تعد الصناعات الحِرفية أحد أركان الصناعات الإبداعية التي برزت خلال التطورات التقنية والإبداعية الحديثة، وقدَّمت دورا مهما في التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ فهذه الصناعات ترتبط بالمجتمع وحياة مواطنيه، كونها جزءًا من الممارسات اليومية التي تفتح مجالات الإبداع والابتكار والتعبير عن التراث الثقافي وتربط بينه وبين القطاعات التنموية الأخرى، لما لها من دور في فتح فرص عمل إبداعية، وتعزِّيز الإنتاج المحلي، وزيادة التبادل التجاري والسياحي وغيرها.
لذلك فإن المؤسسات الحرفية تفتح مجالًا واسعًا للتطوُّر التكنولوجي لاعتمادها على الإبداع والابتكار في صناعاتها، وقدرتها على التطوير والاستثمار التنموي في الموارد الثقافية المتنوِّعة، إضافة إلى أهميتها في تلبية حاجة الأسواق المحلية والإقليمية من المنتجات ذات القيمة المضافة، والتي تتخذ أنماطا جديدة من الإنتاج اعتمادا على التطوُّرات التقنية وآفاق الابتكار، وسعة التنوُّع الثقافي وتعدده، وإمكانات إعادة إنتاجه وتوظيفه في المجالات الاقتصادية والسياحية.
إن الصناعات الحرفية اليوم تكشف المكانة الحضارية للدولة، ووعي المجتمع بتلك المكانة من خلال إحياء تراثها الثقافي، ومساهمتها في تحقيق العدالة التنموية والتوازن الجغرافي في الدولة، لما تتميَّز به من مرونة في الانتقال بين محافظة أو منطقة وأخرى، وقدرتها على (التوطُّن الصناعي)؛ الذي يقلِّل تكاليف النقل والعمل والإنتاج الحرفي والإبداعي، وإمكانات دعم المواهب والمبدعين العاملين في هذا المجال، من خلال التدريب والتأهيل والتمكين الصناعي.
فلقد تمكَّن قطاع المؤسسات الحِرفية من خلال المدخلات (المبدعين، ورأس المال، والأجهزة، والمهارات، والخبرات، والإبداع والتسويق)، من تشكيل صورة ذهنية عن المنتج الحرفي المحلي، الذي نجده اليوم يقدِّم أفضل المنتجات وأجودها قيمة وفنًا وجمالية، بناء على المعطيات الاجتماعية والاقتصادية، التي تتميَّز بها المنتجات المحلية، ولهذا فإن تلك المدخلات تحتاج على الدوام إلى تعزيز ودعم قادر على تمكينها ليس من أجل صمودها في السوق وحسب بل لكي تتطوَّر وفق أفضل الأنظمة والمعايير.
إن هذا القطاع يمثِّل قوة اقتصادية داعمة للاقتصاد الوطني، لما يقدِّمه من دعم لتنمية دخل الأفراد، وزيادة الصناعات الإبداعية، ولهذا فإن العمل على رفع مستوى قدرات المبدعين والعاملين في هذا القطاع ضرورة ملِّحة كي لا تكون المؤسسات الحِرفية صورة مكرورة من الإنتاجات التقليدية التي لا ترتقي إلى مستوى الإبداع بل تستقر في مستوى الصور النمطية المنتجة في التراث الثقافي المتوارث دون الالتفات إلى التنوُّع الثقافي والفرص الاستثمارية التي يوفِّرها.
ولأن القطاع الحِرفي ركن أساسي في الاقتصاد المعرفي، والعمل الحر، فإن ريادة الأعمال في هذا القطاع تُعَّد من السمات الأساسية في الاقتصاد على المستوى العالمي؛ إذ أصبحت هناك مشروعات رائدة في المجال لما تُسهم به في فتح فرص عمل جديدة متسمة بالابتكار والاستدامة، ومواكبة التطلعات المستقبلية القائمة على الجودة والقدرة على المنافسة محليًا وإقليميًا، بُغية تحقيق الأهداف المؤسسية والوطنية.
ولقد اعتنت عُمان بالحرف التقليدية عناية فائقة منذ القدم، لما مثَّلته من مكانة اقتصادية واجتماعية؛ فالمجتمع بكافة أطيافه شارك في دعم الحرف والمهن التقليدية، من خلال العمل الجماعي من ناحية، ثم تأسيس المؤسسات الحِرفية التي أسهمت في بناء الوعي المجتمعي بتلك الحِرف، وتمكين الأجيال من الاستفادة منها عبر حقب تاريخية كثيرة، إضافة إلى تلك العناية الخاصة التي حظيت بها المؤسسات العاملة في القطاع الحِرفي، والسعي إلى توسعة آفاقها وحفظ حقوقها وتمكين مكانتها الاقتصادية والاجتماعية من خلال التشريعات والسياسات المنظمة لعملها والميسِّرة لها.
تمثِّل الصناعات الحِرفية العمانية أصلًا من أصول الصناعات المرتبطة بالتنمية والاستثمار من ناحية، وبالمجتمع وحالات تشكلاته وتطوره عبر الحقب التاريخية من ناحية أخرى، ولهذا فإن نجاح هذا القطاع لا يعتمد فقط على قدرته الإنتاجية، بل على جهود تطوير أداء المبدعين والعاملين فيه، بوصفهم أساسًا للإبداع والابتكار، وتحقيق الأهداف، ومواجهة المتغيرات المتزايدة التي قد تشكِّل تحديًا أمام استدامتها، والأمر هنا لا يتعلَّق برؤوس الأموال وكيفية إدارتها منظومتها الإدارية وتطويرها فقط، بل أيضا بالاهتمام بالمبدعين وتأهيلهم.
لذا فإن الدولة اهتمت بتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المتخصصة في المجالات الحِرفية، واعتنت في ذلك بالكوادر البشرية المؤهَّلة القادرة على ريادة الأعمال، فعملت على تدريبهم وتأهيلهم من خلال مجموعة من البرامج والمبادرات الفنية والاستشارية والتمويلية، التي تُسهم في تمكين هذه المؤسسات ومبدعيها تحت شعار الهُوية البصرية الخاصة بالمنتج الحِرفي العماني (حِرف عُمان)، بُغية تسويقها محليًا وإقليميًا بل وحتى عالميًا، وضمان جودتها وقدرتها على المنافسة في هذه الأسواق.
ولقد مثَّلت العديد من المواقع التراثية منافذ لبيع وتسويق المنتجات الخاصة بتلك المؤسسات، كما أسَّست بعضها منافذ خاصة بها سواء أكانت مفردة أو مشتركة، إضافة إلى تدشين عدد من المنافذ التي تعرض تلك المنتجات وتسوِّقها في المحافظات، بُغية دعمها وتمكينها وتعزيز استدامتها، وقد تم إطلاق منصة (البيت الحرفي العُماني) قبل أيام قليلة، التي تُعنى بـ(عرض وتسويق وبيع منتجات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والحرفيين ... بحيث يمكنهم عرض منتجاتهم والترويج لها عبر هذا المنفذ، كما تتيح إمكانية الشراء المباشر من المنصة).
إن إطلاق هذه المنصة توفِّر فرصًا لأعمال المؤسسات من أجل تسويقها وفق مقتضيات حديثة قادرة على توسعة آفاق التعريف بمنتجاتها وتكوين صور ذهنية جديدة عن المنتج المحلي الحِرفي، كما أن اشتراط (عرض المنتجات ذات الجودة العالية والتغليف المميَّز)، يدفع هذه المؤسسات إلى المنافسة في إثبات القدرة على التطوير والابتكار وتقديم الأفضل، فالجودة هي المعيار الأساسي الذي يغيِّر الصور الذهنية النمطية عن المنتج المحلي الحِرفي ويخرجه من بوتقة التكرار والتقليد القائم على المسارات السوقية التي لا تعتمد الابتكار بقدر ما تعتمد على بُعد الشراء العام، ما تسبَّب في التركيز على بعض المجالات بل حتى المنتجات المتشابهة المتكررة، الأمر الذي جعل الإبداع والابتكار في تراجع لدى بعض تلك المؤسسات.
فالجودة والقدرة على المنافسة هما الأساس الذي يجب أن يتوفَّر لدى المؤسسات الحِرفية، بوصفها قطاعًا واعدًا له أهميته وقيمته الاقتصادية والاجتماعية، وله قدرته على توفير فرص عمل إبداعية ليس للحرفيين والمبدعين وحدهم بل أيضًا للكثير من الوظائف المساندة، التي تدعم هذا القطاع وتفتح له آفاق الإبداع؛ فالتقنية والابتكار تحتاج إلى الخبراء والمصممين والفنيين الذين يتولُّون مع المبدعين مهام تقديم منتجات قادرة على الصمود في الأسواق والمنافسة على المستوى الإقليمي والعالمي.
إن الاهتمام بالصناعات الحِرفية ومؤسساتها، يرتكز على تلك المنافذ التسويقية من ناحية، وضبط جودتها الإنتاجية، وقدرتها على التطوير من نفسها من ناحية أخرى، ولهذا فإن تقديم الفرص الاستثمارية في التراث الثقافي عمومًا وما يمكن لتلك الصناعات أن تتبناه، يمكِّنها من تقديم منتجات محلية رائدة ومتفرِّدة، لا تعتمد على ما هو متوفِّر في السوق بل على ما يحتاجه السوق من منتجات جديدة تتكامل مع ذلك المتوفِّر وتمنح فرصًا لتوسعة السوق المحلي ومجالات رائدة للأعمال الحرة.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وقدرتها على هذا القطاع من ناحیة من خلال رفیة ا التی ت
إقرأ أيضاً:
إشادة أممية بتسارع جهود توطين الصناعة في سلطنة عُمان
العُمانية: حازت سلطنة عُمان على إشادة دولية واسعة بعد أن حققت تقدمًا متسارعًا في توطين الصناعات النوعية ذات التقنيات المتقدمة، وتطوير قدراتها الإنتاجية، وذلك وفق تقرير منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) لعام 2026، والذي صنّف سلطنة عُمان ضمن الدول الصاعدة عالميًا في القطاع الصناعي.
وأكد التقرير أن سلطنة عُمان حققت قفزة ملحوظة في بناء سلاسل القيمة الصناعية المرتبطة بالصناعات ذات التقنيات المتقدمة، رغم حداثة دخولها هذا المجال؛ حيث تمكنت من تأسيس قاعدة صناعية واعدة في الصناعات المرتبطة بالخلايا الكهروضوئية، مستفيدة من استقطاب استثمارات نوعية، وتطبيق سياسات شراء حكومية محفزة، وتوفير بيئة أعمال جاذبة للتقنيات الحديثة.
وسلّط التقرير الضوء على مجموعة من المشروعات الصناعية قيد التدشين، أبرزها مشروع "يونايتد سولار بولي سيليكون" في المنطقة الحرة بصحار، والذي يعد من بين أهم المشروعات الصناعية على مستوى المنطقة، مستهدفًا إنتاج 100 ألف طن سنويًا من مادة البولي سيليكون لتلبية الطلب الإقليمي المتنامي على حلول الطاقة الشمسية وتعزيز موقع سلطنة عُمان في سلاسل التوريد العالمية.
مواد الخام
كما أبرز التقرير المقومات التي تمتلكها سلطنة عُمان، مثل توافر المواد الخام كرمال السيليكا عالية الجودة، وقوة سطوع الشمس وحركة الرياح طوال العام، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي على أحد أهم الممرات البحرية الدولية، كما توفر الحكومة مجموعة من الحوافز الاستثمارية أبرزها الإعفاءات الضريبية والملكية الأجنبية 100 بالمائة، مما يجعل سلطنة عُمان بيئة تنافسية لتوطين الصناعات المتقدمة.
وأطلقت شركة "شيدا" أعمال بناء أول مصنع للألواح الشمسية على مساحة 11 ألفًا و250 مترًا مربعًا، إلى جانب توقيع اتفاقية مع شركة "جيه إيه سولار" الصينية لإقامة مصنع بقدرة 6 جيجاواط للخلايا و3 جيجاواط للألواح، باستثمار يبلغ 564 مليون دولار أمريكي، موجهة بشكل رئيس إلى الأسواق الخليجية والإفريقية.
كما أعلنت عن مشروع "شركة موارد للتوربينات" في الدقم، الذي يهدف إلى تصنيع توربينات الرياح باستثمارات تقدر بـ181.8 مليون دولار أمريكي.
وفي مجال تصنيع تقنيات الهيدروجين الأخضر، تستعد سلطنة عُمان لإنشاء مصنع لتجميع الإلكترولايزر بالتعاون مع "صن غرو" الصينية؛ ما يعزز موقعها ضمن خريطة التصنيع ذات التقنيات العالية في الدول العربية.
وأشار المهندس خالد بن سليم القصابي مدير عام الصناعة بوزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، إلى أن هذا التقدم جاء نتاج تبنّي سياسات صناعية محفّزة، ومبادرات ممنهجة تستهدف استقطاب الصناعات النوعية ذات التقنيات المتقدمة، وأوضح أن وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار عملت على تسهيل الإجراءات أمام المستثمرين، ورفع جاهزية المناطق الحرة والاقتصادية لاستقطاب الصناعات المتقدمة، وتمكين القطاع الصناعي عبر حزمة واسعة من الحوافز، شملت تطوير إطار تنظيمي مرن، وتقديم حوافز ضريبية وإعفاءات جمركية، وتبسيط إجراءات الترخيص، إلى جانب توجيه الاستثمارات نحو المناطق الاقتصادية ذات البنية الأساسية المتكاملة والقادرة على ضم المشروعات الصناعية المتقدمة، بما يسهم في تعزيز القيمة المضافة المحلية وربط المستثمرين العالميين بالفرص الصناعية الواعدة.
الصناعة المتخصصة
من جانبه، أوضح المهندس جاسم بن سيف الجديدي المدير الفني لمكتب وكيل وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، أن المشروعات الصناعية المتخصصة في تصنيع تقنيات ومعدات الخلايا والألواح الشمسية بدأت تتبلور ضمن مجمعات صناعية متكاملة، لا سيما في المنطقة الحرة بصحار؛ حيث تتجاور مصانع البولي سيليكون مع مصانع الخلايا والألواح الشمسية، إلى جانب مشروعات مساندة تُكمل سلسلة القيمة وتؤسس لمنظومة تصنيع إقليمية متكاملة.
وأشار إلى أن وتيرة تدفق الاستثمارات العالمية في هذا القطاع آخذة في التسارع، وأن الشركات الدولية باتت ترى في سلطنة عُمان مركزًا مثاليًا لتأسيس صناعاتها، مستفيدة من الدعم الحكومي المباشر، والحوافز الممنوحة للمستثمرين، وتوفير مواقع صناعية ذات جاهزية عالية.
وأضاف: إن الوزارة تعمل بالتوازي على إطلاق وتنفيذ مبادرات تستهدف تطوير الموردين المحليين، لتمكينهم من أن يكونوا جزءًا رئيسًا في سلاسل التوريد، بما يعزز المحتوى المحلي ويُسهم في تطوير منتجات وطنية قادرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والدولية.
وأكد المهندس جاسم الجديدي أن المنجزات الصناعية المتوالية في سلطنة عُمان تُعيد رسم مشهد التصنيع المتقدم، وترسّخ مكانة البلاد كأحد المراكز الإقليمية الواعدة، في تحول جوهري ينسجم مع توجهات وأهداف الاستراتيجية الصناعية 2040 و"رؤية عُمان 2040".