هل يُدْرِك السُّودانِيُّون تهديدات ما بعد الحرب ؟!
تاريخ النشر: 23rd, March 2025 GMT
كما هو مُتوقَّع تماماً، وتبعاً للتضخيم المُتعمَّد لاستعادة القصر الجُمْهُوري، عَمَّت الأرجاء فرحة مُدهشة ومُغالى فيها، وانصَرَفت أنظار الرأي العام عن (حقيقة) الظروف السيئة التي يحيا فيها السُّودانيُّون منذ اندلاع هذه الحرب المصنوعة، وتَناسى الغالِبِيَّة الظروف السيئة وبالغة التعقيد التي يحيونها. فأهلُ الدَّاخل – وبغض النظر عن الجاني – يُعانون من كل أنواع الإجرام كالقتل والنَّهبِ والاغتصابِ والإذلالِ والفقر والتجويع، في ما يُعاني المُهجَّرين/النَّازحين من تكاليف المعيشة أو التَشَرُّدِ، والموت جوعاً أو حُزناً أو مرضاً، في الصحاري وأزِقَّةِ المُدُن والبوادي، وبعضهم ما يزالُ عالقاً في المعابر الحدودِيَّة، مع صعوبة العودة لمنازلهم المُحتَلَّة/المنهوبة أو المُدَمَّرة تماماً في كثيرٍ من الحالات.
التعاسةُ الكُبرى تتجسَّد في انقسامنا بين البرهان/حِمِيْدْتي وحُلفائهما، من القحتيين وانتهازيي الحركات المُسلَّحة، رغم أنَّ هؤلاء – وتنفيذاً لتوجيهات المُتأسلمين وسادتهم بالخارج - وأدوا حراكنا الشعبي الفريد وهو مهده، ووضعوا العراقيل والأزمات أمام التغيير، وصنعوا الحرب الماثلة مع سبق الإصرار! وللأسف، فإنَّ غالبيَّة السُّودانيين لم يتِّعظوا من هؤلاء، ويستميتون دفاعاً عنهم، منتظرين (المجهول) لتعديل أوضاعنا البائسة، ونفرح بـ(غُلُو) لاستعادة شارع أو مبنى أو صينيَّة مرور، مُعتقدين أنَّ حياتنا ستعود كما كانت بمُجرَّد انتهاء تمثيليَّة الحرب وهذه غفلة كبيرة. أقولُ غفلة لأنَّ السُّودان وأهله غارقون في بحور من التحديات والمُهدِّدات الخطيرة، التي صنعها المُتأسلمين وأذنابهم البرهان/حِمِيْدْتي وحلفائهما المُشار إليهم أعلاه، مما دفعني إلى التنبيه لهذه التحديات إبراءً للذِمَّة وتوثيقاً للتاريخ، وأملاً في صحوة أرجو أن تكون سريعة.
في هذا الخصوص، فإنَّ أخطر المُهدِّدات الحقيقيَّة ستصدم السُّودانيين حينما يكتشفون قريباً حقيقة الغدر الذي تَعرَّضنا له، وأفضى إلى سيطرة المُتأسلمين الكاملة على مفاصل الدولة، لأنَّهم لم يسقطوا أصلاً وإنَّما (اختفوا) مرحلياً، وظلُّوا يُديرون البلد من خلف الكواليس، بواسطة أذنابهم البُرهان/حِمِيْدْتي، وبمعرفةٍ وتنسيقٍ تام مع القحتيين وما يُسمَّى حركات مُسلَّحة. فباسترجاع بعض الوقائع المَنسِيَّة، سنجد بأنَّ حِراكنا الشعبي الذي أدَّى لـ(اختفاء) البشير وبعض مُعاونيه، انطلق (من الأقاليم وليس العاصمة) في 12 ديسمبر 2018، وخلال 13 يوماً غَطَّت الاحتجاجات أكثر من 17 مدينة/منطقة، وكان بالإمكان القبض على غالِبِيَّة قَادَة المُتأسلمين، إذا استمرَّ الحِرَاك بنفس القُوَّة والسُرعة، لولا الظهور المُفاجئ لتَجَمُّع المِهَنيين، الذي (فَرَضَ نفسه) كقائدٍ للحِرَاك دون استيفائه لمُتطلَّبات (القيادة)، وأبرزها الفكر الاستراتيجي والمُؤسَّسيَّة والتَجَرُّد. ثُم قام المِهنِيُّون (دون تفويض شعبي رسمي) بتشكيل قحت من الكيانات الانتهازيَّة، التي ظَلَّت تتلوَّن بأسماءٍ مُختلفة (نداء السُّودان، الجبهة الثورِيَّة، ثم قحت ومُؤخَّراً تأسيس)، وبمرور الأيَّام، تَبَيَّنَ أنَّ انضمامهم الشكلي للثُوَّار، استهدف تعطيل/إفشال الثورة، التي لاحَت مُؤشِّرات نجاحها في الأفُق! فما أن تَشَكَّلَت قحت إلا وبدأت الربكة/الخلافات، وشَاهَدنا أسوأ صور الغَدرِ والانبطاح، حينما تَسَابَقت بعض مُكوَّنات قحت للتَفَاوُض (الانفرادي) مع العَسْكًر/الجنجويد، والسفر (خِلْسَةً) للإمارات وغيرها من المظاهر، وتَرَاجَعت التظاهُرات الشعبِيَّة التي غَطَّت 13 مدينة/منطقة في أقلَّ من أسبوعين، لتُصبح فقط في (حَيَّيْنِ) اثنين أو ثلاثة من أحياء الخُرْطُوم، عقب قيادة المِهنيين وحُلفائهم في قحت، وتَقَزَّمَت السقوف المَطلبِيَّة إلى (التَفاوُضِ) بدلاً عن (الإسقاط الكامل) للمُتأسلمين.
ازدادت الصورة وضوحاً بتقييم المُمارسات الفعلِيَّة لحمدوك وقحتيُّوه، والتي أضَرَّت بالسُّودان إجمالاً، وليس فقط الحراك الثوري. فإذا تجاوزنا عن ظهوره المُفاجئ كمُرشَّحٍ أوحد (دون معاييرٍ معلومة أو مُفاضلةٍ مع آخرين)، وتضخيمه الأُسطُوري (مجهول المصدر)، فإنَّ حمدوك هو أوَّل من أطاحَ بما يُسمَّى وثيقة دستورِيَّة، وأخلَفَ جميع وعوده التي أطلقها بـ(كامل إرادته) عقب تسميته رئيساً للوُزراء، كالتزامه بمُعالجةِ التَرَهُّلِ الإداري، واعتماد (الكفاءة) وتحقيق التَوَازُن (الاسْتِوْزَاري) بين المناطق/الأقاليم، وتعزيز الشفافِيَّة ومُحاربة الفساد، وبناء دولة القانون، وإصلاح الخدمة المَدَنِيَّة، وتهيئة اقتصاد إنتاجي، وعدم تصدير المواد الخام. فالجهاز الإداري ازداد (تَضَخُّماً/تَرَهُّلاً)، وإصلاح الخدمة المدنيَّة، نَسَفَه حمدوك باختياراته لفاقدي الأهلِّيَّة المِهَنِيَّة والأكادِيميَّة والأخلاقِيَّة، وتَجَاهُله المُتعَمَّد لإرجاع المفصولين تَعَسُّفياً خاصَّةً بالجيش والشرطة، والذين كانوا سيحمونه هو شخصياً قبل أن يحموا التغيير، بخلاف إهماله لمُحاسبة ومُحاكمة (قادة) المُتأسلمين، رغم تمثيليَّة حبسهم في السجون، ودونكم مُحاكمة البشير بتُهمة حياز النقد الأجنبي، وهي تُهمةٌ تافهة مُقابل جرائم الإبادة الجماعِيَّة التي أقرَّ بها صوت وصورة.
هذه المُعطيات عَجَّلَت بظهور المُتأسلمين العَلن بدل الكواليس، فشكَّلوا ما يُسمَّى "التيار الإسلامي العريض"، قُبيل اندلاع حرب البرهان/حِمِيْدْتي (المصنوعة)، ونَظَّموا اللقاءات الجماهيريَّة، وانتقدوا الحراك الشعبي وهَدَّدوا المُطالبين بالتغيير، ثُم أشعلوا الحرب الماثلة مُسْتَهدفين بها الشعب السُّوداني حصراً وما يزالون. والتذكير بهذه الأحداث التي عايشناها عياناً بياناً لإثبات (عدم سقوط) المُتأسلمين، الذين استعادوا توازُنهم وسيطرتهم الكاملة على الثروة والسُلطة والعلم والسلاح، مُقابل شعب يفتقد أبسط مُقوِّمات الحياة، ويحيا تَمزُّقاً وفقراً وتَشَرُّداً وتجهيلاً غير مسبوق، بما يُحتِّم الاتحاد الحقيقي والتفكير والاستعداد الجاد لمُواجهة المُتأسلمين وأذنابهم بحزمٍ وحسم، وعدم السماح بوجودهم في حياتنا مُجدَّداً، عقب جرائمهم السابقة المُتراكمة وآخرها الحرب الماثلة، وإلا فلنستعد لحَتْفِنا المحتوم جوعاً وفقراً وإذلالاً، لأنَّنا قَبِلنا بوجودهم رغم ما فعلوه بنا.
يُعتبر (المُجنَّسون) من المخاطر المُرعبة التي تُهدِّد وجودنا بالكامل، خاصَّةً في الشرق والغرب، حيث جَلَبَ المُتأسلمون مجموعاتٍ أجنبيَّةٍ عديدة، ومنحوهم الجِنسيَّات ومَلَّكُوهُم الأراضي، وألحقوهم بمليشياتهم المُختلفة، وبعضهم اسْتَوْزَر وتَقَلَّد مناصب حَسَّاسة بالدولة، وارتكب أبشع الجرائم ضد السُّودانيين وما يزالون. ثُمَّ جاء انتهازيُّوا قحت وما يُسمَّى حركات مُسلَّحة، وانشغلوا بمطامعهم المالِيَّة والسُلطَوِيَّة، وتَجاهلوا تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، وعزَّزوا سُطوة المُجَنَّسين وتَغَلغُلَهم في الدولة أكثر، مُتجاهلين ولائهم المُطلق لبلدانهم الأصيلة، وأحقادهم وجرائمهم البشعة ضد أهل البلد، ومن ضمنها الحرب الماثلة، وفقاً لإقراراتهم المُوثَّقة صوت وصورة، وهذا تَحدٍ خطير يُحتِّم اتِّحاد أهل البلد (الأصيلين) والتفكير والتعامل بجدِيَّةٍ وحسم، بعيداً عن العواطف والتسويف!
ظلَّ الاقتصادُ السُّوداني يتراجع منذ سَطو المُتأسلمين على السُلطة، واستمرَّ التَرَاجُعِ عقب اختفائهم وتصديرهم للبُرهان/حِمِيْدْتي وحُلفائهما، وازداد الأمرُ سوءاً في ظل الحرب الماثلة، التي عَزَّزت إفقار وتجويع وتشريد الشعب، وأصبح مُعدماً بنحوٍ شبه كامل، وهو تهديدٌ حقيقي يتطلَّب المُعالجة اعتماداً على الذات! نحتاجُ للتفكير الجاد بشأن كيف سنحيا ومن أين ومتى نُعيد البناء وكم تبلغ التكلُفة؟ مع الابتعاد تماماً عن مُجرَّد التفكير في الاعتماد على الخارج، لأنَّ الجميع طامعون في بلادنا ومواردنا ويستكثروها علينا. بخلاف أنَّ العالم بكامله مخنوق اقتصادياً والجميع يسعى لتأمين ذاته، وحتَّى وإنْ وُجِدَت مُساعدات أو قروض فستكون (مُسْتَحَقَّة الدفع)، وستزيد حالتنا تعقيداً، لأنَّ مشاكلنا الاقتصادِيَّة بِنْيَوِيَّة/هيكليَّة، ونفتقد للعديد من عناصر وأدوات الإنتاج، وهي حالة يستحيل مُعالجتها/تجاوُزها بالأوهام والوعود الزَائفة!
هناك أيضاً الانعكاسات البيئيَّة الخطيرة للحرب الماثلة، كالحرائق والغازات، والمُخلَّفات الكيميائيَّة والشظايا والمقذوفات غير المُتفجِّرة، والتلوُّث النَّاجم عن دفن الجُثث بالمنازل وانتشارها في الشوارع، وتوالد القوارض ونواقل الأوبئة، كحمى الضنك والملاريا والتيفوئيد، والأمراض التنفسيَّة والصدريَّة، مع محدوديَّة أو انعدام الأدوية وارتفاع أسعارها إن وُجِدَت. يُضاف للمُهدِّدات البيئيَّة، تَزَايُد الاصطفاف القَبَلي/الجِهَوِي وهو خطرٌ يُهدِّد سِيادة ووجود الدولة بِرُمَّته، حيث عَمَلَ المُتأسلمون على إزكاء نيرانه وأكملَ البُرهان/حِمِيْدْتي وحُلفائهما مسيرتهم، مُستغلِّين (فِرْيَةِ) التهميش لتمزيق نسيجنا الاجتماعي، مع مُلاحظة أنَّ العَدالَة القانونِيَّة والاجتماعِيَّة/الإنسانِيَّة، مفقودةٌ وغائبة عن جميع أرجاء البلاد، مما يُحتِّم تعزيز تَلَاحُمنا وتسخير طاقاتنا/قُدراتنا ضد الأعداء (الحقيقيين)، وليس الاقتتال واستعداء بعضنا البعض! ولا ننسى الاحتلال، بِغَلَبَةِ السِّلاحِ أو المال، حيث تحتل مصر حلايب وغالِبيَّة الأراضي النُّوبِيَّة وبعض شمال دارفور، وتملك مليون فَدَّان بالشِمالِيَّة (مشروع الكنانة)، وتعبث بمياهنا الإقليميَّة بالبحر الأحمر. في ما شَيَّدَ الإثيوبيُّون قُرىً كاملةً بـ(مَحْمِيَّة الدِنْدِرْ)، عقب احتلالهم للفشقة، بجانب تهديدات سد النَّهضة المُقام على أرضٍ سُّودانِيَّةٍ بالأساس (بني شنقول)، والمساحات التي بَاعَها المُتأسلمون للصين وروسيا والسعوديَّة، وموانئ بورتسودان وسَوَاكِن، والتي تجعلنا نقول بالمُحصِّلة، أنَّ غالِبيَّة أراضينا مُحتلَّة أو مُبَاعَة، واستردادها يحتاج لـ(صدقٍ) وتفكيرٍ جادٍ وصَرَامة، مع الدول المُحتلَّة وليس قَبُول (وَساطاتها) وتوجيهاتها.
المُحصِّلة أنَّ حياتنا لن تكون سهلة مع وجود المُهدِّدات الخطيرة التي ذكرنا (بعضها) أعلاه، فثَمَّة تحدِّيات أخرى لا يسع المجال لذكرها، واكتفينا بذكر الأخطر منها، لعلَّنا نعي وندرك ونستدرك. وليتنا نَتَّعظ من البُرهان/حِمِيْدْتي وحُلفائهما بقحت وما يُسمَّى حركات مُسلَّحة، لأنَّهم الذين صنعوا هذه الحرب، تنفيذاً لمُخطَّطات المُتأسلمين وسادتهم بالخارج، ونترك انقسامنا واقتتالنا لأجلهم، ونَتوقَّف عن إطلاق الألقاب الخُرافِيَّة على هذا أو ذاك، ونَسْتَبدِل ذلك باستشعار المُهدِّدات المُرعبة التي تنتظرنا وإدراك مآلاتها، ونَتَّحد بحق ونُفكِّر ونستعد بجدِّيَّة لمُواجهتها ومُعالجتها، اعتماداً على ذواتنا، هذا إذا أردنا النَّجاة والفلاح.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ة التی
إقرأ أيضاً:
ما قصة تماثيل عين غزال الأردنية التي احتفل بها غوغل؟
احتفى محرّك البحث العالمي "غوغل" بتماثيل "عين غزال" الأردنية، مسلطًا الضوء على واحدة من أقدم الشواهد الفنية في تاريخ البشرية.
هذا الاحتفاء أعاد هذه التماثيل إلى الواجهة، حيث تعتبر تماثيل عين غزال، نافذة على بدايات التفكير الرمزي والديني لدى الإنسان في العصر الحجري الحديث.
تماثيل عين غزال تعد شاهدة على مجتمع استقر قبل نحو تسعة آلاف عام على أطراف عمّان الحالية، وترك خلفه إرثًا فنيًا وروحيًا ما زال يثير أسئلة العلماء والمؤرخين حتى اليوم.
موقع عين غزال
يقع موقع عين غزال الأثري في الجزء الشرقي من العاصمة الأردنية عمّان، قرب مجرى سيل الزرقاء، في منطقة كانت تُعدّ من أكبر المستوطنات البشرية في العصر الحجري الحديث قبل الفخاري.
وتشير الدراسات الأثرية إلى أن الموقع كان مأهولًا بشكل متواصل تقريبًا بين عامي 7200 و5000 قبل الميلاد، أي في مرحلة مفصلية من تاريخ البشرية شهدت الانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة والاستقرار.
ما يميّز عين غزال عن غيره من المواقع المماثلة في المنطقة، هو ضخامته نسبيًا؛ إذ قُدّر عدد سكانه في ذروة ازدهاره بالآلاف، وهو رقم كبير جدًا بمقاييس تلك الفترة. هذا الاستقرار السكاني الكثيف أتاح نشوء أنماط اجتماعية ودينية معقدة، انعكست لاحقًا في طقوس الدفن والعمارة والفنون، وعلى رأسها تماثيل الجص الشهيرة.
اكتشاف تماثيل عين غزال عام 1983
بدأت قصة الاكتشاف في عام 1983، عندما كانت أعمال توسعة عمرانية تجري في المنطقة. وخلال حفريات إنقاذية، عثر فريق من علماء الآثار على مجموعة غير متوقعة من التماثيل المدفونة بعناية تحت أرضية أحد المباني السكنية القديمة. لاحقًا، كشفت حملات تنقيب إضافية عن مجموعتين رئيسيتين من التماثيل، يعود تاريخ دفنهما إلى نحو 6500 قبل الميلاد.
شكّل هذا الاكتشاف صدمة علمية حقيقية، إذ لم يكن معروفًا آنذاك وجود تماثيل بشرية كاملة الحجم تقريبًا تعود إلى هذا الزمن السحيق. ومنذ ذلك الحين، أصبح اسم «تماثيل عين غزال» حاضرًا في أبرز المراجع الأكاديمية، وغالبًا ما يُشار إليها بوصفها من أقدم التماثيل البشرية في العالم.
تماثيل من الجص
صُنعت تماثيل عين غزال من مادة الجص (الجبس الجيري)، وهي مادة كانت تُحضّر عبر حرق الحجر الجيري ثم خلطه بالماء لتكوين عجينة قابلة للتشكيل. وقد بُنيت التماثيل حول هيكل داخلي من القصب أو الأغصان، ثم جرى تغليفها بطبقات من الجص المصقول بعناية.
تتراوح أطوال التماثيل بين نصف متر ومتر تقريبًا، وبعضها تماثيل كاملة، فيما صُنعت أخرى على شكل أنصاف تماثيل (بوست). اللافت للنظر هو التركيز الشديد على ملامح الوجه، ولا سيما العيون الكبيرة المصنوعة غالبًا من القار أو الصدف، والتي تمنح التماثيل نظرة حادة ومقلقة، كأنها تحدّق في المشاهد عبر آلاف السنين.
ملامح بلا أفواه
من أكثر ما يثير الجدل العلمي حول تماثيل عين غزال، هو غياب الفم في معظمها، مقابل إبراز واضح للعيون والرؤوس. هذا الاختيار الفني المتكرر دفع الباحثين إلى طرح تفسيرات متعددة، من بينها أن التماثيل لم تكن تمثّل أفرادًا بعينهم، بل كائنات رمزية أو أسلافًا مقدسين، أو ربما آلهة مرتبطة بالخصوبة والحياة والموت.
كما يرى بعض العلماء أن غياب الفم قد يرمز إلى الصمت الطقسي، أو إلى عالم روحي لا يحتاج إلى الكلام، فيما تبقى العيون وسيلة الاتصال بين العالم المرئي والعالم غير المرئي.
لماذا دُفنت تحت الأرض؟
لم تُترك التماثيل معروضة أو مهجورة، بل دُفنت بعناية فائقة داخل حفر خاصة تحت أرضيات المنازل، وهو ما يفتح بابًا واسعًا للتأويل. فالبعض يرى أن الدفن كان جزءًا من طقس ديني دوري، حيث تُصنع التماثيل وتُستخدم في شعائر معينة ثم تُوارى الأرض بعد انتهاء دورها الرمزي.
ويذهب رأي آخر إلى أن هذه التماثيل كانت مرتبطة بطقوس حماية المنزل أو الجماعة، وأن دفنها تحت الأرضية يهدف إلى ضمان البركة أو الحماية الروحية لسكان المكان.
وعُثر في موقع عين غزال على ما يقارب 32 تمثالًا وتمثالًا نصفيًا، وهو عدد كبير قياسًا بالفترة الزمنية التي تعود إليها.
أين توجد تماثيل عين غزال اليوم؟
تتوزع تماثيل عين غزال اليوم بين عدد من المتاحف العالمية، أبرزها متحف الأردن في عمّان، الذي يضم مجموعة مهمة تُعدّ من أثمن معروضاته الدائمة.
كما توجد تماثيل أخرى في متاحف عالمية مثل المتحف البريطاني في لندن، ومتحف اللوفر في باريس، ضمن سياق التعاون العلمي الذي رافق عمليات التنقيب والدراسة.
ويُنظر إلى عرض هذه التماثيل في متحف الأردن على وجه الخصوص بوصفه استعادة رمزية للإرث الحضاري المحلي، وربطًا بين سكان عمّان المعاصرين وأحد أقدم فصول تاريخ مدينتهم.