ما بعرفن !
شروق جعفر طومار
كنت في طريقي إلى البيت بعد يوم متعب برفقة ابني محمد الذي بدأ يدندن دون مناسبة كلمات أغنية “شفت البطل شفته” بمجرد ركوبنا السيارة، فهذه الأغنيات صارت أناشيد الصباح والمساء، ولأننا في مساء الخميس علقنا في زحمة سير زادت طول الطريق.
شبك محمد الهاتف على مسجل السيارة ودور الأغنية وبدأ يردد معها:
شفت البطل شفته
شفته اللي مش خايف
من طلته عرفته
وعملّي مش شايف
قال لي محمد: بحب هذه الأغنية، بتخليني أتخيل كيف المقاتلين بكونوا متخفيين لكن الناس بيعرفوهم إذا صادفوهم من هيئتهم.
سكت لحظة وقال: نفسي أصادف واحد منهم، بحسد الناس اللي عايشين معهم، نيال قرايبهم. مقالات ذات صلة
قلت له: بتفكر قرايبهم بكونوا بالفعل عايشين معهم؟ همه غالبا بكونوا كالسراب، أهلهم وحبايبهم نادرا ما يشوفوهم، بصيروا يشوفوهم بالخيال أكتر من الواقع، وأحيانا بصحلهم يودعوهم لما يستشهدوا وأحيانا كتيرة ما بصحلهم.
لا أدري ما الذي ذكرني لحظتها بأغنية سناء موسى “طلت البارودة والسبع ما طل”..
قلت له أن يفتحها، فكان من الضروري أن أشرح له بعض المعاني فيها قبل أن نسمعها.
أخبرته أن الأغنية تحكي مشاعر حبيبة المقاتل الذي يخرج للقتال ثم لا يعود، بينما تعود بارودته وجعبته على فرسه بدونه.
هذه الحبيبة ربما تكون أمه أو زوجته أو خطيبته التي تقضي أيامها بانتظاره فيما يفصل بينها وبينه سلاسل ووديان، فهؤلاء المقاتلين يسكنون الأحراش والجبال، يخرجون للقتال في الطرق الوعرة، ثم يعودون لأكناف مواقع مجهولة قد تختلف في كل مرة، فلا يعرف أهلهم طريقهم.
دوّر محمد الأغنية، فبدأت سناء موسى بصوتها الشجي ترثي الحبيب وأخذت أنا هذه المرة أردد معها: ما بيني وبينك سلسلة ووادي وين رحت غادِ يا أعز أحبابي.. “، حتى خنقتني غصة لم أستطع معها مواصلة الغناء حين بدأت تقول “حمرا يا أصيلة وين رحتي فيه..” في إشارة إلى فرسه التي عادت حزينة بدونه.
حبست دموعي لكنني لم أتمكن من إخفاء رجفة صوتي فتوقفت عن الغناء..
علق محمد: الأغنية مؤثرة فعلا.
وصلنا بعد دقائق إلى نقطة كان يجب أن ينزل هو فيها للقاء أحد أصدقائه.
قلت له: عندما تعود سأحدثك أكثر عن قصص المقاتلين الخفيين وسوف نستمع معا لأغنية قديمة أحبها جدا اسمها “ما بعرفن”.
سألني: لمين الأغنية؟
أجبته: لمارسيل خليفة.
قال: آه مارسيل خليفة الي كنتي تغنيلي أغنيته تبعت الطيارة وأنا صغير عشان أنام.
قلتله: هو بذاته.
نزل محمد، وأخذت كلمات أغنية مارسيل “ما بعرفن” التي غناها قبل سنوات طويلة تحوم في رأسي، وهي تحكي قصة المقاتلين الذين لا يعرفهم أحد.
تذكرت الكثير من المقاتلين الذين ينطبق عليهم الوصف، وقلت في نفسي: سأحكي لمحمد عندما يعود عنهم، وسأحكي له أكثر عن محمد الضيف الذي قضى ما يزيد عن ٣٠ عاما مختفيا، يحل في كل مرة على بيت أو مغارة ضيفا مجهولا، لا يعرف الناس منه إلا ظله.
تذكرت أيضا حديث صديق خرج من غزة بعد أشهر من الحرب، حدثني حينها بأنه صادف ذات يوم في الطريق شخصا ملثم لديه عرجة في رجله، شعر بأنه الضيف بفدفعه الفضول إلى متابعته بنظره لكن الرجل اختفى فجأة في أحد الأزقة رغم أن الطريق في معظمه مكشوف للبصر.
لم أكن وفية في وعدي لمحمد ولم أتمكن من تأجيل سماع الأغنية لحين عودته، ففتحت الأغنية ورفعت الصوت، لتنفجر دموعي مع أول كلمات تخرج من السماعة.
وصلت البيت، وكعادتي فتحت التلفاز قبل أن أخلع معطفي، لأجد خبرا عاجلا بإعلان استشهاد محمد الضيف رسميا.
عندما عاد محمد إلى البيت بعد وقت قصير، لم يكن هناك حاجة لأحكي له القصص، فقد كانت القصة تحكي نفسها على الشاشة.
الكثير من الصور والسير تروي حكاية استشهاد الضيف ورفاقه، وتحكي كيف كانت حياتهم، وكيف صارت صورهم اليوم مكشوفة بعد أن كانوا لسنوات ظلالا، تماما كما تقول الأغنية:
ما بعرفن.. ما شايفن
لفوا وجوهن بالقهر
ما بعرفن.. ما شايفن
خبوا سلاحن في الوعر
خبوا أسامهين
ما في حدا بيشوفهن
إلا إذا ماتوا!
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
المنوفي الذي هزم أمريكا وإسرائيل
لم يكن أنور السادات مجرد رئيس جلس على مقعد الحكم بعد ناصر، بل كان عبقرية سياسية نادرة أدركت أن معارك الأوطان لا تُدار بالشعارات بل بحسابات العقل واتخاذ القرار في التوقيت الصحيح، خاصة بعد هزيمة ومعنويات في الأرض، قرأ السادات خريطة المنطقة بعيون تختلف عن الجميع وحسم قراره، فجاء قرار الحرب في السادس من أكتوبر ليغير الموازين ويعيد لمصر مكانتها بذكاء نادر وانتصار دبلوماسي غيّر وجه الشرق الأوسط لعقود.
تحرك السادات برؤية لم يفهمها كثيرون، فهو لم يرد حربا تُنهك مصر، بل حربا تُعيد إليها إرادتها، أعاد بناء الجيش في صمت، وحوّل الهزيمة إلى درس واليأس إلى طاقة، وفي الوقت الذي انشغل فيه خصومه بالخطابات كان هو يرسم خطوط المعركة في ذهنه، ويضع توقيتها بدقة رجل يعرف أن النصر لا يأتي صدفة، بل يُصنع بتوقيت محسوب.
في السادس من أكتوبر 1973 نطق القرار التاريخي ودوّت صيحة الله أكبر على ضفة القناة لتبدأ ملحمة العبور التي أدهشت العالم، لم يكن النصر مفاجأة للسادات بل ثمرة تخطيط دقيق بين العقل والسياسة والسلاح، أدرك أن النصر العسكري لا يكتمل إلا بانتصار سياسي، فانتقل من خنادق القتال إلى ساحات التفاوض، واضعًا نصب عينيه استعادة الأرض وتحقيق السلام بشروط المنتصر لا المهزوم.
لم يكن السلام عند السادات ضعفا بل امتدادا لشجاعة الحرب، واجه الجميع بقرار الذهاب إلى القدس وهو يعلم أنه يغامر بكل شيء في سبيل أن يحمي كل شيء، أراد أن يخرج بمصر من دائرة الدم إلى دائرة التنمية وأن يحول النصر إلى طاقة بناء لا استنزاف. عبقرية السادات لم تكن في قراراته فقط بل في توقيته، في قدرته على قراءة المستقبل، وفي شجاعته على مخالفة المألوف.
رحل السادات لكن بقي اسمه محفورا في ذاكرة الأمة كقائد آمن بأن الحرب وسيلة للسلام، لا غاية في ذاتها، وبأن مصر تستحق أن تكون في مقدمة الأمم لا في ذيلها، ذلك هو السادات بطل الحرب والسلام وابن المنوفية الهمام.