جمهورية الكدمول: للافتراس نهج (2-2)
تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT
ملخص
جاء كتاب "جمهورية الكدمول" لخطاب الحرب بتحليل اقتصادي اجتماعي هو من الفرائض الغائبة في خطاب الحرب عندنا. فلا تجد أحداً من بين الصفوة على ضفتي الحرب من استصحب علم الاقتصاد والمجتمع في فهمها. فـ"الدعم السريع" في تحليلهم حال سياسية عسكرية بحتة في طلاق بيِّن مع اقتصادها وديناميكيته. فحتى الحزب الشيوعي، الذي في عقيدته أن الاقتصاد محرك التاريخ، لا يرى منه سوى الوجه العسكري السياسي، بينما يمزج الباحثون غيرنا اقتصاده وسياسته وعسكريته مزجاً.
صدر خلال شهر يناير الماضي كتيب بعنوان "جمهورية الكدمول" (غطاء رأس أفراد ’الدعم السريع‘) من وضع جشوا كريز ورجاء مكاوي من هيئة مسح الأسلحة الصغيرة في سلسلة تقاريرها حول التقديرات المبدئية للأمن الإنساني. وعززه فريق من المراسلين من داخل السودان المغيبين اسماً ممن قاموا بالبحث الذي من ورائه. فدرس التقرير لدراسة الآليات الاقتصادية التي يدير بها "الدعم السريع" المدن التي احتلها. وسمى اقتصادها، لجهة توحشه من حيث تحول القادة العسكريين أنفسهم إلى مستثمرين، بالاقتصاد السياسي الافتراسي لقيامه على النهب، والفدية عن الرهائن ومنهوب المال، والإثقال في الضريبة.
ويثير هذا الاقتصاد الافتراسي الذي كشف عنه "جمهورية الكدمول" مسألتين شاغلتين. فالمسألة الأولى هي المنهج حيال جماعات من المتعاونين مع "الدعم السريع" خلال احتلاله أحيائهم لنحو عامين. فجنح المتضررون منهم إلى أخذ القانون بيدهم بعد اقتلاع الجيش لـ"الدعم السريع" من أحيائهم والثأر لأنفسهم منهم. وحذرت الدولة، التي تستعيد آلتها حيث وجدت القوات المسلحة بصعوبة، دون هذا الانفلات، ودعت لإحالة المتهم بالتعاون إلى الحكومة.
وقد نحتاج للوعي الأمثل بهذا التعاون المنكر مع "الدعم السريع" برده إلى اقتصاد التنمر السياسي الذي كشف عنه تقرير "جمهورية الكدمول"، فنرى منه أن "التعاون" لم يكن خياراً للمتعاونين بل كان كرهاً لهم. فأقام "الدعم السريع" من فوق أنقاض الاقتصاد الذي هدمه شبكات عمالة جعلت ألا مناص لمن وقعوا تحت حكمه من السكان المفقرين من الاندماج فيها كلياً. فصار عليهم أن يتعاملوا في نطاق هذا الاقتصاد القائم في النهب الافتراسي كمنتجين إما خوفاً أو للحاجة لدخل. ففرض "الدعم" على بعضهم التجنيد إكراهاً وبسلاح التجويع. فانتمى إليه من الناس من خلا طرفه من المدخرات وانقطع معاشه، لو كان من أربابه، لـ"الدعم" لحماية نفسه أو أسرته في غيبة أي نظام بديل للعمل.
فاندماج الحرب في السوق، التي صارت الدولة ومجتمع الموارد، أغرى بالارتزاق كالخدمة الوحيدة المعروضة في هذه السوق. فالمخبر لـ"الدعم" عن العدو يصدق له "الدعم" بكشك لتجارته الصغيرة أو درداقة (لنقل البضائع في الأسواق)، ثم هناك العمال الذين يرشدون إلى بيوت أهل المال ولهم من الغنيمة نصيب، وهناك طبقة الحرامية الموكول لهم بنهب البيوت. وظهرت النعمة على كثير من الأسر التي خدمت في هذه الأشغال مع "الدعم السريع". وهكذا تخلصت إدارة "الدعم السريع" بالدفع عيناً من نظم المواهي.
وأثار كتاب "جمهورية الكدمول"، ناظراً إلى الاقتصاد الافتراسي لـ"الدعم السريع"، سؤالاً حول إن كان بوسعه الالتزام باتفاق للسلام ينعقد معه في هذه الحرب. فمع تكلف آل دقلو بأجور جنود "الدعم السريع"، في قول الكتاب، إلا أن النهب هو المصدر الأكبر لدخول منتسبيه مع ذلك. فالنهب في "الدعم السريع"، واصل الكتاب قائلاً، ليس حدثاً عارضاً من أعراض الحرب بل مكون ضروري لنظام الأجور في "الدعم السريع". ولا يغرنك، في رأي الكتاب، قولهم إنما ينهبون مال دولة 56 الحلال على الهامش، فالنهب طاول مدن الهامش أيضاً مثل نيالا وزالنجي في ولاية دارفور.
وخلص الكتاب إلى أنه إذا كان النهب عصب اقتصاد "الدعم السريع" فالتوسع في الحرب وحده هو ما يكفل لهم تدفق المال لملاقاة أجورهم. وربما كان مصداق هذا في الاقتران أخيراً بين شكاوى من أفراد من "الدعم السريع" عن عدم قبضهم رواتبهم لشهور على فيديوهات منشورة، مع نداءات منهم لحميدتي لفك اللجام والأمر بـ"فتح" ولايات النيل والشمالية. وكأنهم يريدون حقولاً بكراً لتغنيمها بعد تجفيفهم لموارد الخرطوم والجزيرة. فـ"الدعم السريع" في قول الكتاب، في حال مقيم من الأزمة ودائماً ما كان في حاجة إلى إقليم جديد لغزوه. ويظل يخيم عليه شبح تداعي مكوناته إذا لم يجدد حقول افتراسه. وقال الكتاب إن "طبيعة الوحش" هذه إحدى المخاوف من استدامة أي وقف نار أو سلام ينعقد.
جاء الكتاب لخطاب الحرب بتحليل اقتصادي اجتماعي هو من الفرائض الغائبة في خطاب الحرب عندنا. فلا تجد أحداً من بين الصفوة على ضفتي الحرب من استصحب علم الاقتصاد والمجتمع في فهمها. فـ"الدعم السريع" في تحليلهم حال سياسية عسكرية بحتة في طلاق بيِّن مع اقتصادها وديناميكيته. فحتى الحزب الشيوعي الذي في عقيدته أن الاقتصاد محرك التاريخ لا يرى منه سوى الوجه العسكري السياسي. خلافاً لهذا يمزج الباحثون غيرنا اقتصاده وسياسته وعسكريته مزجاً. فمنظمة "غلوبال وتنس" وصفته بـ"المركب الصناعي الميليشياوي" وسماه المتخصص في علم السودان ألكس دي وال بـ"شركة الارتزاق الخاصة العابرة للأمم".
ولن نبعد النجعة إن قلنا إن الطلاق بين اقتصاد "الدعم" وعسكريته في سياسات قوى الحرية والتغيير (قحت) هي التي قادت إلى هذه الحرب. فقررت "قحت" في سياق الإصلاح الأمني والعسكري في الاتفاق الإطاري (يناير 2023) دمج "الدعم السريع" في الجيش. وهذه غفلة كبرى لأن ثروة حميدتي التي رأينا شبكاتها قيد المقاطعة الأميركية كانت ستذهب أدراج الريح بغير أن يكون زمام "الدعم السريع" بيده لا الجيش. فـ"الدعم السريع" هو الجن حارس الكنز، بل واشتطت "قحت" فوق ذلك كله وحظرت على "الدعم السريع" كميليشيات حتى إن يطرق أبواب المال والأعمال. وظنت "قحت" توقيع حميدتي على الإطاري كسباً ولم تفطن إلى أنه حين قال لها إنه سيدمج دعمه السريع في الجيش بعد 20 عاماً فكأنه قال لها سودانياً "تلقوها عند الغافل". وقال كاتب إن "قحت" لم تعط الإطاري نيرات فكرها فوضعت قوتين مسلحتين رئيستين في طريق وعر انتهى بحرب.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
ستة قتلى بقصف مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع على مستشفى في السودان
الخرطوم- قصفت قوات الدعم السريع الجمعة مستشفيين وأحياء سكنية في مدينة الأبيض في ولاية شمال كردفان في وسط السودان، ما أدى إلى مقتل ستة أشخاص، وفق ما أورد مصدر عسكري وشهود.
وأفاد مصدر عسكري وكالة فرانس برس أن "المليشيا قصفت مستشفى الضمان بمسيرة مما أدى إلى سقوط 6 قتلى وجرح 12، وفي ذات الوقت قصفت بالمدفعية الثقيلة احياء المدينة"، مشيرا إلى أن القصف استهدف مستشفى آخر.
وأكّدت إدارة مستشفى الأبيض الدولي للضمان الحصيلة مضيفة "نعلن لجميع المواطنين بالولاية أن المستشفى الآن خارج الخدمة إلى حين إشعار آخر".
وفي شباط/فبراير، كسر الجيش السوداني حصارا فرضته قوات الدعم السريع قرابة عامين لمدينة الأبيض الواقعة عند تقاطع استراتيجي يربط العاصمة الخرطوم (400 كيلومتر) بمنطقة دارفور الشاسعة.
وفي الأسابيع الأخيرة، كثّف مقاتلو قوات الدعم السريع هجماتهم على الفاشر التي تعد آخر مدينة كبرى في إقليم دارفور (غرب) ما زال الجيش يسيطر عليها، في حين تحذّر الأمم المتحدة ومراقبون دوليون من فظائع قد تكون ترتكب على نطاق واسع.
وأعلنت قوات الدعم السريع الخميس سيطرتها على بلدتين استراتيجيتين في كردفان.
ويشهد السودان منذ نيسان/أبريل 2023 حربا دامية بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد منذ انقلاب عام 2021، وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو الملقب "حميدتي".
وكان الجيش السوداني تمكن من استعادة السيطرة على مدينة الخوي التي تقع على مسافة نحو 100 كيلومتر من الأبيض وتعد مفترق طرق استراتيجي بين الخرطوم ودارفور، لفترة وجيزة قبل نحو عشرة أيام قبل أن تسقط مرة أخرى في أيدي قوات الدعم السريع الخميس.
وأعلنت قوات الدعم السريع الخميس سيطرتها على الدبيبات، وهي بلدة رئيسية تربط ولايتي شمال وجنوب كردفان. وأكد شهود عيان لوكالة فرانس برس أن البلدة أصبحت الآن تحت سيطرة هذه القوات.
- تفشٍ للكوليرا -
ومع دخول الصراع عامه الثالث، تظل البلاد منقسمة بحكم الأمر الواقع إلى قسمين: الجيش يسيطر على الوسط والشرق والشمال، في حين تسيطر قوات الدعم السريع على كل دارفور تقريبا وأجزاء من الجنوب.
وأدّت الحرب إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح 13 مليون شخص، وتسببت بما وصفته الأمم المتحدة بأنه "أسوأ أزمة إنسانية" في العالم.
وشهدت الخرطوم الكبرى معارك معظم العامين الماضيين خلال الحرب.
وأعلنت الحكومة المرتبطة بالجيش الأسبوع الماضي أنها أخرجت قوات الدعم السريع من آخر مواقعها في ولاية الخرطوم بعد شهرين على استعادة معظم أنحاء العاصمة. ولحقت بالمدينة أضرار جسيمة فيما البنى التحتية للصحة والصرف الصحي بالكاد تعمل.
وأُجبر حوالى 90 في المئة من مستشفيات البلاد في مرحلة ما على الإغلاق بسبب المعارك، بحسب نقابة الأطباء، فيما تم اقتحام المنشآت الصحية بشكل دوري وقصفها ونهبها.
وقالت مديرة لجنة الإنقاذ الدولية في السودان اعتزاز يوسف إن "السودان على حافة كارثة صحية عامة شاملة".
وأضافت أن "مزيجا من النزاع والنزوح وتدمير البنى التحتية الحيوية، ومحدودية الوصول إلى المياه النظيفة، يغذّي عودة تفشي الكوليرا وأمراض قاتلة أخرى".
ونزح ما لا يقل عن ثلاثة ملايين شخص من ولاية الخرطوم وحدها، لكن أكثر من 34 ألف شخص عادوا إليها منذ أن استعاد الجيش السيطرة عليها خلال الأشهر الماضية، وفقا لأرقام الأمم المتحدة.
وعاد معظمهم ليجدوا منازلهم مدمرة بسبب المعارك، ومن دون أي إمكان للوصول إلى مياه نظيفة أو خدمات أساسية.
وأعلن مسؤولو الصحة في السودان الخميس أن 70 شخصا قضوا خلال يومين جراء تفشي الكوليرا في البلاد.