عربي21:
2025-07-29@21:56:03 GMT

مع الأفغاني في إيران

تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT

على النقيض من خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني، التي دوَّنها محمد پاشا المخزومي إبَّان مُلازمته للسيد في اﻵستانة (حوالي 1892-1897م)، وكان الأخير واعيا بتدوينها، وهو الذي أملى على الپاشا عنوانها كما أملى عليه محتواها(1)؛ فإن الكتاب الذي نعرضه اليوم ربما يجوز اعتباره عفو الخاطر، أو "خاطرات" لم يُرسلها السيد للنشر، أو على الأقل لم يَعْنَ بنشرها مكتوبة؛ وهذا ما يتجلَّى في طريقة نشرها وكيفيَّة وصولها إلينا.



ففي سنة 1334هـ ق [1916م]، نشر الشاعر الإيراني فُرصة الدولة الشيرازي ديوانه الشعري، بعد أن كلَّفه أحد الفُضلاء بجمعه، وتكفَّل بنشره رغم تأبِّي شاعرنا تواضُعا؛ كما يُقرر في ذيل مُقدمته. وقد خُصَّ الديوان بمُقدِّمة مُطوَّلة، وبُسِطَت المُقدِّمُة بترجمة وافية للناظِم، جُعِلَ واسطة عقدها سرده لوقائع لقاءه بالسيد جمال الدين في مدينة بوشهر الساحليَّة، وكيفيَّة تعرُّفه إليه، وتسجيلا لسيرة السيد بإيجاز كما سمعها من بعض تلاميذه هناك، وطرفا من آرائه وأفكاره التي كان يُلقيها على الإيرانيين في مجالسه آنذاك. وقد احتلَّت محاضرة مُطوَّلة، ألقاها سماحة السيد -في "تاريخ إيران العام"- أكثر المساحة التي خصَّصها الشيرازي لتسجيل بعض ما دعا إليه السيد من مبادئ وما حضَّ عليه من أفكار(2).

يتكشَّف لنا الكثير؛ سواء عن السياق التاريخي العام، أو عن ملامح النهج الدعوي الذي التزمه جمال الدين إبَّان تجواله في ديار الإسلام، وتصوراته العامَّة، وأسلوبه، وكيفيَّة نفاذه إلى أغراضه
وفي هذه الصفحات القليلة، يتكشَّف لنا الكثير؛ سواء عن السياق التاريخي العام، أو عن ملامح النهج الدعوي الذي التزمه جمال الدين إبَّان تجواله في ديار الإسلام، وتصوراته العامَّة، وأسلوبه، وكيفيَّة نفاذه إلى أغراضه. وقد كان أوَّل من نبَّهنا إلى مُقدِّمة ديوان الشيرازي هو المتفنِّن سيد هادي خسرو شاهي رحمه الله(3)، الذي أورَد نص محاضرة جمال الدين عن تاريخ إيران في الأعمال الكاملة "الإشكاليَّة" التي جمعها للسيد، بيد أنه تركها كما هي باللغة الفارسيَّة ولم يُترجمها ولا حتى قدَّم لها بالعربيَّة، ولا بيَّن أهميتها، ولا عرَّف بسياقها؛ فظلَّت المحاضرة -طوال عقود- نصّا مُقتطعا لا يُعرَف أصلهُ، ولا يُمكن للباحث العربي الإفادة منه في ضوء نصوص السيد الأخرى. ثم وَفَّقنا الله تعالى إلى الطبعة الخطيَّة الأصليَّة لديوان الشيرازي؛ فقرَّرنا ترجمة مُقدِّمة الديوان كاملة، لما لها من قيمة كاشفة؛ تضع نص المحاضرة في سياقه الطبيعي، وتسمح بقراءته قراءة سديدة. إذ بعد أن يُترجم الناظم لنفسه، يُورِدُ لقاءه بالسيد وآراءه في ترتيبها الزمني مِنْ تَسلسُل سيرة الشاعر. وبعد سرده لتفاصيل اللقاء، وبيانه لأهم آثاره، وشرحه لأحوال السيد، وبسطه لمحاضرة تاريخ إيران؛ يعود الشيرازي ثانية إلى تتبُّع بعض أخبار جمال الدين بعد افتراقهما، ثم يختم بما بقي من سيرة الشاعر إلى تاريخ صدور الديوان. وعليه؛ يصير لقاءه بالسيد وتلقيه ﻵرائه حدثا خاصّا، أو هكذا أدركه شاعرنا وتأثَّر به؛ رغم وعيه بعموم الحدث ومآلاته، وكثرة المتأثرين به. ومن ثم، فهو لا يُفصح عن الحدث في كتابه الحافل بتراجم أهل عصره: "آثار العجم"؛ بل يُفصح عنه في ثنايا ترجمته لنفسه تقديما لديوانه الشعري، وهذا دالٌّ عظيم الدلالة.

هذه الخصوصيَّة التي يُضفيها الشيرازي على الحدث، إذ يُورِدهُ في ثنايا ترجمته لنفسه؛ تجعلنا نُدرِك حجم الأثر الذي خلَّفه لقاء السيد في نفسه، وكيف بثَّ فيها قدرا مُلهما من الفعاليَّة السياسيَّة؛ دفعه إلى المشاركة في بعض وقائع الثورة الدستوريَّة (1905-1911م)، وساقه إلى تعلُّم الرماية بالطبنجة إبَّانها. بيد أن الخصوصيَّة نفسها التي تركت دمغتها في شخصه؛ تؤكد عموم النمط، وتُرسِّخ نهج السيد في مواجهة الاستبداد أنَّى حل. وهو نهجٌ يألفه من أدام النظر في كتاباته والتأمُّل في مواقفه ومساراته؛ نهجٌ واحد مُطَّرد، يكشف عن اتساق الرجل ووحدة غايته حيثما ارتحل.

وقد كان من التوفيقات الإلهيَّة شروعنا في إعداد النص الذي أسميناه: "خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني في إيران" والعناية به، بعد انتهائنا من كتاب السيد: "تتمة البيان في تاريخ الأفغان"، وإفادتنا من مُقدمته البصيرة الماتعة، التي أنجزها الصديق الدكتور محمد صفار؛ إذ فتحت لنا كوَّة بديعة لإدراك طبيعة النص الذي بين أيدينا، وموضعه في مسيرة السيد، وطريقة توظيفه قدس الله سره للمعلومات التي تبدو مُجرَّدة؛ مُستلهمين ما فُتح به على صديقنا الهُمام.

وقد ظلَّت هذه الترجمة الجزلة السلسة الرائقة حبيسة الأدراج لثلاثة أعوام، لأننا حاولنا تقديم بعض نصوص السيد الأخرى في النشر؛ فأُشغلنا بتحصيل نصوص جديدة، وتوقَّف المشروع طوال الأعوام الثلاثة بلا إنجاز، رغم جهوزيَّة هذه الترجمة وكتاب "التتمة"، الذي سيصدُر معها في التوقيت نفسه إن شاء الله تعالى. وعليه، اقتضت الأمانة أن ننصح القارئ بقراءة نصوص السيد التي نشرناها على الترتيب نفسه، وذلك حتى يتكشَّف له البناء الذي تكشَّف لنا، والذي لا حيلة لنا فيه إلا إنجازه على الوجه الذي وفقنا إليه.

ومن ثم، فرغم أن "تتمَّة البيان" كان أسبق زمنيّا في الصدور من سابقيه؛ إذ صدر في الإسكندريَّة عام 1878م(4)، أصدرته مطبعة جريدة "مصر" -لصاحبها أديب إسحاق- قبل نفي السيد من مصر بعام واحد، وأن  جريدة "العروة الوثقى" قد صدرت في پاريس على مدى عام 1884م، وصدرت "الخاطرات" للمرة الأولى في بيروت عام 1931م (والراجح إملائها خلال 1892-1897م)؛ أي بعد وفاة السيد بخمسة وثلاثين عاما تقريبا، وصدر كتابنا هذا حوالي سنة 1912م (التقى شاعرنا بالسيد جمال الدين وصحبه إبَّان عام1303هـ ق/ حوالي 1885م؛ أي عقب توقُّف جريدة "العروة الوثقى")؛ فإن ترتيب قراءة أربعتهم هو كترتيب نشرنا لهم، لا كترتيب نشرتهم الأصليَّة؛ أي أنه كالتالي: "الخاطرات"، ثم "العروة الوثقى"، ثم "تتمَّة البيان"، ثم هذا الكتاب الذي نضعه اليوم بين يدي القارئ: "خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني في إيران". وبدهي أن ثمة أسبابا كثيرة تجعل ترتيبنا في النشر أولى وأنفع لترتيب القراءة اليوم، ولعل أهمها تغيَّر الزمان والمكان، وتشوه صورة السيد وفكره في الأذهان.

* * *

وعلى عكس بسط السيد لملامح الشخصيَّة الإقليمية لأفغانستان في "تتمَّة البيان"، وبالتالي حاجة صديقنا الدكتور محمد صفار إلى إطار نظري مُستقى من العبقري جمال حمدان(5)؛ لبيان نهج الأفغاني ومقصوده في الكتاب المذكور، وملاءمة ذلك للحالة المصريَّة والأفغانيَّة معا؛ فإن جمال الدين يعتمد في سرده تاريخ إيران -بوصفه قلب هذا الكتاب وواسطة عقده- على استشعار الإنسان الإيراني -في العموم- للاستمرار التاريخي مع ماضيه، واعتزازه به، وإمكان مُخاطبته بالمطلوب باستدعاء هذا الشعور بـ"المجد الوطني"، وهذه الصلة النفسيَّة بالماضي التليد. فليس الإقليم الجغرافي (عبقريَّة المكان) كلمة السر في إيران وحالتها الخاصَّة، وإنما هي "عظمة" التاريخ وتعدُّد دورات أمجاده داخل الزمان؛ في الجاهلية وفي الإسلام. وعليه، لم يلجأ السيد في محاضرته إلى "اعتصار روح المكان واستقطاره" كما فعل في الحالة المصريَّة، وإنما قصد التاريخ مباشرة (مجد الزمان)؛ فحشده، واستقطر آلاف السنين في مُحاضرة واحدة، إذ أدرك أن التاريخ -لا الجغرافيا- هو روح الإنسان الإيراني وكلمة سر شخصيَّته الجمعيَّة.

وفي هذا النص القصير، الذي اصطنع منه الأفغاني مرآة ذاتية للإيرانيين؛ نجده كذلك صادقا مُطردا مع نفسه، مُتسقا مع اعتقاده، ولا يتلوَّن موقفه أبدا؛ فرغم أن نص المحاضرة الماتعة مُرتجلٌ وابن لحظته، إلا أننا نراه ينأى عن الخوض فيما يخوض فيه الغُلاة من قدحٍ للخُلفاء حتى إذا كان الجمهور إيرانيّا شيعيّا، يُخاطَب باللغة الفارسيَّة في عقر داره. وهو اطرادٌ لموقفه الناضج المتحفِّظ من الخلفاء الراشدين وتاريخهم، الذي لم يمنعه من نقد غيرهم وتقريعهم خصوصا رؤوس بني أميَّة، مع إقراره بعدل عمر بن عبد العزيز وحصافته، وإن لم يبلُغ غلو الذين يُسبغون عليه زورا لقب الخليفة الخامس، ويُسقطون الإمام الحسن بن علي عليهما السلام. بل نلمس كذلك الاطراد الصريح لموقفه من الباطنية، وموافقة رأيه في الحسن الصباح والإسماعيلية -في هذه المحاضرة- لرأيه فيهم في رسالته الأشهر: "الرد على الدهريين"(6)؛ التي كتبت بالفارسيَّة لسياق سني في شبه القارة الهنديَّة. إذ يقول عن الحسن -في كتابنا هذا- أنه "كان يتظاهر بالزُّهد والورع لخداع الناس".

وابتداء من عهد السامانيين، إذ حقَّقت الشخصيَّة الإسلامية الإيرانيَّة قدرا من التبلور، يسمح بنهضة أدبية مستقلة؛ نجده يُشير -في سرديته المقتضبة والموجَّهة- إلى بعض الشعراء والأدباء، والعلماء والفلاسفة، الذين برزوا في عصور شتَّى؛ إمعانا في أنسَنَة ذلك التاريخ وبلورة صورة مركَّبة عنه، بوصفه تاريخا مجيدا في نواحٍ عدَّة، أو في أكثر نواحيه. ثم نراه يُنهي استعراضه لتاريخ كل أسرة حاكمة -من الأسر التي حكمت إيران- بحكم عامٍ عليها وعلى حكامها؛ يُكمل به إشاراته المقتضبة، ويضعها في سياقها العام. وفي حين يكاد يتقزَّز -مثلا- من البويهيين ولا يُبالي بمذهبهم؛ نراهُ يُثني على الغزنويين والسلاجقة، ويُعظِّم إنجازهم في الحكم رغم تسنُّنهم، بل يفعل ذلك تلقائيّا دون كثير مبالاة بمذهبهم؛ لافظا المذهبية من أدواته المعياريَّة، التي يحكم بها على الدورات التاريخيَّة.
__________
(1) راجع: محمد المخزومي، خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني (تنوير للنشر والإعلام، 2020م)، الطبعة الأولى، هامش ص 26.
(2) يستعمل شاعرنا لقب "أسدآبادي" -نسبة إلى بلدة أسدآباد في محافظة همدان- الذي يشتهر به السيد جمال الدين في إيران؛ إذ يرفض الإيرانيون نسبته إلى غيرهم، وذلك كما يرفضون تلقيب الولي الصوفي مولانا جلال الدين بـ"الرومي" -أي التُركي!- ويُصرون على نسبته إلى مسقط رأسه: "البلخي".
(3) فقيه ودبلوماسي وسياسي ومُترجم إيراني (1938-2020م).
(4) لمزيد من التفاصيل حول ظروف نشر الأعمال الأخرى والملابسات التي أحاطت بها؛ راجع مُقدماتنا على الكتب.
(5) راجع: جمال الدين الأفغاني، تتمة البيان في تاريخ الأفغان (تنوير للنشر والإعلام، 2025م)، التصدير، ص 19وما بعدها. ونحن ننصح بقراءة تصدير الدكتور محمد صفار هذا، قبل مواصلة هذه السطور.
(6) قيد الإعداد للنشر قريبا إن شاء الله تعالى في إطار هذا المشروع نفسه.


x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأفغاني الإيراني الكتب إيران كتب فكر الأفغاني مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تاریخ إیران فی إیران ة البیان

إقرأ أيضاً:

شحاتة السيد يكتب: لماذا تُستهدف مصر؟ ولماذا تُنفق المليارات لتشويه صورتها؟

ما يجري حول مصر اليوم لا يمكن قراءته كضجيج عابر، أو شغب سياسي مؤقت؛ بل هو نتاج ترتيب طويل، هندسة مقصودة ومستمرة، تستند إلى خبرة عميقة في الحروب الرمادية، وتُدار بأدوات ناعمة لا تُطلق رصاصة واحدة، لكنها تُصيب بعمق، وتُحدث ارتباكًا داخليًا طويل الأمد. 
 

نحن أمام حملة ليست وليدة لحظة، بل خلاصة خطط تمتد على مدار سنوات، تتكئ على فهم دقيق لطبيعة هذا البلد، لتاريخه، لمزاجه الشعبي، ولحساسيته تجاه صورته وذاته ومصيره.

وحين تتحرك مصر نحو بناء ذاتها، لا تتحرك في فراغ؛ كل خطوة تقطعها إلى الأمام، تقترب بها من لحظة لا تروق للكثيرين: لحظة التوازن. اللحظة التي لا تصبح فيها مصر عبئًا على المنطقة، بل رقمًا حاسمًا في معادلاتها. 

هذه اللحظة تحديدًا، هي ما تخشاه أطراف عدة؛ دول مجاورة كانت، طويلاً، تنعم بترف التحرك في ظل غياب الدور المصري أو انكفائه. أجهزة إقليمية تعودت أن تعمل في فراغات القوة، لا تجد في صعود مصر سوى تهديد مباشر لامتداداتها، ومصالحها، ونفوذها.

هؤلاء لا يعلنون القلق، لا يصرخون من على منصات السياسة؛ بل يتحركون بصمت، بدقة، وبميزانيات ضخمة لا يُعلَن عنها. يختارون التوقيتات الحساسة، والمفاصل الانتقالية، واللحظات التي يكون فيها المزاج العام مرهقًا أو مشوشًا، ليضربوا؛ ليس عبر الجيوش، ولا حتى بالتحركات الدبلوماسية، بل عبر شيء أكثر خطرًا: وعي المواطن.

لا أحد يوجّه لك ضربة مباشرة اليوم؛ ما يُصاغ الآن هو حرب على الإدراك، على الصورة، على المعنى. يُعاد تشكيل الوعي الجمعي للمصري عبر جرعات منظمة من التشكيك؛ ليس في حدث بعينه، ولا سياسة بعينها، ولكن في قيمة الدولة نفسها، في مشروعها، في حقها في أن تنهض.

هنا لا تُستخدم اللغة السياسية التقليدية، بل تُعاد كتابة الرواية بلسان يشبه لسانك، بلكنة مألوفة، بإيقاع قريب من الشارع، لكنه مسموم. تبدأ القصة من مشهد يومي بسيط، من شكوى مشروعة، من خطأ عابر، ثم تُضخَّم، وتُنسج حولها شبكة من التفسيرات، والاتهامات، والاستنتاجات؛ لتتحوّل إلى سردية مكتملة تُبنى في العقول، وتُتداول كأنها "الحقيقة الوحيدة الممكنة".

يُقال أن الإعلام الجديد منح الشعوب صوتًا؛ لكن في حالتنا، أصبح هذا الصوت هدفًا لمن يريد أن يزرع بداخله صدىً غريبًا، نشازًا، لا يعرف له مصدرًا. يكفي أن تنتشر آلاف الحسابات، أن تُنتج مئات المقاطع المصورة، أن تُضَخ تقارير مكتوبة في غرف مغلقة، وتُوزّع على منصات يبدو ظاهرها محليًا، لكنها مملوكة فعليًا لعواصم وأجهزة معروفة، لتتحوّل الحملة إلى ظاهرة، ثم إلى "رأي عام"، ثم إلى قناعة مسمومة تسري في الجسد الوطني.

المنصات الإعلامية التي تدّعي الحياد، والتقارير التي تصدر تحت عناوين كبيرة عن الحقوق والحريات، ليست دائمًا بريئة؛ هناك من يحترف خلط الأوراق، والتلاعب بالمفاهيم، وتقديم نصف الحقيقة على أنها كل الحقيقة. وهناك من يتقن صناعة الالتباس، وإشعال الشك، وفتح الثغرات في الجدار الداخلي؛ لا ليُصلح، ولكن ليُهدم من الداخل.

هذه ليست معركة على قرار، أو سياسة، أو شخص؛ هذه معركة على الجوهر، معركة على الصورة الذهنية التي تُرسم لمصر في أذهان أهلها أولًا، قبل أن تُرسم في الإعلام الدولي أو المؤتمرات. هذا لأن الخطر الحقيقي ليس في الحدث الذي يُشوَّه، بل في تراكم التشويه نفسه، حتى يفقد الناس ثقتهم في الواقع.

ولأن من يدير هذه الحرب يعرف تمامًا أن مصر لا تُهزم خارجيًا، فإنه يراهن على الداخل: على الإرباك، على التآكل التدريجي، على تآكل المعنى. يرمي إلى أن يتعوّد الناس على أن يُشككوا في كل شيء، حتى في أنفسهم، في قدرتهم على الفهم، على التمييز، على الصبر، على الأمل.

لكن هذا الرهان، رغم خطورته، يفتقد إلى أمر جوهري: أن مصر، رغم ما تمر به، ليست هشّة كما يتوهم البعض. صحيح أن الضغوط قاسية، وأن الطريق طويل؛ لكن المزاج المصري – الذي يبدو أحيانًا متقلبًا – يحمل بداخله وعيًا عميقًا تشكّل على مدى قرون. 
المصري يُجيد الإصغاء، لكنه أيضًا يُجيد التفرقة؛ وقد يتأثر، لكنه لا يُسلّم وعيه بسهولة.

ولعلهم لم يستوعبوا الدرس في كل محاولة لهز صورة مصر، كانت ترتد في النهاية إلى صاحبها؛ وكل حملة تُبذَر بالتمويل، تُقابلها في الداخل ذاكرة جمعية تعرف من يزرع ولماذا. لأن هذا الشعب، الذي عانى كثيرًا، لم ينسَ كيف تُبنى الدول، ولم ينسَ أثمان الفوضى، ولا ثمن الفراغ.

الذين يصرفون الملايين ليهدموا المعنى، لم يدركوا بعد أن مصر – حين تقرر أن تصمد – لا تقف وحدها، بل يقف خلفها شعب لا يُباع، ولا يُشترى، ولا يُدار من الخارج.

طباعة شارك اللغة السياسية الإعلام المنصات الإعلامية

مقالات مشابهة

  • قطاع غزة يسجّل أعلى نسبة في تاريخ التصنيف العالمي للجوع
  • أحرار العالم في مواجهة الإبادة.. أين العرب من تاريخ العدالة؟
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • أحمد عصام السيد: شخصيتي في عايشة الدور تشبهني.. خاص
  • السيد عبدالملك الحوثي.. الثائر الذي قلب المعادلة وكسر هيبة الطغاة
  • رسمياً.. كريستيانو رونالدو أول ملياردير في تاريخ كرة القدم
  • الأحمد لـ سانا: أكد السيد الرئيس ضرورة المضي في العملية الانتخابية في كل المحافظات السورية، ورفض التقسيم الذي ينبذه جميع السوريين
  • رئيس اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب محمد طه الأحمد لـ سانا: تم خلال اللقاء مع السيد الرئيس أحمد الشرع أمس، إطلاعه على أهم التعديلات التي أُقرت على النظام الانتخابي المؤقت لمجلس الشعب، بعد الجولات واللقاءات التي قامت بها اللجنة مع شرائح المجتمع السوري
  • جمال الدين: المنطقة الاقتصادية لقناة السويس تمثل الحل الناجز أمام المستثمرين
  • شحاتة السيد يكتب: لماذا تُستهدف مصر؟ ولماذا تُنفق المليارات لتشويه صورتها؟