استمرار العقوبات على سوريا والمنطق الأعوج
تاريخ النشر: 30th, January 2025 GMT
تعيش سوريا اليوم في ظل أزمة مركبة ومعقدة، تجمع بين نتائج حرب مدمرة قام بها الأسد, وأزمة اقتصادية خانقة سببها الأسد، وعقوبات دولية صارمة أيضا تسببها الأسد. هذه العقوبات، التي فُرضت في الأصل على النظام السوري البائد بسبب انتهاكاته ضد الشعب، أصبحت عبئًا إضافيًا على السوريين أنفسهم، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول عدالة هذه الإجراءات وانعدام جدواها في تحقيق أهدافها السياسية أو الإنسانية.
يشبه الوضع الحالي في سوريا حالة شخص مكبّل اليدين والرجلين يُلقى به في البحر ويُطلب منه السباحة. هذا الوصف المجازي يلامس واقع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، حيث تُشّل القطاعات الحيوية وتُحاصر فرص التعافي وإعادة الإعمار. وبينما هرب قادة النظام البائد أو ظلوا بمنأى عن التأثير المباشر لهذه العقوبات، والآن يعاني المواطن السوري من استمرار هذه العقوبات ومن عبئها الكبير من فقر وبطالة وانعدام للخدمات الأساسية.
تناقض العقوبات مع المنطق والعدالة
تستند العقوبات الدولية عادة إلى فلسفة "الضغط على النظام" لدفعه إلى تغيير سلوكياته أو الامتثال للقوانين الدولية. لكن الواقع في سوريا يكشف عن تناقض صارخ: فالنظام الذي ارتكب الجرائم الكبرى ضد الشعب لم يتأثر بالعقوبات بقدر ما تأثرت الأسر السورية التي تعاني من شح الغذاء، وتدهور الخدمات الأساسية، وندرة مواد البناء والطاقة.
تحتاج سوريا إلى جهود ضخمة لإعادة الإعمار بعد أن تركتها الحرب أنقاض مُدن مدمرة. إلا أن العقوبات الاقتصادية تقف حائلًا أمام أي محاولات جادة لتحقيق ذلك. لا تستطيع الشركات الاستثمار أو توريد المواد الأساسية اللازمة للبناء بسبب القيود الدولية، وهو ما يعطل المشاريع التنموية ويحول دون إعادة تأهيل البنية التحتية.لقد كان من المنطقي أن تُفرض العقوبات على قادة النظام وأن تُجمّد أموالهم وأصولهم في الخارج، ولكن بدلاً من ذلك امتدت هذه العقوبات لتطول القطاعات الحيوية مثل الصحة والطاقة والمواصلات والصناعات الأساسية، مما أدى إلى تعميق المعاناة اليومية للشعب.
تأثير العقوبات على إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والمغتربين
تحتاج سوريا إلى جهود ضخمة لإعادة الإعمار بعد أن تركتها الحرب أنقاض مُدن مدمرة. إلا أن العقوبات الاقتصادية تقف حائلًا أمام أي محاولات جادة لتحقيق ذلك. لا تستطيع الشركات الاستثمار أو توريد المواد الأساسية اللازمة للبناء بسبب القيود الدولية، وهو ما يعطل المشاريع التنموية ويحول دون إعادة تأهيل البنية التحتية.
عودة اللاجئين والمغتربين، التي ترتبط بتحسن الظروف الاقتصادية وتوافر مقومات الحياة الأساسية، تصطدم مع هذه العقوبات. فكيف يمكن لعائلة لاجئة في الخارج أن تعود إلى بلد لا يجد سكانه فيه الخدمات الأساسية، ولا يملكون حتى فرصة ترميم منازلهم التي هدّمها الأسد على رؤوسهم؟
سرعة عودة اللاجئين تتناسب طردًا مع سرعة استتباب الأمن وتأمين مقومات الحياة الأساسية، وهو ما يتطلب رفع العقوبات وإطلاق عجلة إعادة الإعمار.
الدور الدولي وضرورة الدعم
في ظل هذه الأوضاع الكارثية، يبدو الدعم الدولي لسوريا ضرورة ملحة. الدول الصديقة مثل تركيا والسعودية وقطر والاتحاد الأوروبي وحتى الولايات المتحدة، يمكنها لعب دوراً محورياً في تقديم المساعدة الاقتصادية والمالية المباشرة والدعم السياسي لضمان استقرار البلاد.
الدعوة إلى رفع العقوبات لا تعني التسامح مع الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب السوري، بل هي دعوة لإعادة توجيه هذه السياسات بحيث تحقق العدالة دون أن تدمر حياة الأبرياء. يجب إيجاد آليات شفافة لتوصيل المساعدات والدعم المالي مباشرة إلى الشعب السوري بعيدًا عن الفساد أو الاستغلال السياسي.
كما أن زيارة الرئيس الأمريكي, دونالد ترامب, إلى سوريا، بما تحمله من رمزية سياسية، يمكن أن تكون رسالة إيجابية للعالم بأن سوريا لم تعد ساحة للصراع الدولي، وأن وقت إعادة البناء والتعافي قد حان. من المفيد أيضًا أن يأتي هذا الرئيس بدعم مالي حقيقي، ليكون رافدا لميلاد سوريا الجديدة.
تجارب سابقة تؤكد فشل العقوبات
تجربة العراق في تسعينيات القرن الماضي تقدم درسًا هامًا في هذا السياق. عندما زرت بغداد كنائب ألماني في عام 2001 ضمن وفد من منظمات المجتمع المدني الألمانية، شاهدت بأم عيني كيف كانت المشافي مليئة بالأطفال المرضى الذين يعانون من مرض السرطان ومن نقص الأدوية بسبب العقوبات الدولية. كانت المواد الأولية للأدوية تُمنع بحجة "الاستخدام المزدوج"، لكن النتيجة كانت كارثية على المدنيين الأبرياء.
إن استمرار العقوبات على سوريا في شكلها الحالي أصبح يتنافى مع كل منطق وقانون وإنسانية. لقد تحوّل الشعب السوري من ضحية للنظام المجرم إلى ضحية لعقوبات لا تميّز بين الجلاد والضحية. آن الأوان للمجتمع الدولي أن يعيد التفكير في سياساته تجاه سوريا، وأن يولي الأولوية لإنقاذ الشعب السوري ودعمه في بناء مستقبل جديد يتناسب مع تضحياته وآلامه.اليوم، تعيد العقوبات المفروضة على سوريا إنتاج المأساة نفسها، حيث يُحرم الشعب من الأساسيات التي يحتاجها لحياته اليومية تحت ذريعة "ورقة ضغط ناعمة" للتأثير على سلوك العهد الجديد.
التوصيات الممكنة
من أجل الخروج من هذه الأزمة، هناك خطوات عملية يجب اتخاذها:
1 ـ رفع العقوبات مباشرة: يجب على المجتمع الدولي رفع العقوبات المفروضة على سوريا بشكل فوري وشامل.
2 ـ آليات دعم مباشرة: وضع آليات تضمن وصول المساعدات الدولية مباشرة إلى الشعب السوري.
3 ـ تحرك دبلوماسي دولي: ضرورة تفعيل دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية لتسهيل عملية إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار السياسي.
4 ـ تشجيع الاستثمارات: تشجيع الدول والشركات على الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية.
5 ـ زيارة رمزية للرئيس الأمريكي: دعوة الرئيس الأمريكي, دونالد ترامب, إلى زيارة سوريا في إطار زيارته للمملكة العربية السعودية, يمكن أن تكون خطوة رمزية لكنها تحمل رسالة دعم قوية، إذا ترافقت مع التزامات مالية حقيقية لإعادة الإعمار وترميم مؤسسات الدولة.
خاتمة
إن استمرار العقوبات على سوريا في شكلها الحالي أصبح يتنافى مع كل منطق وقانون وإنسانية. لقد تحوّل الشعب السوري من ضحية للنظام المجرم إلى ضحية لعقوبات لا تميّز بين الجلاد والضحية. آن الأوان للمجتمع الدولي أن يعيد التفكير في سياساته تجاه سوريا، وأن يولي الأولوية لإنقاذ الشعب السوري ودعمه في بناء مستقبل جديد يتناسب مع تضحياته وآلامه.
* نائب ألماني سابق من أصل سوري
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا العقوبات سوريا عقوبات رأي تحولات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إعادة الإعمار رفع العقوبات هذه العقوبات الشعب السوری العقوبات على على سوریا
إقرأ أيضاً:
الدولية لدعم الشعب الفلسطيني: مصر دولة ذات سيادة ولا أحد يجبرها على شيء
قال الدكتور صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، إن الحديث عن علاقة مصر بالإسلام السياسي يجب ألا يُفهم في سياق عداء أيديولوجي، بل من خلال سياق المراجعة السياسية العامة التي تشهدها المنطقة، والتي تشمل حركات الإسلام السياسي نفسها، وعلى رأسها حركة حماس.
وأوضح عبد العاطي، خلال حواره على شاشة القاهرة الإخبارية، أن العالم العربي يعيش منذ عقود صراعًا غير محسوم بين الأيديولوجيا القومية والدينية، وأن هذا الصراع لم يُفضِ إلى حلول حقيقية، مشددًا على أن الحل يكمن في بناء دولة قطرية ديمقراطية، ومنظومة عربية تتكامل سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
وأكد أن مصر دولة ذات سيادة، ولا يملك أحد أن يفرض عليها التحرك وفق "توقيتات الآخرين"، مشيرًا إلى أن مصر كانت ولا تزال رافعة للعمل العربي المشترك، وأن قوة مصر هي مفتاح لقوة العالم العربي كله.
وأضاف عبد العاطي: "الرئيس السيسي دعا إلى تحالف عربي يواجه مشاريع الهيمنة الخارجية، وكان حريصًا على توحيد الصف العربي رغم تعقيدات الواقع".
وقال إن مصر نجحت في تجاوز أزماتها الداخلية، ومن بينها ملف الإخوان، الذي كان سببًا في تعقيد العلاقة مع حماس لفترة، قبل أن تعلن الحركة فك ارتباطها الإداري بالتنظيم الإخواني.
وأضاف عبد العاطي أن حركات الإسلام السياسي، بما فيها حماس، باتت تُجري مراجعات واضحة لمواقفها السابقة، بعدما تبين أن الحكم في بعض الدول كشف عن أوجه فساد واستبداد فاقت ما كانت تتهم به الأنظمة التقليدية.
واستدرك قائلًا: "لكن الوضع الفلسطيني له خصوصية؛ فحماس مكون أساسي في النسيج الفلسطيني، مثلها مثل فتح وباقي الفصائل، وما نحتاجه هو تغيير في السياسات، وبناء نظام سياسي يقوم على المشاركة والانتخابات".
ونوّه عبد العاطي بأن المشروع الإسرائيلي لا يستهدف غزة فقط، بل يمتد إلى الضفة الغربية، ويمس الأمن القومي لكل من مصر والأردن وسوريا، مشيرًا إلى أن "إسرائيل تعمل على هندسة جغرافيا جديدة لغزة"، ومخططاتها تشمل إقامة ممرات مائية وقواعد عسكرية تهدد العمق العربي.
وأكد أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي لا توجد فيها قواعد عسكرية أجنبية، وهو ما يعكس استقلالية قرارها السياسي، مشددًا على أن موقف القاهرة من القضية الفلسطينية صلب وثابت، وأنها بذلت كل ما يمكن فعله على مستوى الدبلوماسية والوساطة.
وانتقد عبد العاطي الدور الإعلامي لبعض وسائل الإعلام التي تروج للناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، قائلًا إن المتحدث باسم الجيش "دخل غرف النوم العربية" عبر الشاشات، ما يشير إلى اختلال في الخطاب الإعلامي العربي الذي يحتاج إلى مراجعة عاجلة.