صحيفة الاتحاد:
2025-07-06@14:10:55 GMT

د. عبدالله الغذامي يكتب: لسان الثقافة

تاريخ النشر: 1st, March 2025 GMT

للثقافة لسانها الخاص وهناك مواقف تكشف عن هذا اللسان المخبوء من تحت ألسنة المتحدثين، نجده في أمثلة للأحاديث والوقائع المرتجلة، ويشبه ما سماه فرويد بسقطات اللسان، ولكنه أكثر من مجرد سقطات، وإنما هو من فعلِ ما سميناه (المؤلف المزدوج)، أي الثقافة حين تتسلّل عبرنا لتشاركنا قولنا وكتاباتنا.
ونستدعي هنا موقفاً جرى في البرلمان البريطاني زمن رئاسة تيريزا مي رئاسة الحكومة (2019)، حيث واجهها أحد نواب المعارضة محيلاً إليها بقوله: هذه المرأة الغبية، مما فجر غضباً ثقافياً هائلاً، امتّد للإعلام بكل وسائله، وهنا يتكشف النسق الثقافي بأعلى درجاته، وأشد معانيه هو وصف المرأة بالغباء، الذي يحيل لتاريخٍ ممتّد عبر الأزمنة والثقافات، من حيث حشر المرأة بصفات الجهل، بينما العقل للرجل، ولها كل صفات السلب كالحماقة، ومنها قولهم إن الرجل كلما كبر، زاد حكمةً، وكلما كبرت المرأة، زادت حماقةً، ولو أن النائب مثلاً قال عن زميلٍ له هذا الرجل الغبي لظلّت الجملة عاديةً، ومجرد شتيمة شخصية، ولن تُحمل على أنها تعني جنس الرجال، على عكس جملة (هذه المرأة الغبية) التي تتجاوز الذاتي لتشمل الجنس، وإن جاءت لغوياً بصيغة الإفراد عبر اسم الإشارة لكن حالات استقبالها كشفت مدى تجذر سياقها الثقافي، أي أننا أمام نسقٍ ثقافي متجذّر، وهي التي فجرت الغضب العارم ضد جملة النائب المتورط ثقافياً.


ومثل ذلك المثل المشهور (قطعت جهيزةُ قول كل خطيبٍ)، وهذه جملة في ظاهرها مجرد جملة إخبارية، وقد يتبدى عليها الثناء بما أن هذه المرأة تفوقت على الفحول من الخطباء، وكسرت بلاغتهم وأسكتتهم، ولكن إذا تتبعنا سيرة هذه الجملة، فسنرى أنها جملة نسقيّة، وعلامة ذلك أن الميداني أورد هذه المثل ليعلق عليه بتعليقين متواليين، أولهما شرحٌ للمقولة وهذا تصرفٌ علمي خالص العلمية، ولكنه يختم حديثة بجملةٍ تكشف البعد النسقي لها، إذ يشير إلى أن هذا المثل يصف حماقة من يقطع أحاديث الرجال، ومن هنا تصبح جهيزةُ حمقاءَ ويسري المعنى ليعزّز هذه التوصيفات للمرأة.
وهنا نكتشف مدى قوة لسان الثقافة، الذي يقوم مقام المؤلف المزدوج، ولم يستطع الميداني تمرير المقولة دون التأويل الثقافي لها كما حدث مع جملة (المرأة الغبية) التي ما كان لها أن تمر دون تأويل ثقافي لها.
وهذه كلها صيغٌ ثقافية تعني أن البشر كائناتٌ سرديةٌ يتصرفون ويفكرون وفق أنظمة ذهنيةٍ قسرية، وهي التي تحرك مشاعرهم اللغوية وردود فعلهم في حروب كلامية عنصرها إقصائي ومكوّنها طبقي، ومهما تعلموا يظلون نسقيين رغم علميتهم ورغم عقلانيتهم، لأنهم تحت سلطة أنساقٍ مضمرةٍ سابقة عليهم، وقد تولدوا فيها ويستمرون معها، وهي فيهم ومن ثم يستمرون في إعادة إنتاجها.
ولسان الثقافة يظل تحت لسان البشر، وللثقافة حيلها في التخفي والإضمار عبر لسانها المخفي، ولكنه يمتلك القدرة على فرض معناه ومن ثم احتلال الأذهان في الإرسال والاستقبال معاً. وما تخفيه اللغه يختلف عما تبديه، وربما هو الأخطر والأكثر تحدياً.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة  الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الوعي والتجييش د. عبدالله الغذامي يكتب: بين النص والقارئ

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

د. أحمد المطارنة يكتب بحق العيسوي

صراحة نيوز- كتب د. أحمد المطارنة

“اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بِهِم، فَارفُقْ به.”
بهذا الدعاء النبوي الشريف تُوزَن القلوب التي تتصدر المشهد، وتُقاس عظمة الرجال لا بما نالوه، بل بما قدّموه.
وفي زمنٍ كثر فيه مَن يتحدثون عن الوطن، وقلّ من يخدمه بصمت، يبرز اسم معالي أبو الحسن، لا كمسؤول فحسب، بل كضمير حيّ يعيش بين الناس، لا فوقهم.

ولو قُدّر للقلوب أن تنطق، لسمعنا قلبه يهمس:
“لم أدخل هذا الطريق طمعًا بسلطة، بل إيمانًا أن الأوطان تُبنى بالأكتاف لا بالخطابات. ما سعيتُ إلى مجد شخصي، بل إلى أثر يبقى في الناس، لا في الكراسي. ما كنتُ يومًا فوق أحد، بل كنتُ دائمًا بينكم، أصغي وأبذل وأتعلم.”

لقد تعلم معاليكم من مدرسة الملك عبدالله الثاني أن الشرف لا يُقاس باللقب، بل بمدى القرب من الناس، وأن القيادة ليست سلطة، بل مسؤولية تبدأ من صدق النية وتنتهي عند وجع المواطن.
كنتم كما عهدكم الناس: لا تُغريكم المظاهر، ولا تُشغلكم الأضواء.
تستمدون نوركم من دعاء أمّ، وابتسامة يتيم، ورضا فقير.
رجل لا يغلق بابًا في وجه صاحب حاجة، ولا يلتفت عن صوتٍ ضعيف يطلب الإنصاف.
لم يطرق مواطنا بابكم إلا وخرج بكرامة، لا بكلمات.

وفي زمنٍ يضجّ بالتكلف ويقلّ فيه الإخلاص، أنتم من القلائل الذين يتركون أثرًا هادئًا من الطمأنينة والعدل.

أنتم يا معالي أبو الحسن، من سلالة الرجال الذين يُطمئن وجودهم القلوب، ويُضيء حضورهم دهاليز الإدارة بالإنسانية.
ما من موقفٍ وُضعتم فيه إلا وخرجتم منه بأكثر من حلّ، وبأكثر من قلب ممتنّ.

يا معالي أبو الحسن، أنتم ممن لا يُعرّفهم المنصب، بل يُعرّف بهم المنصب.
من الرجال الذين إذا مرّوا، تركوا أثرًا لا يُمحى، وذكرًا لا يُنسى، وثقةً تنبت في النفوس.

لكم من القلب دعاء صادق، أن يحفظكم الله، ويزيدكم توفيقًا، ويُبقيكم عنوانًا للعدل، وسندًا لهذا الوطن الذي أحببتموه بصدق، وخدمتموه بضمير، فأحبّكم لأجله الناس.

مقالات مشابهة

  • فرعية مكافحة سرقة السيارات بالمباحث الجنائية بشرطة ولاية الخرطوم تسترد( 4 ) سيارات مسروقة وتسدد جملة من البلاغات باختصاص بحري الكبري
  • د.حماد عبدالله يكتب: الحب "المؤرق" !!
  • مصطفى الشيمي يكتب: ما تبقّى من الحذف
  • السعودية.. جملة لافروف عن نادي الهلال بلقاء الأمير فيصل بن فرحان تثير تفاعلا
  • د. أحمد المطارنة يكتب بحق العيسوي
  • د. عبدالله الغذامي يكتب: نيران الغيرة الشعرية
  • أحمد ياسر يكتب: غزة بين أنقاض الجوع والكرامة
  • د.حماد عبدالله يكتب: مصر التى فى خاطري !!
  • شيكابالا يودع الملاعب: كنت سأسلم الراية لزيزو ولكنه رحل وهى للجمهور
  • وزير الإسكان: افتتاح فرع جملة ماركت بالعلمين الجديدة استعدادا لموسم الصيف الحالي