صحيفة التغيير السودانية:
2025-06-10@10:02:06 GMT

السودان ودولة الحرب العميقة

تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT

السودان ودولة الحرب العميقة

 

السودان ودولة الحرب العميقة

ناصر السيد النور

إن مفهوم الدولة العميقة الذي بات مصطلحا ومفهوما لا يقل غموضا لتفسير السياسيات والقرارات غير الرسمية للحكومات ويبدو قد توطنت عمليا في الشئون السياسية والحكومية حتى بات شبحا تعزى اليها القرارات السياسية الجريئة وغيرها من توجهات لا تفصح عنها أجهزة الدولة الرسمية في صناعة القرار.

ولكن هذا المفهوم ساد وأصبح مرجعا ومستودعا تستعيد به الجماعات المتحكمة في الدولة سلطاتها وتحافظ عليها وسلاحا سريا تستخدمه في حال تهديد النظام القائم الذي يضمن استمرار التحكم بالتوجهات السياسية والمصالح لتلك المجموعات في النظم الديكتاتورية التي يعج بلاد المحيط العربي في العالم الثالث ونظمه الموروثة منها والعسكرية الجمهورية. وقد اجهضت أذرع الدولة العميقة مشروع ثورات الربيع العربي بمناوئتها المتجذرة للديمقراطية والحرية   في البنية السلطوية السياسية والعسكرية للنظم العربية. ويعمم مفهوم الدولة العميقة حتى في الديمقراطيات الغربية الراسخة، كدولة تحمى قيما ونظما ايدولوجية قارة في مجتمعات النخبة!

تحولت الحرب في السودان من حرب يقودها طرفان صراعا على السلطة ومن ورائهما تحالفات متعددة تتفاوت في القوة والعدة والعتاد إلى حرب لمحاولة استعادة سلطة ونفوذ بما يكشف في الوقت ذاته عن واجهة خلفية تدخل إدارة وتوجيها للحرب. فمنذ ارهاصاتها التي سبقت تفجر الحرب في الخامس عشر من ابريل/نسيان 2023 ظل المشهد السياسي السوداني في مرحلة الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر/تموز 2019 في حالة سيولة تمكنت فيها أذرع النظام السابق حينها على تأكيد حضورها القوي في المشهد السياسي بعد ثلاثين عاما من الحكم المستمر. ولأن طبيعة النظام السابق (الإنقاذ) بخلفيتها الإسلامية قد تمكن عبر سياسة التمكين التي اتبعها في تأمين اركان نظامه من تكوين هياكل وواجهات في موازاة الدولة القائمة بما يشمل حزبا سياسيا (المؤتمر الوطني) وجماعات مسلحة (كتائب الظل) وكيانات عشائرية أخرى كقواعد قد يضطر للجوء اليها وقد كان. فمنذ أن أطاح الفريق البرهان قائد الجيش في انقلابه على الحكومة الانتقالية بمساندة قوات الدعم السريع في أكتوبر/تشرين الأول 2021 وهو ما مهد الطريق للعودة المفتوحة إلى السلطة ومؤسساتها للحزب السابق الحاكم. وبرزت عناصر النظام السابق من فجوة الدولة العميقة مستعيدة لسلطة يدعمها العسكريون والعناصر المدنية الموالية. وتحولت هذه العناصر بالتالي من قوة مختبئة تخشى الملاحقة إلى سلطة بكامل اطقمها وقياداتها إلى الواجهة السياسية تقوم بأدوار غامضة ولا تترد في الكشف عن خطابها ورؤيتها للحرب والتحشييد لها تحت مظلة الشعارات السابقة.

وكانت الحرب الجارية أكبر اختبار أمام الدولة العميقة وأدواتها حيث لم يعد من الممكن التخفي وراء السلطة القائمة فكل ما حملته الحرب من توجهات وشعارات تكشفت عن الواجهة الحقيقة للدولة العميقة ومدى تأثيرها في مجريات الأمور. والحرب لم تقتصر على ميدان المواجهات بين الطرفين الجيش والدعم السريع بل في المحاولة المستميتة لإقصاء المدنيين الواجهة التي تمثل الاتجاه الديمقراطي والحكومة الفترة الانتقالية أكثر ما استهدفته عناصر الدولة السابقة بعمقها التنفيذي وتحكمها بالقرار العسكري بالإضافة الى كتائبها الشعبية المقاتلة.  فقد اعادت الحركة الإسلامية صراعها القديم محمولا على انتقام من الكيانات السياسية المدنية التي تسببت في انهيار سلطتها متدرعة بقوة تنظيمية عسكرية تدعم وجودها في السلطة والامساك بمفاصل الدولة مثلما بدأت. إلا أن هذه التوجهات التي تستند إلى شرعية بحكم التمدد الزمني في السلطة وبالطريقة التي ادارت بها سلطتها وما رافق ذلك من انتهاكات جسيمة وحروب على طول البلاد وعرضها وانهيارات على كافة الأصعدة. وإذا كان الهدف المبدئي للدولة العميقة هو استعادة السلطة والتمسك بمقاليد الحكم فلأنها تستند إلى بنية الدولة الصلبة لا على شعاراتها أو برامجها السياسية فإن التحكم بالأجهزة الأمنية المختلفة أولوية لدى عناصرها.  فالعناصر المتحكمة بتسيير دفة الحرب من داخل الدولة العميقة لا تعمل من خلال مواقع أو مناصب لها صفة رسمية في أجهزة الدولة، ولكنها تعمل من خلال قنوات تنظيمية. فقد كشفت العقوبات التي فرضتها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوربي على شخصيات سودانية من خارج المنظومة الرسمية أثناء هذه الحرب لدورهم كما إشارات بيانات العقوبات في الحرب واعاقة مجهودات السلام وأكدت بالتالي على دورهم النافذ في الحرب. ومن بين هذه الشخصيات ما لها موقع بارز في حكومة البشير السابقة مثل شخصية صلاح عبد الله قوش أحد مهندسي القوة الأمنية ومن يزعم بدورهم في قيادة الحرب. فأن تفرض عقوبات من خارج الحدود على شخصيات سودانية معروفة بتوجهاتها السياسية والايدولوجية يزيد من ادانة دورها الخفي وتأثيرها المباشر على أخطر القضايا الوطنية كالحرب الجارية والمسئولية الأخلاقية والسياسية.

أن تكون ثمة دولة عميقة في السودان بتعقيدات تكويناته العرقية والجهوية والسلطوية فهذا يعني أن تنطوي على تناقضات تاريخية واجتماعية شكلت جزء من أسباب صراع الحرب الدائرة في سياق المنازعات القائمة بين الجماعات المناطقية بين مركز وهامش في اختلال ميزان ما يعرف بتوزيع الثروة والسلطة بين ولايات السودان وسكانه.  فإذا كان عمق الدولة وجماعات الظل ونفوذها يتأسس على هذه التناقضات في بنية الدولة السودانية وتركيبتها الاجتماعية فإن عناصرها تعمل على الحفاظ على هذه المعادلة المختلة بدلا عن تفكيكها الذي سيؤدي إلى فقدان تلك الامتيازات. وهذه الامتيازات تمثلها كيانات ليست بالضرورة سياسية بل كيانات عشائرية وقبلية تتقاطع تاريخيا مع السلطة السياسية وهو ما برز بشكل لافت في المجموعات القبلية المسلحة بعيدا عن جيش الدولة.  ومن المفارقة أن قوات الدعم السريع كانت إحدى الأدوات التي كونتها الدولة العميقة في السودان وقننت وجودها كمظهر قانوني ودستوري لتعمل على تثبت اركان النظام كقوة ضاربة لا يتعدى دورها الحراسة والدفاع عن النظام. من قبل أن تتصاعد دورا ومهام وطموحا وقوة.

ومثل الموقف من الحرب صراعا محتدما بين أطراف الدولة العميقة المتحكمة وحكومة الواجهة المعترف بها على الأقل بشرعية وجودها، فقد لوحظ أن إدارة الحرب وبياناتها والموقف من المفاوضات والعلاقات الدولية وطريقة تنفيذها بما يعكس من تناقضات في الخطاب الرسمي للدولة أي وجود أكثر من جهة تملك حق التفويض المطلق في صنع القرار السياسي والعسكري على تنوع مجالاته. فالدولة العميقة هي تعدد في مراكز القرار ومراكز قوى داخل أجهزة السلطة بأقسامها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية وباختصاصات تتجاوز القنوات التقليدية في إدارة الدولة.  ولأن الحرب خلقت في السودان بتركيبته الاجتماعيِّة المتداخلة حيث المجتمعات المحلية اقوى من سلطة الدولة فقد أعادته الحرب إلى مرحلة للادولة في ظل إدارة الدولة العميقة. فالهياكل المترهلة التي خلفها النظام السابق أوجدت كيانات ذات نظم إدارية ضعيفة الكفاءة وعانت الآن من فوضى الحرب كنتيجة منطقية لخلل أزمة الدولة وسيادة البربرية أو الطبيعة بمفهوم الفيلسوف السياسي توماس هوبز التي أعادت بغياب القانون والدولة شريعة الغاب إلى شوارع المدن وزعزعت أمنها ومزقت نسيجها الاجتماعي.

واستطاعت الدولة العميقة بسياساتها البراغماتية من الاستفادة من مثليتها في دور الجوار السوداني مما شكل دعما لوجستيا وتدخلا مباشرا في الحرب لصالحها تنازلا ومغامرة بأمنها القومي وسيادتها الوطنية. وحرب السودان التي أصبحت حرب محاور تورط فيها الطرفان في صراعهما على سلطة يعصب التنبؤ بعودتها على ما كانت عليه ما قبل الحرب.  وإن المعاناة التي خلفتها الحرب لسكان السودان تجعل من وجود الدولة العميقة بعناصرها مهددا دائما للسلام طالما أن الهدف يستدعي عودة السلطة مهما كلف ذلك على حساب المواطنين وامنهم.

الوسومالدولة العميقة حرب السودان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الدولة العميقة حرب السودان

إقرأ أيضاً:

رئيس وزراء السودان: الحرب في طريقها للنهاية والجيش يحقق التقدم

قال رئيس الوزراء السوداني الجديد كامل إدريس، إن الحرب الدائرة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع "في طريقها إلى نهايتها"، مؤكدًا أن الجيش يواصل تقدمه بثبات نحو تحقيق النصر على ما وصفها بـ"قوات التمرد". جاء ذلك في تصريحات أدلى بها خلال زيارته التفقدية لقيادة منطقة البحر الأحمر العسكرية، ونقلتها وكالة الأنباء السودانية الرسمية "سونا".

وأكد إدريس أن "القوات المسلحة تمثل صمام الأمان للبلاد"، داعيًا إلى حشد كافة الجهود والطاقات الوطنية، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، من أجل دعم القوات المسلحة في "حرب الكرامة"، بحسب وصفه، مشيدًا بما قدمته المؤسسة العسكرية من تضحيات للحفاظ على وحدة السودان واستقراره.

وأضاف رئيس الوزراء: "نوجه رسالة للعالم بأن القوات المسلحة السودانية قوية وقادرة على دحر التمرد وتحقيق الاستقرار في جميع أنحاء البلاد".

مقتل 14 شخصا في قصف لميليشيا الدعم السريع لسوق نيفاشا بالسودانمنها اليمن والسودان.. ترامب يوقع قرارا بحظر سفر مواطني 12 دولة إلى أمريكايونيسيف: هجوم على قافلة مساعدات إنسانية غرب السودانالأمم المتحدة: 4 ملايين شخص فروا من السودان منذ أبريل 2023رئيس وزراء السودان يحل الحكومة..ويشدد على أولوية الأمن واستعادة الاستقراراتصال مصري أمريكي يؤكد الشراكة والتنسيق في ملفات ليبيا والسودان والبحيرات العظمىرئيس وزراء السودان: معركة الكرامة وجودية والحوار الوطني طريقنا لوحدة البلاد وإعمارهاإدريس كامل يؤدي اليمين الدستورية رئيسا لوزراء السودانتدمير المساعدات الغذائية.. السودان يفضح جرائم الدعم السريعرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي يرحب بتعيين الطيب إدريس رئيسا لوزراء السودانتفقد أمني ورفع للروح المعنوية

وخلال زيارته لمدينة بورتسودان، استقبله الفريق الركن محجوب بشرى، قائد منطقة البحر الأحمر العسكرية، بحضور والي الولاية الفريق الركن مصطفى محمد نور وقادة المنطقة. واطلع إدريس على آخر التطورات الميدانية في المنطقة، فيما أكد قائد المنطقة أن القوات المسلحة في "أفضل حالاتها"، معربًا عن أمله في أن ينجح رئيس الوزراء في إنجاز الملفات الوطنية الكبرى التي تلبي تطلعات المواطنين.

مقتل 14 شخصا في قصف لميليشيا الدعم السريع لسوق نيفاشا بالسودانمنها اليمن والسودان.. ترامب يوقع قرارا بحظر سفر مواطني 12 دولة إلى أمريكايونيسيف: هجوم على قافلة مساعدات إنسانية غرب السودانالأمم المتحدة: 4 ملايين شخص فروا من السودان منذ أبريل 2023رئيس وزراء السودان يحل الحكومة..ويشدد على أولوية الأمن واستعادة الاستقراراتصال مصري أمريكي يؤكد الشراكة والتنسيق في ملفات ليبيا والسودان والبحيرات العظمىرئيس وزراء السودان: معركة الكرامة وجودية والحوار الوطني طريقنا لوحدة البلاد وإعمارهاإدريس كامل يؤدي اليمين الدستورية رئيسا لوزراء السودانتدمير المساعدات الغذائية.. السودان يفضح جرائم الدعم السريعرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي يرحب بتعيين الطيب إدريس رئيسا لوزراء السوداناليمين الدستورية وبرنامج المرحلة الانتقالية

وكان إدريس قد أدى اليمين الدستورية رئيسًا للوزراء، السبت الماضي، أمام رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلفًا لحكومة تصريف الأعمال التي تولت المسؤولية خلال الأشهر الماضية.

وفي خطاب تنصيبه، شدد إدريس على ضرورة إعمال "مبدأ المساواة" بين جميع القوى السياسية والفعاليات السودانية، والتزامه بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع، مشيرًا إلى أنه سيكون قريبًا من المواطن في كل المراحل القادمة.

كما أكد على أهمية بناء دولة القانون، بما يشمل النيابة العامة، والقضاء، والمحكمة الدستورية، مشددًا على تعزيز علاقات السودان الخارجية مع محيطه العربي والإفريقي وكافة دول العالم.

مقتل 14 شخصا في قصف لميليشيا الدعم السريع لسوق نيفاشا بالسودانمنها اليمن والسودان.. ترامب يوقع قرارا بحظر سفر مواطني 12 دولة إلى أمريكايونيسيف: هجوم على قافلة مساعدات إنسانية غرب السودانالأمم المتحدة: 4 ملايين شخص فروا من السودان منذ أبريل 2023رئيس وزراء السودان يحل الحكومة..ويشدد على أولوية الأمن واستعادة الاستقراراتصال مصري أمريكي يؤكد الشراكة والتنسيق في ملفات ليبيا والسودان والبحيرات العظمىرئيس وزراء السودان: معركة الكرامة وجودية والحوار الوطني طريقنا لوحدة البلاد وإعمارهاإدريس كامل يؤدي اليمين الدستورية رئيسا لوزراء السودانتدمير المساعدات الغذائية.. السودان يفضح جرائم الدعم السريعرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي يرحب بتعيين الطيب إدريس رئيسا لوزراء السودانالحوار والاستفتاء وملف الاقتصاد على رأس الأولويات

وفي إطار خطته للمرحلة المقبلة، كشف إدريس أن حكومته ستركز على الإعداد لاستفتاء وطني شامل، إلى جانب إطلاق حوار سوداني – سوداني لا يستثني أحدًا، ونبذ الجهوية والعنصرية.

وأكد التزامه بإدارة الجهاز التنفيذي والفترة الانتقالية "بكل كفاءة ونجاعة"، مع إعطاء أولوية قصوى لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار في كافة أرجاء السودان.

كما أعرب عن اهتمامه بالوضع الاقتصادي ومعاش الناس، داعيًا إلى تعبئة كل الطاقات الداخلية لدعم الصادرات، وتفعيل القطاعين الزراعي والصناعي، مع إيلاء أهمية خاصة لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لتخفيف العبء عن المواطنين.

طباعة شارك كامل إدريس السودان الجيش السوداني رئيس الوزراء السوداني الحرب في السودان الخرطوم

مقالات مشابهة

  • احتجاجات حميدتي بصوت خالد عمر!
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: بوت الشرطة وأيام العيد النضرة
  • هل ينجز كامل إدريس شيئاً بكتابيه؟
  • التناقضات والمعايير المقلوبة في اعتذار مبارك الفاضل
  • فضل الله: الدولة قادرة على حشد عناصر القوة التي تملكها لمواجهة الاعتداءات
  • العليمي يشيد بمأرب وقبائلها الأصلية والنهضة التي تشهدها المحافظة والعرادة يؤكد جاهزية القوات لإفشال أي محاولة حوثية لاختراق الجبهة الداخلية
  • عادل الباز يكتب: سياسة امريكا.. ثلاثية وقدها رباعي.!!
  • بسبب الحرب.. انهيار أدوات مواجهة الكوارث البيئة في السودان
  • رئيس وزراء السودان: الحرب في طريقها للنهاية والجيش يحقق التقدم
  • "الكوليرا في زمن الحرب".. ألف حالة يوميا بالخرطوم وتحذيراتٌ من كارثة محقّقة