صحيفة الاتحاد:
2025-05-21@17:53:35 GMT

د. عبدالله الغذامي يكتب: لسان الثقافة

تاريخ النشر: 1st, March 2025 GMT

للثقافة لسانها الخاص وهناك مواقف تكشف عن هذا اللسان المخبوء من تحت ألسنة المتحدثين، نجده في أمثلة للأحاديث والوقائع المرتجلة، ويشبه ما سماه فرويد بسقطات اللسان، ولكنه أكثر من مجرد سقطات، وإنما هو من فعلِ ما سميناه (المؤلف المزدوج)، أي الثقافة حين تتسلّل عبرنا لتشاركنا قولنا وكتاباتنا.
ونستدعي هنا موقفاً جرى في البرلمان البريطاني زمن رئاسة تيريزا مي رئاسة الحكومة (2019)، حيث واجهها أحد نواب المعارضة محيلاً إليها بقوله: هذه المرأة الغبية، مما فجر غضباً ثقافياً هائلاً، امتّد للإعلام بكل وسائله، وهنا يتكشف النسق الثقافي بأعلى درجاته، وأشد معانيه هو وصف المرأة بالغباء، الذي يحيل لتاريخٍ ممتّد عبر الأزمنة والثقافات، من حيث حشر المرأة بصفات الجهل، بينما العقل للرجل، ولها كل صفات السلب كالحماقة، ومنها قولهم إن الرجل كلما كبر، زاد حكمةً، وكلما كبرت المرأة، زادت حماقةً، ولو أن النائب مثلاً قال عن زميلٍ له هذا الرجل الغبي لظلّت الجملة عاديةً، ومجرد شتيمة شخصية، ولن تُحمل على أنها تعني جنس الرجال، على عكس جملة (هذه المرأة الغبية) التي تتجاوز الذاتي لتشمل الجنس، وإن جاءت لغوياً بصيغة الإفراد عبر اسم الإشارة لكن حالات استقبالها كشفت مدى تجذر سياقها الثقافي، أي أننا أمام نسقٍ ثقافي متجذّر، وهي التي فجرت الغضب العارم ضد جملة النائب المتورط ثقافياً.


ومثل ذلك المثل المشهور (قطعت جهيزةُ قول كل خطيبٍ)، وهذه جملة في ظاهرها مجرد جملة إخبارية، وقد يتبدى عليها الثناء بما أن هذه المرأة تفوقت على الفحول من الخطباء، وكسرت بلاغتهم وأسكتتهم، ولكن إذا تتبعنا سيرة هذه الجملة، فسنرى أنها جملة نسقيّة، وعلامة ذلك أن الميداني أورد هذه المثل ليعلق عليه بتعليقين متواليين، أولهما شرحٌ للمقولة وهذا تصرفٌ علمي خالص العلمية، ولكنه يختم حديثة بجملةٍ تكشف البعد النسقي لها، إذ يشير إلى أن هذا المثل يصف حماقة من يقطع أحاديث الرجال، ومن هنا تصبح جهيزةُ حمقاءَ ويسري المعنى ليعزّز هذه التوصيفات للمرأة.
وهنا نكتشف مدى قوة لسان الثقافة، الذي يقوم مقام المؤلف المزدوج، ولم يستطع الميداني تمرير المقولة دون التأويل الثقافي لها كما حدث مع جملة (المرأة الغبية) التي ما كان لها أن تمر دون تأويل ثقافي لها.
وهذه كلها صيغٌ ثقافية تعني أن البشر كائناتٌ سرديةٌ يتصرفون ويفكرون وفق أنظمة ذهنيةٍ قسرية، وهي التي تحرك مشاعرهم اللغوية وردود فعلهم في حروب كلامية عنصرها إقصائي ومكوّنها طبقي، ومهما تعلموا يظلون نسقيين رغم علميتهم ورغم عقلانيتهم، لأنهم تحت سلطة أنساقٍ مضمرةٍ سابقة عليهم، وقد تولدوا فيها ويستمرون معها، وهي فيهم ومن ثم يستمرون في إعادة إنتاجها.
ولسان الثقافة يظل تحت لسان البشر، وللثقافة حيلها في التخفي والإضمار عبر لسانها المخفي، ولكنه يمتلك القدرة على فرض معناه ومن ثم احتلال الأذهان في الإرسال والاستقبال معاً. وما تخفيه اللغه يختلف عما تبديه، وربما هو الأخطر والأكثر تحدياً.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة  الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: الوعي والتجييش د. عبدالله الغذامي يكتب: بين النص والقارئ

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

بلال قنديل يكتب: بين الماضي والحاضر

الإنسان كان وما زال كائناً متغيراً، يتأثر بزمانه ومكانه، وتتبدل اهتماماته وأولوياته مع تغير العصور وتطور المجتمعات.

 فما كان يشغل عقل الإنسان في الماضي، لم يعد بنفس الأهمية اليوم، وما كان يعتبر رفاهية أصبح ضرورة، والعكس صحيح. بين الماضي والحاضر مسافة طويلة، تروي حكاية تطور الإنسان في اهتماماته وطباعه وأساليب حياته.

في الماضي، كانت اهتمامات الإنسان تدور حول البقاء وتوفير الأساسيات من مأكل وملبس ومأوى. كان الجهد ينصب على الزراعة أو الرعي أو الحرف اليدوية. العلاقات الاجتماعية كانت أعمق، والروابط العائلية أقوى، وكان الناس يتشاركون لحظاتهم بقلوب مفتوحة، بعيداً عن التعقيدات التكنولوجية.

أما في الحاضر، فقد تغير المشهد تماماً. أصبح الإنسان أكثر ارتباطاً بالتكنولوجيا، وأصبح الهاتف الذكي جزءاً لا يتجزأ من يومه. اهتماماته اتجهت نحو الاستهلاك، والبحث عن التميز الفردي، واللحاق بركب التحديث المستمر. حتى العلاقات أصبحت في كثير من الأحيان افتراضية، والشعور بالوحدة أصبح شائعاً رغم كثرة وسائل التواصل.

تغيرت أيضاً مفاهيم النجاح والسعادة. في الماضي، كان النجاح مرتبطاً بامتلاك أرض أو بيت أو عائلة مستقرة. اليوم، أصبح النجاح يقاس بعدد المتابعين، أو الإنجازات المادية، أو حتى بمدى الظهور في وسائل الإعلام. تغيرت الأولويات، وتغير الإنسان نفسه، فأصبح أكثر قلقاً وأقل صبراً.

لكن رغم كل هذا التغير، يبقى هناك خيط رفيع يربط بين الماضي والحاضر. الإنسان في جوهره لا يزال يبحث عن الأمان، عن الحب، عن التقدير، وعن معنى لحياته. قد تتغير الوسائل، وقد تختلف الطرق، لكن الجوهر يبقى كما هو.

بين الماضي والحاضر، هناك تطور واضح، لكنه ليس دائماً تطوراً إيجابياً. فربما علينا أن نتأمل في ماضينا لنستعيد بعض القيم التي فقدناها، ونوازن بين ما نكسبه من تقدم وما نخسره من إنسانيتنا.

طباعة شارك تطور الإنسان الزراعة الحرف اليدوية العلاقات الاجتماعية

مقالات مشابهة

  • موفق محمد .. لسان حال الناس
  • ناشط من مصراتة: نرفض مقترحات اللجنة الاستشارية جملة وتفصيلاً
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (مغالطات….)
  • د.حماد عبدالله يكتب: سوء الظن من سوء السبيل !!
  • بلال قنديل يكتب: بين الماضي والحاضر
  • د.حماد عبدالله يكتب: "مطلوب" مراكز للتميز !!
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب.. الوجدان الراقي
  • د. محمد بشاري يكتب: من الجُرأة على التخيّل إلى صناعة المستقبل
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: حديد وأسياخ السودان القادم…
  • د.حماد عبدالله يكتب: العمل العام "والمصالح" !!