالٍ عن جهل وسفاهة كجعفر حسن، ولا محتالًا جبانًا كمدني عباس، ولا تهويميًّا سفسطائيًا كالدقير، ولا انتهازيًّا عريقًا مخضرمًا كإبراهيم الشيخ، ولا منجمًا ومدعيًا للنبوءة والاشراق كالحاج ورّاق، ولا مريضًا نفسيًّا كالنور حمد والقراي، ولا دجالًا مُحترفًا كمنعم بيجو، ولا فاحشًا بذيئًا ماكرًا كعرمان، ولا متعفن الدواخل كمنّاع، ولا وضيعًا كالتعايشي، ولا مصنوعًا بمهارةٍ واتقانٍ في معامل إعداد الخونة وتأهيل الجواسيس كنصر الدين عبد الباري، ولا قوادًا منعدم الضمير والمروءة كحمدوك وحاشيته..
كان أهم ما يُميز الفكي عن بقيّة سادة قحت أنه سوداني حقيقي.. ساذج ومهذّب يُحب الخير للناس ولا يُجيد الكذب على نحوٍ من الإبداع والاتقان، أوجدتهُ في المواقع المُتقدّمة الصدفة المحضة. فكان ضحيةً لذهنه الغلبان؛ كان ضحيّة لما لم يحط خبرا.. “وَكَیۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرࣰا”؟!
الفكي -بمعجزة- أضحك الملايين من أبناء الشعب السوداني لأول مرةٍ يوم كتب جملة من ثلاث كلمات: “هبوا لحماية ثورتكم”!
تشبه “أيتها الجماهير العريضة” بصوت عادل إمام تمامًا
أنا مثلًا كلما أصابني الغم.. أديرُ الفيديو الذي يقول فيه: “هذا ممنوع” فأنفجر بالضحك وتذهبُ الأحزان مسرعةً كل منها بطريق. إذ لا يليق به التظاهر بالاستبداد فهو بعقل طفل في جسدٍ كبير. حتى توسلهُ بالجدية بإبدائه لقسمات وجهٍ حازمة وحادة لا يُضفي سوى الكوميديا على المشهد.. ومهما سعى للتظاهر بالجدية وعلو الشأن به طفولة وشئ من بلاهة لا تُخطئها العين؛ الطفولة ليست بمعانيها الجمالية الحسنة الخلابة المُتسمة بروح الشغف، والتأمل، وحب الاكتشاف.. إنّما السلوك المتصل بالطيش، والضلال، والخفة، ومحبة الملذات بلا تحرُّز، ومفارقة الحكمة؛ الحكمة النبوية المحمّدية العتيقة؛ الحكمة التي تجعلك في قمة الزهو والخيلاء أنْ تقول في إجلال -مخافة الغرور والافتتان بالذات-: “إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كانت تَأْكُلُ القَدِيد”
محمد أحمد عبد السلام
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: محمد الفکی
إقرأ أيضاً:
كلمة الدكتور جبريل إبراهيم محمد رئيس حركة العدل والمساواة السودانية إلى الشعب السوداني الأبي بمناسبة عيد الأضحى المبارك
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.الشعب السوداني الكريم،مع إشراقة عيد الأضحى المبارك، يطيب لي أن أتوجه إليكم بأسمى آيات التهاني والتبريكات، سائلاً المولى عزّ وجلّ أن يعيده على وطننا الغالي وقد واستتبّ فيه الامن وعم الاستقرار، وبلغت آمال شعبه مداها في الحرية والكرامة، وعاد النازحون واللاجئون إلى ربوع ديارهم أعزاء مكرّمين، مرفوعي الهامة، محفوظي الكرامة.يُطِل هذا العيد علينا وأمتنا تعيش لحظة تاريخية فارقة، سطّر فيها شعبنا ملحمة وطنية مجيدة تجلّت في وحدة وجدانية عميقة، واصطفاف استثنائي خلف قواته النظامية والقوات المساندة، التي تزحف بثبات في ميادين العزّة والكرامة، وامتد سيفها البتّار إلى سهول كردفان، بعد أن كان مُغمداً بين جنبات القيادة العامة، لتؤكّد أن النصر قرين الصبر، وأن وحدة الصف أصل القوة ومنبع الرجاء.المواطنون الشرفاء،في هذه المناسبة العظيمة، أودّ أن أوجّه إليكم بعض الرسائل:أولًا:إن وحدتنا الوطنية هي الحصن المنيع الذي يحمي وطننا من التصدّع والانهيار. وفي ظل هذه المحن، تبرهن التجربة على أنّ لا سبيل للنجاة إلا بتعزيز هذه اللُحمة، وتحصين الجبهة الداخلية من محاولات الاختراق، وإسقاط مشاريع التآمر والارتزاق، أيًّا كانت عناوينها أو أدواتها.ثانيًا:تحرير العاصمة لا يعني نهاية المواجهة، فالعدو لا يزال يستجلب المرتزقة، ويكدّس السلاح بتمويل مفتوح من دولة العدوان. لذا فإن مسؤوليتنا تقتضي الاستعداد للزحف الأكبر نحو دارفور، وتحرير ما تبقّى من ترابنا الطاهر من رجس التمرد. وفي هذا الإطار، نوجّه نداءً إنسانيًا عاجلاً بشأن ما تتعرض له مدينة الفاشر من حصار وقصف مستمر في خرق صارخ لقرار مجلس الأمن 2736، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية بصورة مزرية، واستدعى بذل الجهد لفك الحصار وتوصيل الإغاثة للمتضررين.ثالثًا:الجرائم لا تُعمّم، والعدالة تقتضي الإنصاف. فلا تُؤخذ قبيلة أو جهة بجريرة أفراد منها، ولا يُحمَّل مكون اجتماعي وزر الخارجين عن صفه. لذا، نؤكد ضرورة نبذ خطاب الكراهية، ومحاربة العنصرية والجهوية، والعمل على ترسيخ قيم التسامح والعيش المشترك، لبناء وطن يسع الجميع بلا إقصاء.رابعًا:السلام المجتمعي هو الرهان الحقيقي لما بعد الحرب، فلا تنمية دون استقرار، ولا أمن بلا مصالحة. والمصالحة لا تُبنى على الشعارات، بل على الاعتراف والمحاسبة، والإنصاف والصفح، وفتح صفحة جديدة، عنوانها الوطن أولًا، وآخرها السودان للجميع.خامسًا:عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم تمثل حجر الأساس في استعادة الحياة الطبيعية. إلا أن مُقتضيات السلامة والكرامة الإنسانية تستوجب التريث، إفساحًا للمجال أمام فرق الدفاع المدني لإتمام مهامها في إزالة الجثث المتحللة بشكل لائق، والتعامل الآمن مع مخلفات الحرب، خصوصًا الأجسام غير المنفجرة، حفاظًا على حياة الأطفال والمدنيين عموما وتيسيرًا لجهود إعادة الإعمار.سادسًا:إن الاعتماد على الذات، عبر تعظيم الإنتاج، هو السبيل الأنجع للنهوض باقتصادنا وتحقيق السيادة الغذائية. ونحن على أعتاب الموسم الزراعي الصيفي، فإنني أناشد أبناء الوطن كافة، والمنتجين خاصة، بمضاعفة الجهد والمساهمة الفاعلة في دفع عجلة الإنتاج، وعلى وحدات الحكومة المعنية المساهمة في توفير مدخلات الإنتاج الزراعي قبل فوات الأوان.الشعب السوداني العظيم،
إن الاعتداءات المتكررة على المرافق الحيوية، سيما المستشفيات ومستودعات الوقود ومحطات الكهرباء والمطارات، بمشاركة مباشرة من دولة الإمارات، تُعدّ دليلاً على إفلاس الميليشيا وأعوانها، واستمرار انحدارها في درك الخيانة والعدوان. ولكننا نؤمن بأن إرادة الشعب أقوى، وأن وعينا الجمعي يترسخ كلما اشتدّ ظلام المؤامرات واستعرت رمضاء التحديات، وسيتبين ذلك بانتصارات مؤزرة في كردفان ودارفور في قادم الأيام.
أما الاتهامات المضلّلة التي تُكال لبلادنا زورًا، ومنها مزاعم استخدام أسلحة محرّمة دوليًا، لا تعدو ان تكون مجرد محاولات يائسة لصرف الأنظار عن الجرائم اليومية التي ترتكبها الميليشيا بحق المدنيين، وعن التواطؤ السافر لدولة العدوان في تغذية آلة الحرب. ولذا نؤكّد أن تمتين الجبهة الداخلية هو الردّ الأقوى، والأساس لأي انفتاح خارجي مستقبلي. كما نهيب بالمجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، وأن يكفّ عن ازدواجية المعايير، ويضغط على المعتدين لاحترام القانون الدولي الإنساني، ووقف الاستهداف الممنهج للمدنيين والبنية التحتية.وفي هذا السياق، لا يفوتنا ان نرحب بتعيين الدكتور كامل إدريس رئيساً لمجلس الوزراء، والذي تصدى لهذه المسؤولية الجسيمة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ بلادنا. إن تعيين رئيس وزراء مدني لقيادة المرحلة الانتقالية يمثل فرصة كبيرة للتحول المدني وبناء مؤسسات رشيدة، قائمة على الكفاءة والنزاهة، تعيد للوطن هيبته، وللمواطن ثقته في دولته.وفي الختام،نضرع إلى الله عزّ وجلّ أن يتقبل الشهداء، ويشفي الجرحى، ويفكّ أسر المأسورين، ويعيد المفقودين إلى أهلهم سالمين، ويحفظ جنودنا الأبطال في الثغور، ويؤيدهم بنصرٍ من عنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه.وكل عام وأنتم بخيروالسلام عليكم ورحمة الله وبركاتهرصد – “النيلين” إنضم لقناة النيلين على واتساب