لجريدة عمان:
2025-07-31@03:37:06 GMT

الصناعات الحِرفية العُمانية

تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT

تعد الصناعات الحِرفية أحد أركان الصناعات الإبداعية التي برزت خلال التطورات التقنية والإبداعية الحديثة، وقدَّمت دورا مهما في التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ فهذه الصناعات ترتبط بالمجتمع وحياة مواطنيه، كونها جزءًا من الممارسات اليومية التي تفتح مجالات الإبداع والابتكار والتعبير عن التراث الثقافي وتربط بينه وبين القطاعات التنموية الأخرى، لما لها من دور في فتح فرص عمل إبداعية، وتعزِّيز الإنتاج المحلي، وزيادة التبادل التجاري والسياحي وغيرها.

لذلك فإن المؤسسات الحرفية تفتح مجالًا واسعًا للتطوُّر التكنولوجي لاعتمادها على الإبداع والابتكار في صناعاتها، وقدرتها على التطوير والاستثمار التنموي في الموارد الثقافية المتنوِّعة، إضافة إلى أهميتها في تلبية حاجة الأسواق المحلية والإقليمية من المنتجات ذات القيمة المضافة، والتي تتخذ أنماطا جديدة من الإنتاج اعتمادا على التطوُّرات التقنية وآفاق الابتكار، وسعة التنوُّع الثقافي وتعدده، وإمكانات إعادة إنتاجه وتوظيفه في المجالات الاقتصادية والسياحية.

إن الصناعات الحرفية اليوم تكشف المكانة الحضارية للدولة، ووعي المجتمع بتلك المكانة من خلال إحياء تراثها الثقافي، ومساهمتها في تحقيق العدالة التنموية والتوازن الجغرافي في الدولة، لما تتميَّز به من مرونة في الانتقال بين محافظة أو منطقة وأخرى، وقدرتها على (التوطُّن الصناعي)؛ الذي يقلِّل تكاليف النقل والعمل والإنتاج الحرفي والإبداعي، وإمكانات دعم المواهب والمبدعين العاملين في هذا المجال، من خلال التدريب والتأهيل والتمكين الصناعي.

فلقد تمكَّن قطاع المؤسسات الحِرفية من خلال المدخلات (المبدعين، ورأس المال، والأجهزة، والمهارات، والخبرات، والإبداع والتسويق)، من تشكيل صورة ذهنية عن المنتج الحرفي المحلي، الذي نجده اليوم يقدِّم أفضل المنتجات وأجودها قيمة وفنًا وجمالية، بناء على المعطيات الاجتماعية والاقتصادية، التي تتميَّز بها المنتجات المحلية، ولهذا فإن تلك المدخلات تحتاج على الدوام إلى تعزيز ودعم قادر على تمكينها ليس من أجل صمودها في السوق وحسب بل لكي تتطوَّر وفق أفضل الأنظمة والمعايير.

إن هذا القطاع يمثِّل قوة اقتصادية داعمة للاقتصاد الوطني، لما يقدِّمه من دعم لتنمية دخل الأفراد، وزيادة الصناعات الإبداعية، ولهذا فإن العمل على رفع مستوى قدرات المبدعين والعاملين في هذا القطاع ضرورة ملِّحة كي لا تكون المؤسسات الحِرفية صورة مكرورة من الإنتاجات التقليدية التي لا ترتقي إلى مستوى الإبداع بل تستقر في مستوى الصور النمطية المنتجة في التراث الثقافي المتوارث دون الالتفات إلى التنوُّع الثقافي والفرص الاستثمارية التي يوفِّرها.

ولأن القطاع الحِرفي ركن أساسي في الاقتصاد المعرفي، والعمل الحر، فإن ريادة الأعمال في هذا القطاع تُعَّد من السمات الأساسية في الاقتصاد على المستوى العالمي؛ إذ أصبحت هناك مشروعات رائدة في المجال لما تُسهم به في فتح فرص عمل جديدة متسمة بالابتكار والاستدامة، ومواكبة التطلعات المستقبلية القائمة على الجودة والقدرة على المنافسة محليًا وإقليميًا، بُغية تحقيق الأهداف المؤسسية والوطنية.

ولقد اعتنت عُمان بالحرف التقليدية عناية فائقة منذ القدم، لما مثَّلته من مكانة اقتصادية واجتماعية؛ فالمجتمع بكافة أطيافه شارك في دعم الحرف والمهن التقليدية، من خلال العمل الجماعي من ناحية، ثم تأسيس المؤسسات الحِرفية التي أسهمت في بناء الوعي المجتمعي بتلك الحِرف، وتمكين الأجيال من الاستفادة منها عبر حقب تاريخية كثيرة، إضافة إلى تلك العناية الخاصة التي حظيت بها المؤسسات العاملة في القطاع الحِرفي، والسعي إلى توسعة آفاقها وحفظ حقوقها وتمكين مكانتها الاقتصادية والاجتماعية من خلال التشريعات والسياسات المنظمة لعملها والميسِّرة لها.

تمثِّل الصناعات الحِرفية العمانية أصلًا من أصول الصناعات المرتبطة بالتنمية والاستثمار من ناحية، وبالمجتمع وحالات تشكلاته وتطوره عبر الحقب التاريخية من ناحية أخرى، ولهذا فإن نجاح هذا القطاع لا يعتمد فقط على قدرته الإنتاجية، بل على جهود تطوير أداء المبدعين والعاملين فيه، بوصفهم أساسًا للإبداع والابتكار، وتحقيق الأهداف، ومواجهة المتغيرات المتزايدة التي قد تشكِّل تحديًا أمام استدامتها، والأمر هنا لا يتعلَّق برؤوس الأموال وكيفية إدارتها منظومتها الإدارية وتطويرها فقط، بل أيضا بالاهتمام بالمبدعين وتأهيلهم.

لذا فإن الدولة اهتمت بتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المتخصصة في المجالات الحِرفية، واعتنت في ذلك بالكوادر البشرية المؤهَّلة القادرة على ريادة الأعمال، فعملت على تدريبهم وتأهيلهم من خلال مجموعة من البرامج والمبادرات الفنية والاستشارية والتمويلية، التي تُسهم في تمكين هذه المؤسسات ومبدعيها تحت شعار الهُوية البصرية الخاصة بالمنتج الحِرفي العماني (حِرف عُمان)، بُغية تسويقها محليًا وإقليميًا بل وحتى عالميًا، وضمان جودتها وقدرتها على المنافسة في هذه الأسواق.

ولقد مثَّلت العديد من المواقع التراثية منافذ لبيع وتسويق المنتجات الخاصة بتلك المؤسسات، كما أسَّست بعضها منافذ خاصة بها سواء أكانت مفردة أو مشتركة، إضافة إلى تدشين عدد من المنافذ التي تعرض تلك المنتجات وتسوِّقها في المحافظات، بُغية دعمها وتمكينها وتعزيز استدامتها، وقد تم إطلاق منصة (البيت الحرفي العُماني) قبل أيام قليلة، التي تُعنى بـ(عرض وتسويق وبيع منتجات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والحرفيين ... بحيث يمكنهم عرض منتجاتهم والترويج لها عبر هذا المنفذ، كما تتيح إمكانية الشراء المباشر من المنصة).

إن إطلاق هذه المنصة توفِّر فرصًا لأعمال المؤسسات من أجل تسويقها وفق مقتضيات حديثة قادرة على توسعة آفاق التعريف بمنتجاتها وتكوين صور ذهنية جديدة عن المنتج المحلي الحِرفي، كما أن اشتراط (عرض المنتجات ذات الجودة العالية والتغليف المميَّز)، يدفع هذه المؤسسات إلى المنافسة في إثبات القدرة على التطوير والابتكار وتقديم الأفضل، فالجودة هي المعيار الأساسي الذي يغيِّر الصور الذهنية النمطية عن المنتج المحلي الحِرفي ويخرجه من بوتقة التكرار والتقليد القائم على المسارات السوقية التي لا تعتمد الابتكار بقدر ما تعتمد على بُعد الشراء العام، ما تسبَّب في التركيز على بعض المجالات بل حتى المنتجات المتشابهة المتكررة، الأمر الذي جعل الإبداع والابتكار في تراجع لدى بعض تلك المؤسسات.

فالجودة والقدرة على المنافسة هما الأساس الذي يجب أن يتوفَّر لدى المؤسسات الحِرفية، بوصفها قطاعًا واعدًا له أهميته وقيمته الاقتصادية والاجتماعية، وله قدرته على توفير فرص عمل إبداعية ليس للحرفيين والمبدعين وحدهم بل أيضًا للكثير من الوظائف المساندة، التي تدعم هذا القطاع وتفتح له آفاق الإبداع؛ فالتقنية والابتكار تحتاج إلى الخبراء والمصممين والفنيين الذين يتولُّون مع المبدعين مهام تقديم منتجات قادرة على الصمود في الأسواق والمنافسة على المستوى الإقليمي والعالمي.

إن الاهتمام بالصناعات الحِرفية ومؤسساتها، يرتكز على تلك المنافذ التسويقية من ناحية، وضبط جودتها الإنتاجية، وقدرتها على التطوير من نفسها من ناحية أخرى، ولهذا فإن تقديم الفرص الاستثمارية في التراث الثقافي عمومًا وما يمكن لتلك الصناعات أن تتبناه، يمكِّنها من تقديم منتجات محلية رائدة ومتفرِّدة، لا تعتمد على ما هو متوفِّر في السوق بل على ما يحتاجه السوق من منتجات جديدة تتكامل مع ذلك المتوفِّر وتمنح فرصًا لتوسعة السوق المحلي ومجالات رائدة للأعمال الحرة.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وقدرتها على هذا القطاع من ناحیة من خلال رفیة ا التی ت

إقرأ أيضاً:

الاقتصاد الإبداعي لم يعد ترفا فكريّا

الاقتصاد الإبداعي هو أحد النماذج الاقتصادية الحديثة التي تحظى باهتمام عالمي على نطاق واسع، ويعد أحد المحركات الرئيسة للاقتصاد العالمي؛ كون الأثر المالي المتوقع من الاقتصاد الإبداعي كبيرا الذي بات يمثّل أكثر من 3% من حجم الاقتصاد العالمي، ويعادل نحو 2.3 تريليون دولار؛ وفقا لأحدث الإحصائيات المتوفّرة.

لكن التحدي الأكبر في الاقتصاد الإبداعي فكريًّا أنه ما زال محدود التأثير، وبحاجة إلى مزيدٍ من التجويد والاهتمام على مستوى الصناعات الإبداعية، والمحتوى المحلي. وفي رأيي أنَّ عدم إشباع الاقتصاد الإبداعي نقاشات وأطروحات من قبل الأغلبية أو الجماعة من حيث المفهوم، والتأثير على المجتمع والاقتصاد أدى إلى محدودية التفاعل مع الاقتصاد الإبداعي، والصناعات الإبداعية على وجه الخصوص.

وربما هو نتيجة الفهم غير الواسع عن المفهومين أو عدم ارتباطهما مباشرة بالحياة اليومية للأفراد، أي أنها لا تؤثر على حاجيّاتهم، وقد يراها البعض أنها جانب هامشي ليس أساسي، لكنها في الحقيقة هي تمثّل دخلا ماليا للفرد في حال استفاد من مهاراته وهواياته في تحويل الصناعات التي يقوم بها إلى صناعات إبداعية؛ خاصة فئة الحرفيين وصنّاع المحتوى وممارسي الفنون بمختلف أنواعها كالمسرح والأفلام والموسيقى إضافة إلى المشتغلين في البحوث والتطوير هم المحركين الأساسيين للاقتصاد الإبداعي.

رغم تعدد المفاهيم المصطلحات حول الاقتصاد الإبداعي إلا أنَّ المفهوم الأقرب إلى رأيي هو المكان الذي يمتزج من خلاله الفكر الفني بالتوجه الاقتصادي، ويتفاعلان معا؛ لإنتاج اقتصاد إبداعي، وبالتالي الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة. وهنا من الجيد أن نشير إلى أنَّ الاقتصاد الإبداعي يعتمد كليًّا على مستوى المهارة، والإبداع في إخراج المحتوى؛ ولذلك مدى فاعليته تتأثر كثيرا بمستوى استحسان رأي الأغلبية، وبالأحرى مدى نجاح الاقتصاد الإبداعي قائم على إنتاج الإبداع المحمي بالملكية الفكرية وتسويقه، وأيضا مدى تطوّر مستوى المبدعين اقتصاديا في صناعة المحتوى الفني من خلال توظيف أفكارهم وهواياتهم في إنتاج محتوى إبداعي شريطة تسويقه جيدا بالاستفادة من أدوات التسويق الرقمي في المنصات الإلكترونية. فالاقتصاد الإبداعي أصبح محركا للاقتصاد ومعززا لنموّه من خلال توفير فرص عمل للباحثين عن عمل المبدعين وبالتالي زيادة مداخيلهم، وبلا شك سينعكس إيجابا على رفاهية المجتمعات، وهنا نستطيع القول بأن الاقتصاد الإبداعي هو اقتصاد العقول.

إن دفع عجلة التنويع الاقتصادي يعد هدفا وطنيا ساميا، وعلينا البحث عن الفرص الداعمة لإنجاح هذا التوجه الوطني المهم، والاقتصاد الإبداعي أحد المدخلات الفاعلة للتنويع الاقتصادي؛ كونه يتميّز بمرونة عالية وقدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية، ولا يتطلب إنفاقا على المواد الأساسية لإنتاجه سوى أن يوظّف الفرد فكره الثقافي والإبداعي في إنتاج محتوى يتميّز بالإبداع والقبول البصري، وبالتالي نستطيع الوصول إلى نمو مستدام بعيدا عن التفكير بشأن تقلبات أسعار الطاقة عالميا، ما يحسّن من مؤشرات التوظيف ورفاهية المجتمع؛ إذ تشير الإحصاءات المرصودة أنّ الاقتصاد الإبداعي استطاع توفير نحو 30 مليون وظيفة في مختلف بلدان العالم، وحجمه يمثّل نحو 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويشير ذلك إلى أنّ الاقتصاد الإبداعي يتسارع في النمو، وأنّ علينا الاهتمام بهذا القطاع الحيوي عبر احتضان الموهوبين والمبدعين؛ للاستفادة من طاقاتهم وهواياتهم الإبداعية في تنمية الاقتصاد الإبداعي، وأن نكون على خارطة الدول المصدرة للصناعات الإبداعية عالميا.

إن الصناعات الإبداعية ليست ترفا فكريا كما يظنه البعض، بل مستقبل لصنع اقتصاد أكثر استدامة وازدهارا وإبداعا، وأرى أنّ المقترحات الآتية ربما تسهم في تنمية الاقتصاد الإبداعي، وتعزز من مكانته، وترسّخ مفهومه وأدواته:

- استحداث مركز مستقل في الجهاز الإداري للدولة يختص برسم السياسات اللازمة للاقتصاد الإبداعي، والتنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى لتنمية هذا النوع من الاقتصاد من خلال اكتشاف الموهوبين والمبدعين المعوّل عليهم قيادة هذا القطاع؛ ليكون داعما للاقتصاد العُماني.

- تشجيع الشباب على تأسيس شركات، وتقديم الدعم اللوجستي لهم؛ بهدف إنتاج محتوى محلي إبداعي، واستقطاب الكفاءات والخبرات غير العُمانية؛ لتجويد صناعة المنتجات الإبداعية المحلية.

- تشجيع الباحثين على إجراء دراسات معمّقة عن قطاع الصناعات الإبداعية، وجدوى الاستفادة من القطاع اقتصاديا ومجتمعيا؛ بحيث تربط العلاقة بين الصناعات الإبداعية بتعزيز الهوية الوطنية لدى أفراد المجتمع، ومدى قدرة الأفراد على الاستفادة من منتجاتهم الإبداعية في تعزيز مداخيلهم وانعكاسات ذلك على منظومة الاقتصاد؛ تحديدا على عوامل الاقتصاد الكلي مثل: التوظيف، والنمو الاقتصادي، والناتج المحلي الإجمالي.

- بحث إمكانية تنمية مهارات الحرفيين؛ لإنتاج صناعات حرفية أكثر إبداعا مع دراسة مقترح تأسيس شركة وطنية ناشئة لتنمية الصناعات الحرفية، وتحويلها إلى صناعات حرفية إبداعية، وتصدير المنتجات إلى خارج سلطنة عُمان.

- غرس مفهوم الصناعات الإبداعية لدى النشء، وربطها بالاقتصاد الإبداعي من حيث تسويقها، وانجذاب أفراد المجتمع تجاهها مقارنة بالصناعات الأخرى منخفضة المستوى في الإبداع

راشد بن عبدالله الشيذاني باحث ومحلل اقتصادي

مقالات مشابهة

  • بَللو: الديناميكية التي يشهدها قطاع السينما تعكس التزام الدولة إلى بعث الصناعات الإبداعية
  • لطفي بوجمعة : ” الحركية الكبيرة التي يعرفها القطاع نرى نتائجها مع تحقيق الإقلاع الرقمي وانفاذ الإدارة القضائية الإلكترونية”
  • الكرسي لا يفكر
  • صادرات الصناعات الهندسية في مصر تتخطى 3 مليارات دولار «لأول مرة»
  • "العز الإسلامي" يتعاون مع "فتية للصغار" لتثقيف الأطفال عن القيم العُمانية
  • محمد معيط: الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة
  • معيط: الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة المصرية
  • هآرتس تكشف خطة نتنياهو التي سيطرحها على الكابينت بشأن غزة
  • الاقتصاد الإبداعي لم يعد ترفا فكريّا
  • الإغاثة الطبية بغزة تدعو المؤسسات الدولية للسعي لإدخال الوقود وإنقاذ المنظومة الصحية