هذا المقال بقلم الدكتور زاهر سحلول، طبيب سوري-أمريكي وبروفسور مساعد في جامعة إيلينوي بشيكاغو ورئيس منظمة "ميدغلوبال" الطبية الخيرية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

في زيارتي الثانية لسورية بعد انهيار نظام الأسد قمت بجولة تفقدية على عدة مشافي أهلية في المدن الرئيسية وتحدثت مع عدد كبير من الأطباء لتقييم الوضع الصحي.

الوضع كارثي من كل النواحي والنظام الصحي على قاب قوسين أو أدنى من الانهيار. فبعد أكثر من عقد من الحرب، والسياسات الفاشلة، والعقوبات المدمرة، وجائحة كوفيد-19، أصبح النظام الصحي على الإنعاش. المستشفيات عفا عليها الزمن، ومراكز الرعاية الصحية الأولية تفتقر إلى الخدمات الأساسية، والبلاد تعاني من نقص حاد في الإمدادات الطبية والمعدات والكوادر المؤهلة.

يكسب الطبيب السوري في المتوسط 25 دولارًا فقط شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية نفقات 3 أيام من الطعام والمواصلات. في المشفى الجامعي والمشفى الوطني في حمص قال لي مدير المشفى إن الأطباء المقيمين والممرضين لا يستطيعون الوصول إلى المشفى لأنهم لا يستطيعون دفع أجور المواصلات وأن المشفى لا يستطيع تقديم الوجبات للمرضى والأطباء بسبب عدم وجود تمويل لذلك.

التحديات هائلة. التكنولوجيا القديمة ونقص الرقمنة يعيقان حتى الخدمات الطبية الأساسية. لا يوجد نظام تأمين صحي، والتمويل شبه معدوم. تقوم وزارة الصحة، المكلفة بإحياء النظام، بعملها بقدرات محدودة وعدد قليل من الإداريين. العقوبات الدولية قيدت الاقتصاد وحرمت البلاد من الوصول إلى الموارد الأساسية. دون استراتيجية شاملة، تخاطر سوريا بمزيد من التدهور، مع عواقب قد تستمر حتى بعد انتهاء الحرب كما تظهر الدراسات في الدول التي مرت بحروب وأزمات مشابهة كالبوسنة وكوسوفو وهايتي والصومال والعراق.

تتجاوز الأزمة الصحية البنية التحتية. تواجه سوريا أزمة في الصحة النفسية حيث تتراوح التقديرات أن 30-50%؜ من السوريين لديهم اضطرابات نفسية بسبب الحرب والنزوح والمستقبل غير المضمون والتعذيب وحالات الاختفاء القسري. تعاني أسر الضحايا واللاجئين العائدين والنازحين داخليًا من ندوب نفسية عميقة، بينما الموارد اللازمة لمعالجة احتياجاتهم شبه معدومة. وتتفاقم الأزمة بسبب انتشار الإدمان على المخدرات، خاصة إنتاج واستخدام الكبتاغون، مما دمر المجتمعات وأثقل كاهل نظام هش بالفعل.

في الوقت نفسه، تواجه سوريا عبئًا متزايدًا من الأمراض غير السارية (المزمنة)، بما في ذلك أمراض القلب والسكري وارتفاع ضغط الدم والسمنة وأمراض الكلى المزمنة والسرطان وأمراض الرئة الانسدادية المزمنة. تفاقم هذه الحالات بسبب واحدة من أعلى معدلات التدخين في العالم، وعجز العديد من المرضى عن تحمل تكلفة الأدوية المنقذة للحياة. كما أدى الاستخدام غير المنضبط للمضادات الحيوية إلى ظهور بكتيريا مقاومة للأدوية المتعددة، مما يشكل تهديدًا كبيرًا للصحة العامة.

هذا هو الواقع القاتم لنظام صحي وصل إلى الحضيص، تاركًا الملايين عرضة للأمراض والاختلاطات والوفيات التي يمكن تجنبها.

طريق التعافي محفوف بالتحديات. العقبة الأكثر إلحاحًا هي العقوبات الدولية، خاصة تلك المفروضة من الولايات المتحدة الأمريكية، وتأثيرها المدمر. هذه العقوبات المركبة والمتراكمة منذ السبعينات من القرن الماضي ضد القطاع البنكي والصناعي والمالي، والتي ازدادت حدتها بقانون قيصر الذي فرض ضد نظام الأسد ومن يتعاون معه، تعيق النمو الاقتصادي وتحد من الوصول إلى الإمدادات الطبية الأساسية.

وبينما توفر المساعدات الإنسانية إغاثة مؤقتة، إلا أنها غير كافية لمعالجة القضايا الأساسية.

يتطلب التعافي الكامل رفع العقوبات أولا وتعزيز الجهود المنسقة بين وزارة الصحة والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية والوكالات الأممية مثل منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

ومن القضايا الأخرى المهمة هجرة الكفاءات من العاملين في القطاع الصحي. فحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية فقد نزح ما يقارب 70٪ من العاملين الصحيين في سوريا، تاركين وراءهم قوة عاملة هزيلة تكافح من أجل تلبية احتياجات الشعب المتزايدة. في حديثي مع طلاب الطب والمقيمين، الكل لا يزال يفكر بالسفر إلى أوروبا أو أمريكا أو دول الخليج لعدم ثقتهم بالمستقبل وما سيأتي به.

تثبيت الكفاءات ومنعها من الهجرة لن يكون سهلا وسيتطلب أولا تحسين الأجور وتحسين الاقتصاد ومن ثم تحديث التعليم والتدريب الطبي، وتحديث المستشفيات والتكنولوجيا. ولسد بعض الثغرات يمكن للحلول الإبداعية، مثل الاستفادة من خبرات المغتربين السوريين عبر الطب عن بُعد والتعليم عبر الإنترنت، أن تسد الفجوة مؤقتا حتى تعود عجلة الاقتصاد للعمل.

يمثل المغتربون السوريون، وخاصة عشرات الآلاف من الأطباء والعاملين الصحيين في دول الخليج وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، موردًا مهما لإعادة بناء النظام الصحي. وبعد سقوط نظام الأسد انتشرت مبادرات عديدة بين المؤسسات التي تمثل الأطباء المغتربين لدعم النظام الصحي في بلدهم الأم وربط الجهود المبذولة.

فمثلا قامت منظمة " ميدغلوبال" التي تهدف إلى ردم الهوة الصحية في مناطق الكوارث وتنشط في دول مختلفة كالسودان واليمن والأراضي الفلسطينية وأوكرانيا، بمبادرة سمتها "تعافي سوريا" وبدأتها في مدينة حمص التي تضررت كثيرا بسبب الحرب والحصار و النزوح، وتهدف المبادرة إلى ربط الأطباء المغتربين مع مدينتهم من خلال تعريفهم باحتياجات المشافي المحلية وتلبية الاحتياجات العاجلة في الأجهزة الصحية والمستهلكات والأدوية والتعليم والتدريب. قامت المنظمة بتفعيل بعض الخدمات، مثل مركز القسطرة القلبية الوحيد في حمص، وإنشاء عيادة نفسية لضحايا التعذيب والحروب ولتدريب الأطباء النفسيين على معالجة الإدمان على المخدرات الذي ينتشر بين الفئات الشبابية وتوفير أجهزة طبية نوعية ومتقدمة للمشافي ودفع حوافز للأطباء وتوفير عبوات غسيل الكلى للمستشفيات المحتاجة بالإضافة إلى التعليم والتدريب عن بعد وإرسال الفرق الطبية لتدريب الأطباء المحليين على استقصاءات جديدة.

ويعتمد نجاح مثل هذه المبادرات على مركزية دور وزارة الصحة السورية وإزالة الحواجز أمام التعاون. حاليًا، يظل التنسيق بين الجهات الفاعلة محدودًا، مع تركيز الجهود على الاحتياجات العاجلة بدلاً من التعافي طويل الأمد. بينما يعد معالجة الاحتياجات العاجلة أمرًا ضروريًا، إلا أنه غير كافٍ لتحقيق تقدم مستدام.

يجب أن تركز استراتيجية بناء القطاع الصحي على كتل البناء الستة الأساسية للنظام الصحي بما فيها تقديم الخدمات الصحية والموارد البشرية والمنتجات الدوائية واللقاحات والتقنيات والتمويل والحوكمة ونظم المعلومات الصحية. ويجب تطوير هذه الاستراتيجية بالتنسيق بين وزارة الصحة ومنظمات المغتربين والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية والوكالات الأممية.

من دون مثل هذا التنسيق من الصعب أن ينهض النظام الصحي و يمكن أن يستمر بالتدهور رغم وقف الحرب وسيستمر تدهور المعايير الصحية وهجرة العقول والكفاءات.

إن انهيار النظام الصحي في سوريا هو كارثة تضاف إلى كوارث الحرب المدمرة خلال الأربع عشرة سنة الماضية وتتطلب عملًا عاجلًا.

يجب على المجتمع الدولي أن يدرك أن المساعدات الإنسانية وحدها ليست كافية. وأنه يجب رفع العقوبات كلها لدفع عجلة التعافي الاقتصادي وإعادة بناء نظام صحي متكامل يحقق للإنسان السوري عيشا كريما بعد سنوات طويلة من المعاناة. 

سوريانشر الخميس، 27 مارس / آذار 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

المصدر: CNN Arabic

كلمات دلالية: النظام الصحی وزارة الصحة فی سوریا

إقرأ أيضاً:

نقابة الأطباء ترد على الصحة بسبب اتهام عضو مجلسها بنشر أخبار كاذبة

أخلت النيابة العامة سبيل الدكتور خالد أمين، الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء، بضمان محل إقامته، وذلك عقب التحقيقات التي أجريت معه بشأن البلاغ المقدم من وزارة الصحة، بحضور نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبد الحي، والمستشار القانوني للنقابة محمود عباس.

حضر إلى مقر النيابة هيئة المكتب بكامل أعضائها، وعدد من الأطباء للتأكيد على تضامنهم الكامل مع الدكتور خالد أمين، تأكيدا على أن العمل النقابي ليس جريمة، بل هو حق أصيل كفله الدستور والقانون، وأن محاسبة ممثل نقابي على تصريحاته أو مواقفه التي تصب في صالح المهنة والمنظومة الصحية هو أمر مرفوض شكلًا وموضوعًا ويمثل سابقة خطيرة تمس روح العمل النقابي الحر الذي شاركت الدولة نفسها في ترسيخه كركيزة للتعبير عن الرأي والمشاركة في صنع القرار.

وفنّد الدكتور خالد أمين، خلال التحقيق، جميع الاتهامات الموجهة إليه، مقدّمًا مستندات رسمية ودراسات موثقة تدعم موقفه وتؤكد صحة تصريحاته.

وتضمن البلاغ المقدَّم ضد الدكتور خالد أمين، عضو مجلس نقابة الأطباء، 4 تهم رئيسية تندرج جميعها تحت مظلة نشر أخبار كاذبة من شأنها إثارة الفزع والبلبلة داخل المجتمع الطبي، وفي أوساط الرأي العام، وذلك على خلفية تصريحاته في أحد البرامج التليفزيونية والتي تحدث خلالها عن استقالة 12 طبيب يوميًا، وأن مرتبات الأطباء حديثي التخرج نحو 6 آلاف جنيه، والتصريح بأن قانون المسؤولية الطبية بصيغته الأولى سيؤدي إلى زيادة هجرة الأطباء، وحديثه عن تكرار الاعتداءات على الأطباء بشكل مبالغ فيه، بحسب وصف البلاغ المقدم من وزارة الصحة.

ومن جانبها قامت النقابة العامة للأطباء بالرد على الاتهامات وهى كالاتى:

الاستقالات اليومية للأطباء

قدّم الدكتور أمين، بحثًا وكشوفًا صادرة عن نقابة الأطباء، تُثبت أن عدد الأطباء الذين قاموا بتسجيل أنفسهم كأطباء حرّ في عام 2024 بلغ بمعدل 12 طبيبًا يوميًا، كما استند إلى إحصائيات أخرى منشورة سابقا على الصفحة الرسمية للنقابة تؤكد أن عام 2022 شهد أكبر معدل لاستقالات الأطباء من وزارة الصحة.

التحذير من الاستقالات الجماعية في حال صدور قانون المسؤولية الطبية

أوضح أن تصريحاته جاءت في حين صدور النسخة الأولى من قانون المسؤولية الطبية والذي رفضته النقابة، وحالة الغضب التي رصدتها النقابة عند الإعلان عن النسخة الأولى لمشروع القانون، حيث أعلن عدد من رموز المهنة عبر منصات التواصل الاجتماعي عزمهم اعتزال المهنة في حال صدور القانون بصيغته الأولى.

دراسة رسمية حول العجز في عدد الأطباء

أشار الدكتور أمين، إلى دراسة مشتركة أُجريت في عام 2020 بين وزارتي الصحة والتعليم العالي -التي كان يترأسها في ذلك الوقت وزير الصحة الحالي د.خالد عبد الغفار، بمشاركة منظمة الصحية العالمية ونقابة الأطباء، أظهرت أن نسبة الأطباء العاملين فعليًا بوزارة الصحة لا تتعدى 38% من إجمالي الأطباء في مصر، بينما يتجه الباقون للسفر أو العمل الخاص، مما يعكس وجود عجز كبير مقارنة بالمعدلات العالمية، حيث المعدل العالمي هو 24 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن، في حين يبلغ المعدل المحلي 8.6 طبيب فقط لكل 10 آلاف مواطن، وأوضحت هذه الدراسة أن سبب عزوف الأطباء عن العمل في وزارة الصحة، وتقديم استقالاتهم سببه تدني الأجور، وعدم تأمين بيئة العمل.

المرتبات المتدنية للأطباء

أكد الدكتور أمين، أن متوسط رواتب الأطباء حديثي التخرج أو الحاصلين على الماجستير نحو 6 آلاف جنيه شهريًا، وهو ما تدعمه شكاوى متعددة وردت للنقابة، وتعهد الدكتور خالد أمين بتقديم مستندات رسمية (مفردات مرتب) تثبت صحة حديثه.

عدم تنفيذ قرار وزارة الصحة بتحمّل تكاليف الدراسات العليا

أشار إلى أن القانون الصادر في عام 2014 بهذا الشأن لم يُنفذ، رغم صدور قرار وزاري في 2023، مؤكّدًا أن النقابة ما زالت تعقد اجتماعات مع الوزارة للمطالبة نحو التنفيذ، وأنها خاطبت الوزارة رسميًا بهذا الخصوص، وآخر تلك المخاطبات كان في عام 2024 وما زالت المفاوضات مستمرة لتنفيذ القانون.

وأعربت النقابة عن ثقتها الكاملة في نزاهة النيابة العامة والقضاء المصري العادل، الذي طالما كان حصنًا للحقوق والحريات، وضامنًا لاحترام الدستور وسيادة القانون.

نقابة الأطباء لـ«الأسبوع»: تدني الأجور يدفع الآلاف للهجرة سنويًا.. ولا نتقاضى رسومًا مقابل سفرهم

نقابة الأطباء: لم نحقق مع طبيبة كفر الدوار.. وهدفنا التقويم وليس الذبح «فيديو»

مقالات مشابهة

  • رائف رضا: للمشاركة بكثافة بانتخابات نقابة الأطباء خدمة للعمل النقابي
  • ياسر الهضيبى عن انتخابات النواب: حزب الوفد يراعى المصلحة العليا للوطن
  • مدير الإغاثة الطبية في غزة: النظام الصحي ينهار بالكامل تحت الحصار الإسرائيلي
  • وزيرا الصحة والتضامن يناقشان زيادة فصول الحضانات ورياض الأطفال
  • ترامب: مبعوثنا الجديد إلى دمشق يدرك الإمكانات الكبيرة للعمل مع سوريا
  • بتكليف رئاسي.. وزيرا الصحة والتضامن يبحثان آلية زيادة فصول الحضانات ورياض الاطفال
  • زيادة عدد فصول الحضانات ورياض الأطفال.. تفاصيل لقاء وزيري الصحة والتضامن
  • نقابة الأطباء ترد على الصحة بسبب اتهام عضو مجلسها بنشر أخبار كاذبة
  • "حصان طروادة السيبراني".. تطبيق الكتروني ساهم في انهيار نظام الأسد
  • زياد خلف: المصارف العراقية ليست نقطة ضعف بل منطلق للتكامل مع النظام المالي العالمي