لماذا يبسّط البعض مفهوم الهوية وقيمتها الوطنية ؟
تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT
لا شك أن قضية الهوية الوطنية أو الهوية الثقافية، من أهم قضايا انتماء الفرد في الأمة، له ما للأمة من واجبات وما عليه من التزامات ومسؤوليات، وهذا الانتماء الوطني، قد يتعرض للانسحاق في هذه الهوية بمفهومها الشامل من خارجها إن لم يتحصن الفرد من الاختراق الثقافي، وحتى الهوية قد تتعرض لما هو أخطر وهو الاستلاب أو الانشطار بين هويته وهويات أخرى مناقضة لهويته، مما يهدد الشخصية الفردية أو الجماعية للذوبان في هويات أخرى مخالفة له في الفكر والثقافة، وهو ما يسهم في تقويض المقومات الحضارية للأمة، ويجعلها مهددة بالانصهار تمامًا في ثقافة أخرى، أو يجعلها مضطربة وهامشية في مرجعيتها الفكرية والثقافية، مما يجعل الانتماء هشًا وقابلًا للوقوع في الذوبان، وربما اتجه إلى انتماء آخر غير الانتماء الثابت للأمة التي ينتمي إليها، وهذا مكمن الخطر في مسألة الهوية الوطنية والثقافية والفكرية.
وهذه الفكرة عند هؤلاء لا تعتبر هاجسًا يعتد به باعتباره مهمًا للانتماء الوطني والثقافي، أو لأهميته الفكرية بالنسبة له، طالما أنها ممارسة يومية معتادة، كما يراها فلان يقابل فلان!، ولكن هذا التوصيف، لا يجرد مسألة الهوية الوطنية أو الهوية الثقافية من مضامينها التي وضعت لها من الأساسية، كما عُرفت من المفكرين في أي أمة من الأمم، ولكنه يجردها تماما من جوهرها الأساسي بذلك التبسيط غير الدقيق لمفهومها كما يطرحها البعض، ويراها، كما تصور له عقله وفهمه، فمنذ أقدم العصور حتى الآن، فالهوية هي الهوية التي تعني الانتماء لأمة قائمة بشعب وأرض وثقافة، فتجريد هذا المفهوم من جوهره الأهم وطبيعته الفكرية والثقافية، مخالف لحقيقة الهوية عند كل الأمم والحضارات، وماهيتها وأسسها في الثقافات والحضارات، والوحدة الاجتماعية القائمة في الانتماء الواحد ، وكذلك مقومات وجود الفرد في هذه الثقافة والقيم التي يمتلكها ويتمسك بها، وسبل عيشه التي أصبحت تراثًا كبيرًا ممتدًا لقرون للإنسان، وهذه كلها سمات تميزه عن غيره من الشعوب الأخرى في جوانب ومشارب كثيرة ومتعددة؛ لأن هذا الاختلاف والتمايز، هو الذي يجعل كل أمة، لها قيم وثقافة مختلفة، وهذا هو قيمة التعدد والتنوع، وتلك مسألة جوهرية، وهي أيضًا ثراء ثقافي وتراثي للمجتمعات المتعددة في الثقافات والهويات.
حتى في المجتمعات الغربية، فكرة الهوية هي نفسها، كما نحددها عندنا في المجتمعات العربية الإسلامية، خاصة في قضية الانتماء لأمة لها رؤيتها وفكرها وثقافتها، ففي كتاب المؤلف الفرنسي «اليكس ميكشيللي»:(الهوية)، يرى أن الهوية في أساسها: «الشعور بالانتماء كنتاج لعمليات التكامل الاجتماعي ولعملية تمثل القيم الاجتماعية السائدة في إطار الجماعة... وذلك لأن الكائن الإنساني يعيش في وسط اجتماعي يغمره بمعاييره ونماذجه السلوكية». كما أن اللغة.. أي لغة تعد من أساسيات الهوية الوطنية، فإذا توارت اللغة عن أمة من الأمم، وضعفت، تحل بدلها اللغات الأخرى المنافسة، والشعوب التي حاربت الغزاة، جعلت هويتها الوطنية، تسير جنبا إلى جنب مع حركتها في محاربة الاستعمار والحفاظ على الثقافة، وما فعله الزعيم الهندي مهاتما غاندي، عندما كان يسافر للغرب، ويفاوضهم كان يصطحب معه شاة التي يشرب منها الحليب، مع احتفاظه بملابسه الوطنية الأكثر تواضعًا كما عرف عنه، وهذا بلا شك له مغزى، وهو التمسك بالهوية الوطنية، في ظل الهجمة الاستعمارية عسكريًا وسياسيًا، وثقافيًا، وتبعه الزعيم الهندي نهرو أيضًا في الكثير من تحركاته في الحفاظ على الوطنية خلال رئاسته للهند، والغرب نفسه -في بعض بلدانه- شديد الحرص على التمسك بالهوية الوطنية واللغة في المقام الأول، مع ما يجمعهما من روابط الدين والجغرافيا والاتحاد الخ، لكنهم في قضية اللغة لا مساومة عليها، والإشكالية الراهنة أن الآخر المختلف، يسعى بكل قوة أن يلغي هوية أي أمة من الأمم في راهننا، ويحاول تقديم هويته ورؤيته الفكرية، سواء من خلال الاختراق الثقافي التي بلا شك تلعب دورًا كبيرًا في ضرب الهويات الأخرى أو استلابها أو تمييعها، وهناك صراع فكري متحرك، ومواقع تشتغل على محو الهوية وتجريدها من مضامينها وممانعتها، وجعلها هوية مهلهلة، بحسب ما قاله د. تركي الحمد (من أنت؟ قال: أنا ابن فلان)! وهذه الخلاصة للأسف تقزيم للهوية وتذويبها عن تجسيدها لميراث كبير وخصائص ومميزات متعددة المجالات، وليس هذا الفهم القاصر الذي يقترب من السذاجة!.
وقد أشرت في كتابات سابقة عما تشعر به فرنسا منذ عدة عقود، وتتحدث عن الاختراق الثقافي لثقافتها من الثقافة الإنجليزية، وهو ما يهدد هويتها اللغوية، أو ما أسمته بالغزو الثقافي الأمريكي على الوجه الأخص، وهناك الكثير من الآراء حول هذه المسألة للعديد من المفكرين الفرنسيين في قضية الاختراق الأمريكي للثقافة الفرنسية.. وكندا أيضا تحدثت على لسان رئيس وزرائها الأسبق، عما تشعر به من خطر على هويتها الثقافية من الاختراق الثقافي الأمريكي فقال: «إننا شعر أننا أمام قدم فيل ضخم ـ يقصد الولايات المتحدة الأمريكية ـ ، فإن أي شعرة تتحرك في جسمه تهز كندا، ومهما كانت أوجه الشبه والتقارب بين البلدين فإن كندا دولة أخرى ولها ثقافة أخرى». وهذه الدول بالرغم من التقارب الفكري والثقافي والديني، يشعرون بالخطر على الهوية الذاتية، بالرغم من التقارب الكبير، فلماذا نحن نتهاون، ونشعر بالهزيمة الفكرية، ونأتي بمبررات لنتوافق مع فكر الآخر وثقافته، وهويته، هذا الشعور، هو الانسحاق والذوبان والانكسار، وهي بلا شك حالة نفسية تجعل الآخر هو النموذج الذي يجب أن يحتذى ويتم تقليّده، وفق مقولات لا تتوافق مع النظرة نفسها لمسألة الهوية الذاتية التي بعض الغربيين ينقدها بقوة، والغرب نفسه يرفض ذلك -كما أشرنا آنفًا- عن رفضه التام للذوبان ومسح الهوية الثقافية ، وقد عبر عن ذلك أصدق تعبير ما قاله المفكر المغربي الراحل د. محمد عابد الجابري، عندما قاله في كتابه [ المسألة الثقافية]، «إن الاختراق الثقافي هو اختراق للهوية أساسًا. لنقل إذًا إننا نقصد بـ ((الثقافة)) هنا : ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات التي تحتفظ لجماعة بشرية تشكل أمة أو ما في معناها بهويتها الحضارية في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء». ولا شك أن قضية الهوية تراهن عليها الأمم التي تواجه التحديات والضربات، وأمتنا تواجه هذا التحدي، لذلك تعتبر الهوية خط الدفاع عن المخاطر، ومنها قضية القدس، وما يسمى بصفقة القرن؛ لان هذه الرمزية تجعل مسألة الحفاظ على المقومات مسألة وجود جزء من الهوية، لا مسألة حدود.
ولذلك من المهم أن نربي الأبناء التربية القويمة، التي تحافظ على هويتنا وقيمنا الثقافية والفكرية، وعن اتباع وتقليد الآخر في قضايا ليست من صميم العلم والفكر والقيم الصحيحة، التي لا تخالف الدين والعادات المستقرة للامة، وبعضهم يضعف أمام قدرات الآخر لخلل في قدراته العلمية والتكنولوجية وما قاله العلامة ابن خلدون في قولته الشهيرة (أن المغلوب مولع باقتداء الغالب)، ونحن فعلًا في هذا المسار ونرجو ألا يتحقق هذا الأمر، لكن لماذا أمم أخرى ضعيفة، بل وأقل ضعفًا، قاومت الاختراق واستطاعت أن تحافظ على ذاتها من الذوبان مما يحدثه الاختراق الفكري، ونحن في دول المنطقة، للأسف نكاد أن نقع فيما وقعت فيه دول في الشمال الإفريقي، حيث استطاع الاستعمار في القرن الماضي أن يفرض لغته فرضًا، وأن يحارب اللغات الأصلية لتلك الشعوب لمحوها من الجذور، وحقق نجاحًا مهمًا، فلا تزال آثاره باقية حتى الآن، والبعض ممن تأثر بالغرب يرى وبشكل صريح، دون أن يخفي اتجاهه الفكري أن الحضارة المعاصرة حضارة عالمية واحدة ولا تعددية في الحضارات أو الثقافات، ولم يعد التمايز ينفع في هذا العصر أيضًا، فأحد المثقفين العرب سخر من القضية ولا شك أن مثل هؤلاء متأثرون بالغرب في فكره ورؤيته تجاه تعدد خيار الثقافات وتعددها مجرد أوهام ليس لها وجود في هذا العصر، وهذه تعني إقصاء الثقافات والهويات الأخرى، وجعل الثقافة الغربية، هي السائدة، وهذا ما حذرت منه منظمة «اليونسكو» قبل سنوات التي أكدت في عدة توصيات انبثقت عن مؤتمرات عديدة، حول السياسات الثقافية وكيفية النهوض الذاتي على ضرورة درء الخطر الثقافي وصيانة الهوية الثقافية للشعوب. وهذه مسألة صحيحة، وليست أوهامًا، أو تخيلا عند البعض، ولذلك الاعتزاز والتمسك بالهوية الوطنية، حاجة وضرورة من عدم التعدي الفكري والثقافي، وفي غياب ذلك فهو الانصهار في الثقافة المهيمنة، وهذا هو مربط الفرس في مخاطر الانصهار الذي تسعى إليه دول بعينها، وهي مع أنها تحذر من الأخطار على هويتها وثقافتها، لكنها كانت تحارب بكل قوة الثقافات الأخرى لتكون ثقافتها هي الثقافة العالمية الوحيدة في هذا العالم!.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الهویة الثقافیة الهویة الوطنیة ما قاله أمة من فی هذا
إقرأ أيضاً:
تعالوا نعانق بعضنا البعض..هل لا يزال الأمريكيون مُرحبًا بهم في كندا؟
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- تحمل منطقة إيسترن تاونشيبز الريفية، المليئة بكروم العنب في جنوب مقاطعة كيبيك الكندية، رسالة للأمريكيين، مفادها: "تعالوا نعانق بعضنا البعض".
أصدرت هيئة السياحة في المقاطعة الكندية مقطع فيديو ترويجي بتاريخ 26 مايو/أيار، يُظهر سائحًا يتحدث باللغة الإنجليزية ويعترف بخجل بأنّه أمريكي، ومن ثمّ يتلقى عناقًا دافئًا من موظفة استقبال تتحدث الفرنسية في أحد الفنادق.
هذا الفيديو جزء من حملة إعلانية قيمتها 109 آلاف دولار مُخصصة لبداية موسم السفر الصيفي، وموجهة للسياح الأمريكيين تحديدًا.
قالت المديرة العامة لهيئة السياحة في إيسترن تاونشيبز، إيزابيل شارلبوا، إنّ الإعلان يهدف إلى طمأنة الزوار الأمريكيين بأنّهم "ليسوا مُتوَقَعين هذا الصيف فحسب، بل مُرحب بهم للغاية".
يبدو أنّ حاجة المسافرين إلى هذا النوع من التشجيع يعود إلى تساءل البعض عمّا إذا كان هذا هو الوقت المناسب لزيارة كندا في خضم الحرب التجارية والتوترات المتصاعدة.
أوضح برايان كيرتشوف من ولاية فيرمونت الأمريكية: "عندما تبدأ إدارتنا في الحديث عن جعل كندا الولاية رقم 51، أستطيع أن أتفهم إذا بدأت دوريات الحدود الكندية تفرض تدقيقًا كاملًا على الأمريكيين".
رغم أن كيرتشوف لا يزال يخطط لزيارة مدينة مونتريال الكندية لحضور سباق الجائزة الكبرى الكندي الشهر المقبل، إلا أنّه يخشى أن يكون للخطاب الصادر عن البيت الأبيض أثر سلبي على الأمريكيين المسافرين إلى الخارج.
صُدمت ميليسا كيرتين ماكدافيت، وهي مستشارة في شركة "For a Travel" في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، عندما عبّرت بعض العميلات عن مخاوفهنّ من المناخ السياسي، ما دفعهنّ إلى إلغاء رحلة كانت مُخططة إلى مدينة كيبيك، رغم أنّها تُعدّ من أكثر المدن أمانًا في كندا.
من جهة أخرى، قال الرئيس والمدير التنفيذي لجمعية صناعة السياحة في أونتاريو (TIAO)، أندرو سيغوارت، إنّ الكنديين العاملين في الفنادق والمنتجعات ووجهات السفر الأخرى سمعوا مخاوف مماثلة من الأمريكيين الذين يتساءلون عمّا إذا كان ينبغي عليهم إلغاء خططهم.
"ذراعان مفتوحتان"قد تكون لمشاعر التردّد هذه أثر اقتصادي كبير على كندا، حيث شكّل الأمريكيون نحو 79% من الزيارات الدولية في الربع الثالث من العام الماضي.
في الفترة ذاتها، أنفق المسافرون الأمريكيون 6.6 مليار دولار، وفقًا لمكتب الإحصاء الوطني الكندي.
وأشار سيغوارت إلى أنّ "السوق الأمريكية جزء أساسي من الاقتصاد"، معربًا عن قلقه من تباطؤ السفر عبر الحدود في ظل اقتراب موسم ذروة السفر.
تراجعت رحلات المقيمين الأمريكيين إلى كندا في شهري فبراير/شباط ومارس/آذار، مسجلةً أول انخفاض شهري على أساس سنوي منذ عام 2021.
أوضح سيغوارت أنّ حوالي ثلث عدد أعضاء جمعية "TIAO" أفادوا بانخفاض في حجوزات موسم الصيف للمسافرين الأمريكيين مقارنةً بالفترة ذاتها من عام 2024، مؤكدًا: "نحن بالفعل نرحّب بالعالم، وزوارنا الأمريكيين، بذراعين مفتوحتين".
في غرب كندا، أطلقت مجموعة من منظّمي الرحلات المتخصصة في مشاهدة الدببة الرمادية حِملة بعنوان "أهلاً يا جار!" هذا الشهر، تستهدف أصحاب التجارات الصغيرة الأمريكيين بشكلٍ مباشر.
كما تسعى وجهات أخرى بالبلاد إلى جذب المسافرين الأمريكيين عبر إبراز الفوائد الاقتصادية لزيارة كندا.
أطلقت هيئة السياحة في مونتريال بتاريخ 28 أبريل/نيسان، حملة بعنوان "استثمر دولارك" (Stretch your dollar) أظهرت سعر الصرف بين الدولارين الأمريكي والكندي في الوقت الفعلي، والذي يصب في مصلحة الزوار من الولايات المتحدة.
ماذا عن الكنديين العاديين؟رأى البعض أنّ ممثلي قطاع السياحة يسعون وراء مصالحهم الشخصية عند محاولة إقناع الأمريكيين بأن الكنديين لا يزالون يرحبون بوجودهم، خصوصًا أن الحملات الإعلانية لا تعكس دائمًا الرأي الشعبي الحقيقي.
من الواضح أن الأحداث على المستوى الوطني أثارت غضبًا واسع النطاق في كندا، إذ أفاد ثلث عدد الكنديين تقريبًا أنّهم يرون الولايات المتحدة الآن كدولة "غير صديقة" أو "عدوّة"، بحسب استطلاع أجرته شركة "YouGov" الشهر الماضي.