محمد بن محفوظ العارضي

 

لطالما وصف رأس المال بالحذر وتجنّب المخاطر، لكن في هذا العصر المليء بالتحولات، بدأ جيل جديد من المستثمرين يتخلّى عن هذا التصوّر السائد ولا يخشى كسر التقاليد، باحثًا عن فرص غير مألوفة ومجالات استثمارية تواكب ملامح الاقتصاد الجديد.

تعيش البيئة الاقتصادية العالمية اليوم مرحلة تحولات كبرى تترافق مع ظهور تقنيات جديدة، وتغيّر في نظرة الأفراد لما يُعد "قيمة حقيقية".

وهذا التحول يعيد صياغة تطلعات أصحاب الثروات -لا سيما الشباب منهم- فيما يتعلق بتنويع محافظهم الاستثمارية وفي اختيار من يدير ثرواتهم. وبينما تحاول الأسواق المتقدمة التكيّف مع هذا الواقع الجديد، تبرز مناطق النمو السريع مثل منطقة الخليج كوجهات واعدة قادرة على اجتذاب موجة جديدة من رؤوس الأموال.

وقد بدأت هذه الموجة فعلًا تصل إلى شواطئنا، إذ أصبحت مدينتا أبوظبي ودبي من أكثر المدن جذبًا لأصحاب الثروات حول العالم. ووفقًا لتقرير "هينلي آند بارتنرز" الصادر هذا العام، تضم دبي اليوم أكثر من 81 ألف مليونير، و237 شخصًا يمتلكون أكثر من 100 مليون دولار، و20 مليارديرا. أما تقرير "جوليوس باير" العالمي للثروات وأنماط الحياة لعام 2025م فقد أشار إلى أن دبي باتت منافسًا جادًا للمدن العالمية التقليدية للثروة في ظل ارتفاع أسعار العقارات.

إذن ما الذي يجعل دول الخليج اليوم محط أنظار أصحاب الثروات؟

هناك أسباب عديدة تفسّر تنامي جاذبية دول مجلس التعاون الخليجي لأصحاب الثروات الكبرى. نعم لا تزال المزايا المعهودة المعروفة، مثل انخفاض الضرائب ومستوى الأمان العالي تشكّل عناصر جذب قوية، ولكن ثمة دافع غير ظاهر بدأ يبرز بقوة ويرفع من مكانة شركات إدارة الثروات في الخليج، وهو يرتبط بشيء لا يُشترى بالمال ولا يرتبط بالحوافز المالية ولكن بنمط التفكير: هناك توق دائم إلى كل ما هو جديد.

هذه العقلية هي ما يمنح الخليج تميّزه اليوم، فنحن شعوب لا ترضى بالبقاء عند حدود الواقع القائم، فمنطقتنا تُعرف بتاريخها الحديث في تبنّي التقنيات، وبمجتمعاتها الشابة التي تتقن التكنولوجيا وتحتضن التحولات بروح منفتحة.

ليس مستغربًا إذن أن يكون أصحاب الثروات في الشرق الأوسط أكثر استعدادًا من نظرائهم عالميًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة ثرواتهم، ليس فقط في المهام التحليلية ومعالجة البيانات، بل أيضًا في اتخاذ قرارات الاستثمار.

ووفقًا لتقرير "إي واي" العالمي للثروات لعام 2025م، يدرك 89% من العملاء في المنطقة أن مديري ثرواتهم قد يستخدمون الذكاء الاصطناعي، وهي أعلى نسبة مقارنةً ببقية المناطق. بل أن 71% منهم يتوقعون أن يتم استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة ثرواتهم مقارنة بـ 60% على المستوى العالمي.

هذا المستوى من الجاهزية لدى العملاء يعود جزئيًا إلى مجتمعات تستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل بشكل واسع في حياتها اليومية وأعمالها. ومن اللافت بحسب تقرير الثروات العالمي أن الثقة في الذكاء الاصطناعي ترتفع غالبًا في الأسواق سريعة النمو. وبالطبع تظل هذه الثقة مرهونة بكيفية استخدام البيانات وحمايتها. لذا كانت دول الخليج في طليعة من وضع الأطر الأخلاقية لحوكمة البيانات وتمكين المؤسسات المالية من تبنّي الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، قام مركز دبي المالي العالمي (DIFC) في سبتمبر 2023م -بعد فترة وجيزة من الطفرة العالمية في الذكاء الاصطناعي التوليدي- بمراجعة لوائح حماية البيانات، حيث نصّ البند العاشر على وجه التحديد تنظيم عمل الأنظمة الذاتية. ومن خلال هذه المراجعة، عززت الحكومة الثقة باستخدام الذكاء الاصطناعي مبكرًا لدى كل من مديري الثروات والعملاء.

ويُظهر مؤشر نضج الذكاء الاصطناعي الصادر عن "مجموعة بوستن الاستشارية"، أن الإمارات والسعودية تصنفان اليوم ضمن فئة "المنافسين في مجال الذكاء الاصطناعي"، وهو ما يعكس جاهزية متقدمة لتبنّي هذه التقنية على مستوى استراتيجي. في حين تم تصنيف عُمان والبحرين والكويت وقطر ضمن فئة "الممارسين للذكاء الاصطناعي" في إشارة إلى تحقيقهم تقدمًا ملحوظًا في بناء الأسس الضرورية لتحقيق الجاهزية لتبنّي الذكاء الاصطناعي بشكل أوسع في المستقبل.

بالإضافة إلى ثقتهم المتزايدة في الاستثمارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، يُبدي أصحاب الثروات في الشرق الأوسط انفتاحًا أكبر على فئة الاستثمارات البديلة. فبحسب الأرقام، يستخدم 68% من العملاء في المنطقة منتجات استثمارية بديلة، مقارنة بـ 51% فقط على المستوى العالمي.  

وبينما تظل العقارات والأسهم الخاصة والبنية التحتية خيارات جذابة تجتذب رؤوس الأموال الخاصة في الخليج، أصبحت العملات الرقمية قطاعًا نشطًا بحد ذاته مع تزايد اهتمام الجيل الشاب من المستثمرين بالأصول الرقمية. ففي الوقت الذي تجعل فيه التعقيدات التنظيمية العملات الرقمية خيارًا معقدًا على مستوى العالم، تقدم الحكومات في دول الخليج موقفًا واضحًا لا لبس فيه بشأن الأصول الرقمية. ففي شهر مارس، استثمرت شركة MGX ومقرها أبوظبي مبلغ 2 مليار دولار في أكبر بورصة عملات رقمية بالعالم "بينانس" (Binance)، في خطوة تعكس مستوى الدعم الحكومي للتمويل الرقمي. وفي وقت سابق وتحديدًا في عام 2022م أطلقت دبي أول جهة تنظيمية في العالم مخصصة حصريًا للأصول الافتراضية، وهي "هيئة تنظيم الأصول الافتراضية" VARA)).  

ولا تمثل العملات الرقمية سوى فئة واحدة من بين فئات الأصول الناشئة في منطقة تظهر فيها الفرص الاستثمارية بوتيرة أسرع من أي مكان آخر. فوتيرة التحول الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي وحجمه يخلقان فرصًا غير مسبوقة لأصحاب الثروات، مع تشكّل صناعات جديدة بالكامل مدعومة من بعض أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم. فعلى سبيل المثال تمضي عُمان بخطى واثقة في ترسيخ موقعها كمركز لوجستي إقليمي من خلال استثمارات كبرى في البنية التحتية للموانئ. حيث تُقدّر قيمة القطاع اليوم بنحو 6 مليارات دولار، مع طموح للوصول إلى 93 مليار دولار بحلول عام 2040م.

وتلك ليست إلا واحدة من الفرص الاستثمارية الدفاعية التي تنمو بهدوء في المنطقة، تزامنًا مع التوجهات الحكومية لتمكين قطاعات الطاقة المتجددة، والتعليم، والرعاية الصحية، والتكنولوجيا.

يُعد الجمع بين هذه القطاعات المزدهرة والاقتصادات سريعة النمو وصفة قوية لجذب الاستثمارات. لكن حين يتعلق الأمر بالثروات الخاصة، فإن دول الخليج تملك ما لا تمتلكه سوى قلة من مناطق العالم، بيئات تنظيمية مرنة ذات رؤية استباقية، وقاعدة مستثمرين لا تخشى التغيير.

وهنا لا يُنظر إلى رأس المال على أنه حذر، ولكن على أنه مغامر ذكي لا يخلو من الجرأة ولا يغيب عنه الحس الريادي ويلتقط الفرص قبل أن تراها العيون التقليدية. وهذه هي الروح التي سيُعاد من خلالها تشكيل مستقبل الثروات الخاصة.

 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: ی الذکاء الاصطناعی أصحاب الثروات دول الخلیج

إقرأ أيضاً:

«إي آند» تطلق برنامج خريجي الذكاء الاصطناعي لعام 2025

أبوظبي (الاتحاد)

أعلنت مجموعة التكنولوجيا العالمية «إي آند» عن فتح باب التقديم لبرنامج خريجي الذكاء الاصطناعي في دولة الإمارات، مع إتاحة 100 وظيفة جديدة لخريجي الجامعات من المواطنين الإماراتيين. 
ويهدف البرنامج الذي تمتدّ جلساته على 12 شهراً، والذي ينطلق في دورته للعام 2025، إلى تزويد الشباب الإماراتي بالمهارات الرقمية والتقنية والقيادية اللازمة للمساهمة في تشكيل اقتصاد المستقبل للدولة.
ويُعد البرنامج الذي يدخل عامه الرابع من المبادرات الرائدة في تمكين الكفاءات الوطنية، حيث تم حتى الآن توظيف وتدريب أكثر من 284 خريجاً منذ العام 2021، كما احتفل البرنامج مؤخراً بتخريج 25 مشاركاً جديداً. ويعكس هذا التأثير المتنامي التزام «إي آند» بتطوير الكفاءات الوطنية وتعزيز التنوع والاستعداد للمستقبل، تماشياً مع رؤية دولة الإمارات لبناء اقتصاد معرفي قائم على الابتكار.
وقال علي المنصوري، الرئيس التنفيذي للموارد البشرية في مجموعة «إي آند»: «يعكس برنامج خريجي الذكاء الاصطناعي التزامنا على المدى الطويل بتأهيل قادة المستقبل من الكفاءات الإماراتية في مجالات التكنولوجيا والابتكار. فنحن لا نخلق فرص عمل فحسب، بل نبني لهم مسارات مهنية تتماشى مع أهداف التحول الرقمي لدولة الإمارات. كما أن نسبة مشاركة الإناث التي تجاوزت 60 % في الدفعة الأخيرة، تؤكد التزامنا بالتنوع والشمول. وأود أن أوجه الدعوة للخريجين الطموحين من مختلف التخصصات للانضمام إلينا وأن يكونوا جزءاً من قصة نجاح «إي آند».

أخبار ذات صلة «المركزي» يوقف نشاط «المركبات» لفرع شركة تأمين أجنبية أسواق الأسهم المحلية تستقطب 2.16 مليار درهم سيولة

مقالات مشابهة

  • «إي آند» تطلق برنامج خريجي الذكاء الاصطناعي لعام 2025
  • بي بي سي تختار مديرة تنفيذية من ميتا لإدارة الذكاء الاصطناعي
  • أخلاقيات الإبداع: مستقبل العلاقة الجدلية بين الذكاء الاصطناعي والملكية الفكرية
  • وضع الذكاء الاصطناعي يصل إلى الشاشة الرئيسية في هواتف أندرويد
  • الذكاء الاصطناعي 2025: ملامح حياة يعاد تشكيل مستقبلها
  • عائدات AT&T تتضاعف نتيجة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي
  • حوارٌ مثيرٌ مع الذكاء الاصطناعي
  • هل تنفجر معدلات النمو الاقتصادي في زمن الذكاء الاصطناعي؟
  • دعوة لمقاربة شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي