تطرح مسألة زيارة وفد من طائفة الموحدين الدروز في سوريا، إلى إسرائيل، بشعار ديني كما أشيع، لزيارة مقام النبي شعيب، مسألة بالغة الخطورة والدقة، في توقيت ليس عابرا من تاريخ الشعب السوري والمنطقة، بل الزيارة إحدى المحطات الرئيسة التي تصنع التحولات الكبرى كما يراها منظرو العلاقة مع الاحتلال والتطبيع معه أو الاستقواء به، غير أنها في الحالة السورية الوليدة تشير إلى الجرأة في طلب العلاقة والحماية مع ومن المحتل.
ليست مجرد زيارة "دينية"، بل هي امتداد لمحاولة نسج علاقة الاستقواء على الدولة وبقية المجتمع السوري ومكوناته بالاحتلال، أو بطلب الحماية الدولية والتماهي مع مطالب خارجية بالتجييش الطائفي. والخلاص من مخاطر داخلية تحاصر الطوائف السورية المختلفة على حد زعم مطلقي بيانات وشعارات ومواقف تبرير العلاقة مع محتل على الأرض (الأمريكي والإسرائيلي والروسي والتركي) وتوجيه سهام التناقض الرئيسي مع السلطة الداخلية من أجل التخلي عن مهام وطنية صرفة، بعد زمن انكسار الاستبداد السوري، لذلك يؤشر الخطاب الطائفي المقيت في سوريا لخللٍ كبير، وهو يتخذ من "الطائفة" مرجعا لمشروع "وطنيته" والمزايدة بها، وأن ما ينطوي عليه هذا الخطاب باغترابه السافر عن الواقع بذيلية مفضوحة كان أحد الأسباب المدمرة لنظام الاستبداد الأسدي أو لأي نظام طائفي مافيوي.
هذه الشريحة، إذ تعلن عن ذاتها في السياسة بعد سقوط نظام الأسد، تعلنها من باب التمترس الطائفي لا الوطني الجامع، وتصريحات بعض نماذج الطائفية السورية، متقنة بزراعة ألغامها الفردية في محيط لغم كبير، تشير للمأزق السوري الذي يتطلب أكثر من مجرد نفحة انعاش في إعلان دستوري أو تفلت طائفي، فهو بحاجة لبعث جديد ينهض بسوريا من حطام الأسدية
منذ البدء، علينا أن نعرف الموقع الطبقي والسياسي لهؤلاء الذين قيل عنهم قيادات للطوائف الدينية، أو التشكيلات العسكرية والسياسية، حتى يتسنى لنا قراءة أفكارهم بالدقة اللازمة في الزمن السوري المليء بمنظري الردة والطائفية والانحسار، مستغلين حالة انهيار نظام الاستبداد الأسدي. ففي سوريا تخلفت السياسة عن فعلها الحي واليومي منذ عقود طويلة، وتراجعت مع تخلفها مفاعيل الوطنية كبرامج ومهام كانت محصورة فقط بيد السلطة القائمة، وبسبب هذه العناصر وغيرها، تقدمت قوى وشرائح ذات سمة طائفية إلى الواجهة، وكانت مرتبطة بالسلطة وبمصالحها المشتركة معه، وتدلي بدلوها الذي يُظهر تطابقا معها كحلٍ جعل منها أداة ملتبسة في مكونات السياسة والمجتمع السوري. وهذه الشريحة، إذ تعلن عن ذاتها في السياسة بعد سقوط نظام الأسد، تعلنها من باب التمترس الطائفي لا الوطني الجامع، وتصريحات بعض نماذج الطائفية السورية، متقنة بزراعة ألغامها الفردية في محيط لغم كبير، تشير للمأزق السوري الذي يتطلب أكثر من مجرد نفحة انعاش في إعلان دستوري أو تفلت طائفي، فهو بحاجة لبعث جديد ينهض بسوريا من حطام الأسدية، فلماذا إذا محاولة تطويق عقول السوريين بوضع الحلول الطائفية كناظم للإنعاش الكامل؟
في تبرير خطوة الزيارة السورية الطائفية لدولة الاحتلال، محاولة فاشلة من أصحابها للتردي والهبوط بالمستوى الوطني، والخروج عنه والتحدث باسمه طائفيا، لا وطنيا، وبشكل دعائي رخيص يثبت ترابطه مع خطاب الاحتلال والغرب المدعي نيته وحرصه على حماية أقلية طائفية من السلطة الجديدة. وبعيدا عن التبريرات وقريبا من مراجعة مواقف مماثلة للاحتلال والغرب، هذه المسألة لها هدف واضح يمكن تكثيفه بكلمتين، استخلاص العبر، وهذا لا يدفع للتفكير بالماضي بل في المستقبل أساسا لأن من لا يتعلم من التاريخ محكوم عليه أن يعيده. وجوهر الأمر يكمن في اتضاح هذه الدعوات المحصورة في الجوانب الطائفية التي تعكس رغبة وإرادة فئة قليلة لا تستجيب لواقع موضوعي قائم على مقولة أن جدل الواقع يولد جدل الأفكار المتصل في بناء دولة المواطنة والحريات والقانون والدستور كمنطلق لحملة تنوير شاملة، تطال كل شيء في سوريا، وتساهم في بناء كل شيء على هذه الأسس، ولا يدعي فيها أحد أنه يمتلك كل الحقيقة وكل القرار بعيدا عن حفلات الردح والتجريح والتخوين الطائفي التي رافقت أحداث الساحل السوري في الأيام الماضية.
الحوارات والنقاشات التي تكرر معها مفردات طائفية، لتحليل الأحداث السورية في الساحل والسويداء، هي مفرز غير طبيعي للمرحلة التي تلت سقوط الأسد، وتأزم المرحلة الحالية ورفضها شعبيا جاء من أكثر من جهة تمثل تلك الطوائف التي يجري باسمها الحديث والصدام، ولإعادة التأكيد على أن المشروع الوطني في سوريا بوجهه الاجتماعي مرتبط برفض الاحتلال ووجوده؛ ليس فوق الأرض السورية بل في فلسطين، وبرفض كل أشكال الاستبداد. والسوريون بلغوا سن الرشد بالخلاص من الطاغية الأسدي، ولعبة الضرب على وتر الطائفية كانت حاضرة زمن الأسد. التحديات تحدد شكل المواجهة، وتحصرها في شكل وميدان معين له علاقة بالمواطنة وتعزيز الحريات والقانون والدستور وحماية كرامة السوري كمواطن فوق أرضه، وأن تكون رافعته الأساسية دولة المواطنة والحقوق، لأن المأزق السوري التاريخي وطني بامتياز وليس طائفيا، وأبعاد هذا المأزق كانت ماثلة في سعي الشعب السوري لبلورة هوية وطنية وقومية ذات أفق حضاري يستند لعمق تاريخيوفي سنوات الثورة التي يحيي السوريين ذكراها اليوم بتذكر الثمن الغالي لها والأخطاء والخطايا التي انتهت بعد صولات وجولات إلى ما هو عليه الواقع السوري، وما هو متبلور وما هو قيد التبلور، لتثبيت اللعبة الطائفية الذي يحاول الاحتلال تحقيق المكاسب من ورائها لضرب عملية التنافس على لملمة التركة الثقيلة للنظام الأسدي.
ولإظهار ماهية المرحلة السورية المقبلة، وطبيعة مهامها بلوحة طائفية أشد تعقيدا وتداخلا يجري التركيز عليها، حتى يتسنى للمحتل السيطرة والسيادة على المنطقة، فإذا كان تناقض السوريين البديهي مع الاستبداد والطغيان والقهر، فإن تناقضه الرئيسي أيضا بعد الخلاص من الاستبداد سيكون مع المحتل وسلوكه وعدوانه على الأرض وفي المنطقة. وهنا يتوجب التشدد والحذر في محاولات الاحتلال والقوى الغربية المهيمنة، التي ستضع العراقيل على رأس جدول أعمالها للحيولة من تمكن السوريين من اجتياز هذه المرحلة الانتقالية بالسعي المستمر لتفجير الأوضاع الداخلية وإدمائها بحرب داخلية وطائفية، لذلك فإن البقاء على بر الأمان يقتضي طرح منظور عام، يكون مفتوحا، للتعاطي مع الأحداث ويوفر المرونة اللازمة للتكيف مع مستجدات الواقع وتعقيداته، والإلمام الدقيق والعميق بالتحديات التي منها دحر بقايا النظام الأسدي.
إن مثل هذه التحديات تحدد شكل المواجهة، وتحصرها في شكل وميدان معين له علاقة بالمواطنة وتعزيز الحريات والقانون والدستور وحماية كرامة السوري كمواطن فوق أرضه، وأن تكون رافعته الأساسية دولة المواطنة والحقوق، لأن المأزق السوري التاريخي وطني بامتياز وليس طائفيا، وأبعاد هذا المأزق كانت ماثلة في سعي الشعب السوري لبلورة هوية وطنية وقومية ذات أفق حضاري يستند لعمق تاريخي بعيدا عن التشويه والتزوير الذي يحرص المحتل كما الاستبداد في على توفير مقومات وأسس، تجعل من المحتل متميزا ومتفوقا في محيط متخلف في طوائفه وعشائره. وقد مارس هذا التزوير لسبعين عاما في فلسطين، وجربه في لبنان والآن يحاول في سوريا، غير أن حقائق الحياة والواقع تقول إن الشعب السوري كما أي شعب متحرر من الاستبداد والاحتلال، يمتلك الوعي الذي يؤهله من صياغة مستقبله بما يليق بتضحياته.
x.com/nizar_sahli
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الدروز سوريا إسرائيل الطائفي وطنية سوريا إسرائيل طائفي دروز وطني مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعب السوری نظام الأسد فی سوریا
إقرأ أيضاً:
الخشت يكشف كيف حرفت الجماعات المتشددة مفاهيم الحاكمية لتبرير الاستبداد
شهدت الندوة العلمية التي حاضر فيها الدكتور محمد عثمان الخشت عضو المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية ورئيس جامعة القاهرة السابق، طرحًا فكريًا معمقًا حول ضرورة تجديد الخطاب الديني في قضايا المواطنة والنظم السياسية، عبر إعادة بناء العلاقة بين المقدس والبشري، وتفكيك المفاهيم التراثية التي صيغت في عصر الإمبراطوريات وفي سياقات تاريخية مغايرة للواقع السياسي المعاصر.
وجاءت الندوة في إطار الملتقى الفلسفي المشترك بعنوان «المواطنة والآخر وفلسفة الوجود الإنساني»، والذي نظمته جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بالتعاون مع بيت الفلسفة بالفجيرة، بإشراف الدكتور خليفة الظاهري مدير الجامعة، والدكتور أحمد برقاوي عميد بيت الفلسفة، حيث كانت الندوة بمثابة مواجهة فكرية هادئة وحاسمة لخطاب الإسلاموية السياسية الذي ظل لعقود يوظف الدين لاختطاف السلطة ويخلط بين الوحي الإلهي والمشروعات الأيديولوجية للجماعات الدينية.
خطورة الخلط بين الدين والسياسةوأكد الخشت أن أحد أكبر معوقات التطور السياسي في المجتمعات الإسلامية يتمثل في الخلط بين الدين – بوصفه وحيًا مقدسًا ثابتًا – وبين النظم السياسية التي هي في حقيقتها اجتهادات بشرية متغيرة، مما سمح بظهور نماذج ثيوقراطية ادعت قداسة سياسية لا أصل لها في الدين.
وشدد الخشت على أن هذا الخلط استثمرته الجماعات الإسلاموية السياسية لترويج نموذج حكم ديني زائف، يقوم على ادعاء احتكار التفسير الشرعي، ويفتح الطريق لاستبداد مغطّى بعباءة الدين. ودعا إلى إعادة قراءة أحكام التراث السياسي في ضوء الدولة الوطنية الحديثة التي تستند إلى الدستور والقانون، وليس إلى نماذج الحكم الإمبراطورية القديمة التي تستدعيها التيارات المتطرفة لتبرير أفكارها.
ونوه الخشب بأن تجديد الخطاب الديني في ملف المواطنة يمر عبر ثلاثة مسارات رئيسية: مسار منهجي لإعادة ضبط أدوات فهم النص والتراث، ومسار مفاهيمي لإعادة تعريف مصطلحات مثل “الرعية” و“الحاكمية” و“أهل الذمة”، ومسار عملي لإنتاج خطاب ديني معاصر يعترف بالمواطنة الكاملة لجميع أبناء الوطن على أساس المساواة والكرامة الإنسانية. وأوضح أن هذه المفاهيم التي تتشبث بها الحركات الإسلاموية غالبًا ما تُستحضر خارج سياقها التاريخي، وتُستخدم لفرض رؤية سياسية لا علاقة لها بجوهر الشريعة ومقاصدها.
وأوضح الدكتور محمد الخشت، أن شكل نظام الحكم وطبيعة المؤسسات السياسية يدخلان في نطاق الاجتهاد البشري المتغير الذي لم يلزمه الدين بنموذج محدد، مشيرًا إلى أهمية إعادة قراءة مفاهيم مثل الحاكمية والطاعة والرعية في إطار مقاصد الشريعة ومبادئ المواطنة المتساوية. واعتبر أن فهم الحاكمية بوصفها حكم القانون العادل والمؤسسات الدستورية يفند مزاعم الجماعات المتشددة التي ربطت الحاكمية بسلطة أفراد أو أحزاب تزعم التحدث باسم الدين.
وأكد الدكتور الخشت، أن تجديد الخطاب الديني في هذا المجال يتطلب نقل المواطن من موقع "الرعية" إلى موقع "الشريك في الوطن"، وإعادة تفعيل القيم الشرعية الكبرى مثل العدل والحرية والكرامة الإنسانية، باعتبارها المرجعية الحاكمة لتقويم النظم السياسية وإدارة الشأن العام، مشيرًا إلى أن التخويف المستمر من الحرية والمواطنة، كما تفعل بعض التيارات المتشددة، يناقض روح الشريعة التي جعلت كرامة الإنسان أساسًا للتشريع.
وفي هذا السياق، قدم الدكتور الخشت تأسيسًا فقهيًا يقوم على التمييز بين تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم: مبلِّغًا عن الله، وإمامًا وسياسيًا، وقاضيًا. وهذا التمييز -وفق الخشت- يسمح بفصل ما هو تشريعي ثابت عما هو تدبيري مصلحي قابل للاجتهاد، بما يفسح المجال لقبول النظم السياسية الحديثة، مثل الدستور والفصل بين السلطات والدولة المدنية. وهو ما يضرب في الصميم محاولات الإسلاموية السياسية تحويل التجربة النبوية إلى نموذج سلطاني جامد يخدم أيديولوجياتها.
وأشار الدكتور الخشت، إلى أن تحويل المواطنة من مفهوم سياسي إلى مفهوم شرعي إيجابي يتطلب ربط الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية بالمقاصد الكلية للشريعة، مثل حفظ النفس والعقل والكرامة، معتبرًا أن الديمقراطية الدستورية وآليات المشاركة السياسية يمكن تأصيلها شرعًا باعتبارها وسائل لتحقيق العدل والمصالح المرسلة واختيار الأصلح ومقاومة الفساد. ولفت إلى أن رفض الإسلامويين لهذه الآليات يكشف تعارض مشروعهم مع مقاصد الشريعة ذاتها.
كما أبرز الدكتور محمد الخشت، الدور التأسيسي لصحيفة المدينة بوصفها أقدم نموذج لعقد اجتماعي يساوي بين مكونات المجتمع بغض النظر عن الدين، ويقر مبدأ التعددية وحرية المعتقد والدفاع المشترك، مؤكدًا أن استلهام هذه الوثيقة يساعد في تجاوز المفاهيم التقليدية مثل "أهل الذمة" و"الجزية" لصالح نموذج المواطنة الحديثة القائم على المساواة أمام القانون، وهو ما يتعارض مع الخطابات الإقصائية التي تبني عليها الجماعات الإسلاموية تصوراتها للهوية.
واختتم الدكتور محمد الخشت، رؤيته بالتأكيد على الحاجة إلى خطاب ديني جديد يخاطب الإنسان باعتباره شريكًا في الوطن لا مجرد رعية، ويرسخ قيم الكرامة والعدل والمساواة، ويعترف بالدولة الوطنية الدستورية إطارًا مشروعًا لتحقيق مقاصد الشريعة، وبما يتيح التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع. مؤكدًا أن هذا المسار هو الطريق الأنجع لمواجهة سرديات الجماعات المتطرفة، ولإعادة الدين إلى مجاله الطبيعي: محركًا للقيم الإنسانية لا أداة للهيمنة السياسية.
جدير بالذكر أن مشروع الدكتور محمد عثمان الخشت، يكتسب كثيرًا من الأهمية في العالم العربي، حيث أن لديه مشروع فكري متكامل يعمل عليه منذ أربعين عامًا، وألف عشرات الكتب التي يهدف من خلالها إلى تأسيس خطاب ديني جديد وتأسيس رؤية عقلانية مستنيرة للدين، بعيدًا عن الجمود والتقليد الأعمى، وقد أسهم من خلال مؤلفاته ومشاركاته الفكرية في إثراء الحوار الثقافي والديني، وتقديم حلول للتحديات الفكرية التي تواجه المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحديث، كما عرف عنه دعوته المستمرة إلى الدولة الوطنية، والتفكير النقدي، والتدبر في النصوص الدينية، والجمع بين الأصالة والمعاصرة في فهم قضايا الدين والفلسفة.