شهدت العلاقة بين الولايات المتحدة والسودان محطات متباينة عبر التاريخ، حيث تأرجحت بين الانخراط الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية، وكان السودان دائمًا في موقع حساس داخل الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا والشرق الأوسط. منذ استقلال السودان، تعاملت واشنطن معه وفق اعتبارات الحرب الباردة، فكانت تدعمه حين يكون في المعسكر الغربي، وتضغط عليه حين يميل نحو المعسكر الشرقي أو يتبنى سياسات معادية لمصالحها.

خلال السبعينيات، دعمت إدارة نيكسون والرؤساء الجمهوريون الذين جاؤوا بعده نظام جعفر نميري، خاصة بعد أن طرد الأخير الخبراء السوفييت وتحول إلى التحالف مع الغرب، لكن هذا الدعم لم يكن بلا مقابل، فقد جاء مشروطًا بفتح السودان أمام المصالح الأمريكية، سواء في ملفات الاقتصاد أو الأمن الإقليمي.
مع وصول الإسلاميين إلى السلطة عام 1989 بقيادة عمر البشير، دخل السودان في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، خاصة بعد استضافته لأسامة بن لادن وجماعات إسلامية أخرى، وهو ما أدى إلى تصنيفه دولة راعية للإرهاب في 1993. العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن عزلت السودان دوليًا، لكنها في ذات الوقت لم تمنع النظام من بناء تحالفات بديلة مع الصين وروسيا وإيران، ما جعل السودان يتحول إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين القوى الكبرى. ومع اشتداد الحرب في جنوب السودان، لعبت الولايات المتحدة دورًا غير مباشر في دعم المتمردين، وهو ما قاد إلى اتفاق السلام في 2005 الذي مهّد لانفصال الجنوب عام 2011. غير أن واشنطن، ورغم دورها الحاسم في تقسيم السودان، لم تفِ بوعودها تجاه الخرطوم، إذ استمر الحصار الاقتصادي لسنوات طويلة بعد الانفصال، ما زاد من تعقيد المشهد الداخلي وأدى إلى أزمات اقتصادية وسياسية عميقة.
خلال فترة حكم دونالد ترامب، تغيرت الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان من المواجهة المباشرة إلى نهج "المقايضة"، حيث تم ربط أي انفتاح أمريكي بمدى استعداد السودان لتقديم تنازلات سياسية وأمنية، وكان أبرز الأمثلة على ذلك اشتراط واشنطن تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في 2020. هذا النهج عكس طبيعة السياسة الخارجية لإدارة ترامب التي قامت على البراغماتية المطلقة، بعيدًا عن أي التزامات أخلاقية أو ديمقراطية. هذه الواقعية الصارمة قد تعود مجددًا في حال وصول الجمهوريين إلى السلطة مرة أخرى، مما يعني أن تعامل الولايات المتحدة مع السودان سيكون محكومًا باعتبارات المصالح الجيوسياسية وليس بدعم التحول الديمقراطي.
من المرجح أن تعتمد الإدارة الجمهورية القادمة، سواء بقيادة ترامب أو أي بديل آخر، على سياسة المقايضة بدلًا من الدبلوماسية التقليدية. السودان قد يجد نفسه أمام معادلة واضحة: ماذا يمكنه أن يقدم مقابل الدعم الأمريكي؟ في ظل هذه البراغماتية، فإن القوى المدنية التي لا تمتلك أدوات ضغط حقيقية قد يتم تجاهلها، فيما يتم التركيز على الفاعلين العسكريين باعتبارهم الأقدر على فرض الاستقرار، حتى لو كان ذلك على حساب التحول الديمقراطي. كذلك فإن الإدارة الجمهورية قد تستخدم العقوبات بشكل انتقائي، فتضغط على قوات الدعم السريع باعتبارها مرتبطة بروسيا وفاغنر، بينما تغض الطرف عن الانتهاكات التي يرتكبها الجيش السوداني إذا كان ذلك يخدم المصالح الأمريكية في الإقليم.
التحالفات الإقليمية ستكون أيضًا محورًا أساسيًا في الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان، إذ من المتوقع أن تتعامل واشنطن مع الملف السوداني عبر قنوات غير مباشرة، مثل مصر والإمارات، بدلًا من التدخل المباشر. هذه المقاربة قد تؤدي إلى صفقات سرية تعيد ترتيب الأوضاع بما يخدم القوى العسكرية المدعومة من هذه الدول، وهو ما سيجعل أي حل سياسي محتمل بعيدًا عن التوافق الوطني الحقيقي. في سياق أوسع، فإن السودان قد يتحول إلى ورقة ضغط في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث قد تسعى واشنطن إلى منع موسكو من توسيع نفوذها في البحر الأحمر عبر قاعدة بورتسودان، كما قد تستخدم الأزمة السودانية للضغط على الصين التي تمتلك استثمارات ضخمة في البلاد.
المسألة الأكثر حساسية في العلاقة بين السودان والإدارة الجمهورية القادمة ستكون ملف إسرائيل، إذ أن واشنطن قد تربط أي دعم سياسي أو اقتصادي بمزيد من التنازلات السودانية تجاه تل أبيب، سواء من حيث التعاون الأمني أو الاقتصادي. ترامب، في ولايته الأولى، استخدم سياسة فرض التطبيع كشرط مسبق للدعم، ومن المرجح أن يعود إلى نفس الأسلوب إذا فاز بولاية ثانية. هذه السياسة قد تضع السودان في مأزق داخلي، حيث أن التطبيع ما زال ملفًا خلافيًا في الساحة السودانية، ما يعني أن أي ضغط أمريكي في هذا الاتجاه قد يفاقم التوترات الداخلية.
في النهاية، فإن مستقبل العلاقة بين السودان والولايات المتحدة في ظل الجمهوريين سيتحدد وفق معادلة المصالح البحتة، بعيدًا عن أي التزام بدعم الديمقراطية أو الاستقرار طويل الأمد. واشنطن قد تدعم حلًا عسكريًا سريعًا للأزمة السودانية إذا كان ذلك يخدم مصالحها الإقليمية، لكنها لن تلتزم بمساعدة السودان على بناء نظام سياسي مستدام. كما أن السودان قد يجد نفسه في قلب صراع بين القوى الكبرى، حيث تسعى واشنطن إلى احتوائه ضمن استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الروسي والصيني، مما قد يعقد الأزمة أكثر بدلًا من حلها. في ظل هذه التعقيدات، فإن السودان سيكون أمام خيارات صعبة، إما الخضوع للضغوط الخارجية وقبول حلول مفروضة، أو مواجهة سيناريو صراع طويل الأمد يعمّق أزماته السياسية والاقتصادية.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة تجاه

إقرأ أيضاً:

تحول جذري في مسار الحرب.. الضربة الأمريكية لـ إيران تهز العواصم العالمية

في لحظةٍ نادرة يتقاطع فيها التاريخ مع الجغرافيا والسياسة مع السلاح، دخلت الولايات المتحدة رسميًا على خط المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران، في تدخلٍ مباشر حوّل الصراع من حرب بالوكالة إلى مواجهة مفتوحة بين دول كبرى. 

ففي فجر اليوم الأحد 22 يونيو 2025، لم يكن عاديًا في الإقليم ولا في العالم، إذ أعلنت واشنطن عن تنفيذ ضربات جوية مركّزة ضد منشآت نووية إيرانية، في خطوة وُصفت بأنها الأشد منذ عقود، وأثارت عاصفة من ردود الفعل الدولية المتباينة بين داعم ومتحفظ وقلق. هذا التحول الجذري في مسار الحرب لم يقتصر أثره على طهران وتل أبيب، بل امتد إلى العواصم الكبرى ومجالس الأمن ومراكز القرار العالمية، حيث أعادت هذه التطورات تشكيل أولويات الدول، ودفعتها إلى إعادة تقييم حساباتها في واحد من أكثر الملفات حساسية في العالم.

واشنطن.. تأكيد على الحزم والدفاع عن الحلفاء

البيت الأبيض أعلن أن الضربات التي نفذتها طائرات الشبح الأميركية جاءت ردًا على ما وصفه بـ"التهديد الوجودي الذي تمثله الطموحات النووية الإيرانية، والدعم العسكري المباشر من طهران لجماعات تهدد أمن إسرائيل واستقرار الشرق الأوسط".

وأكد الرئيس الأمريكي أن "الولايات المتحدة لن تقف متفرجة أمام تصعيد إيراني غير مسبوق"، مشددًا على أن واشنطن “ستدافع عن مصالحها وحلفائها بكل الوسائل الممكنة”.
واعتبرت الإدارة الأمريكية أن الهجوم يحمل رسالة مزدوجة: منع إيران من تجاوز الخطوط الحمراء، ومنع امتداد الحرب إلى نطاق يهدد استقرار المنطقة والعالم.

إسرائيل: ترحيب بالتحول الأمريكي ودعوة لمزيد من الدعم

من جانبها، رحّبت إسرائيل علنًا بالتدخل الأميركي، واعتبرته تطورًا طبيعيًا في مسار التحالف الإستراتيجي بين البلدين.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي إن “الدعم الأميركي اليوم يبرهن على أن معركة إسرائيل ضد إيران ليست معركة منفردة، بل هي جزء من منظومة دولية تسعى لردع التهديد النووي الإيراني.”

وأشارت مصادر إسرائيلية إلى أن التعاون الاستخباراتي والعسكري بين تل أبيب وواشنطن كان وثيقًا خلال الأيام التي سبقت الضربة، ما يعزز فرضية التنسيق الكامل.

إيران: إدانة شديدة وتحذيرات من تصعيد مفتوح

في طهران، قوبل التدخل الأميركي بإدانة شديدة، حيث اعتبرته القيادة الإيرانية "عدوانًا سافرًا وانتهاكًا فاضحًا للسيادة الإيرانية"، وتعهدت بـ"ردّ ساحق ومؤلم في الزمان والمكان المناسبين".

وأعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن "الإدارة الأميركية تتحمل المسؤولية الكاملة عن تداعيات هذا التصعيد"، معتبرًا أن واشنطن “أغلقت الباب نهائيًا أمام أي تسوية دبلوماسية في المرحلة الراهنة”.

كما أطلق الحرس الثوري تهديدات مباشرة ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا والخليج، مشيرًا إلى أن "كل جندي أميركي أصبح هدفًا مشروعًا".

روسيا.. تحذير من انفجار إقليمي وفشل الحلول الدبلوماسية

موسكو، التي تحتفظ بعلاقات مع كل من طهران وتل أبيب، أبدت قلقًا بالغًا من الضربات الأميركية.
وقالت وزارة الخارجية الروسية إن “التدخل الأميركي في النزاع يمثل تصعيدًا خطيرًا قد يجر المنطقة إلى حرب شاملة".

وحذرت موسكو من أن "سياسات القوة والضربات الاستباقية لن تؤدي إلا إلى تقويض فرص الحل السياسي"، داعية إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن لبحث الوضع.

الصين: دعوة لضبط النفس وإعادة التفاوض

أما بكين، فأعربت عن قلقها من "التطورات الميدانية الخطيرة"، ودعت إلى “ضبط النفس من جميع الأطراف، ووقف فوري للتصعيد”.

وأكدت وزارة الخارجية الصينية أن "المواجهة العسكرية لن تُنتج أمنًا مستدامًا، والحل الوحيد يكمن في العودة إلى المفاوضات"، معربة عن رفضها لأي استخدام للقوة خارج نطاق الشرعية الدولية.

الاتحاد الأوروبي.. انقسام وصوت مرتجف

داخل الاتحاد الأوروبي، بدا الانقسام واضحًا بين دول تؤيد الموقف الأميركي، مثل بريطانيا وبولندا، ودول أخرى دعت إلى التهدئة، كفرنسا وألمانيا.

وقال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إن "التدخل الأميركي يعقّد المشهد بشكل خطير، ويهدد بفتح جبهات جديدة في الإقليم"، مطالبًا بعقد مؤتمر دولي عاجل لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني.

فيما عبّرت بعض العواصم الأوروبية عن خشيتها من أن يؤدي التصعيد إلى موجة لجوء جديدة وانفجار في أسعار الطاقة.

الدول العربية
جاءت المواقف العربية متباينة وحذرة للغاية.السعودية والإمارات دعتا إلى "ضبط النفس وتجنب التصعيد"، مع التأكيد على "ضرورة حماية أمن الخليج واستقرار المنطقة."العراق ولبنان وسوريا عبرت أطراف سياسية فيها عن خشيتها من أن تتحول أراضيها إلى ساحات رد إيرانية ضد المصالح الأميركية.مصر والأردن دعتا إلى "وقف فوري للأعمال العدائية"، وعبّرتا عن دعم أي مسار دبلوماسي يُجنّب المنطقة الانزلاق نحو حرب شاملة.الأمم المتحدة: قلق ومخاوف من كارثة إقليمية
الأمين العام للأمم المتحدة أعرب عن "قلق بالغ" من التطورات الأخيرة، محذرًا من أن "التصعيد العسكري بين قوى إقليمية ودولية قد يفتح أبوابًا لا يمكن إغلاقها بسهولة."
ودعا إلى انعقاد عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الضربة الأميركية، وتفعيل الأدوات الدبلوماسية لاحتواء الأزمة.

الدخول الأميركي المباشر على خط الحرب بين إسرائيل وإيران لم يكن مجرد قرار عسكري، بل لحظة فارقة في توازنات الشرق الأوسط. وبين دعم غربي وتحذيرات شرقية، يجد العالم نفسه أمام أزمة متعددة المستويات: أمنية، سياسية، واقتصادية. 

وما بين الخيارات المحدودة أمام إيران، والمخاوف العالمية من حرب لا يمكن التنبؤ بمداها، يبقى السؤال المطروح: هل تتحول الضربة الأميركية إلى شرارة لحرب كبرى، أم أنها ستكون صدمة تردع الجميع وتعيدهم إلى طاولة المفاوضات؟ الأيام المقبلة وحدها كفيلة بالإجابة.

طباعة شارك إيران الولايات المتحدة إسرائيل واشنطن

مقالات مشابهة

  • دبلوماسى لبنانى سابق: إيران حاولت توجيه رسالة دون جر الولايات المتحدة إلى معركة شاملة
  • سيناريوهات رد الولايات المتحدة على إيران بعد استهداف القواعد الأمريكية
  • الولايات المتحدة تكشف عن تكتيك جديد في ضرب المنشآت النووية الإيرانية
  • التنسيق المحكم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في الملف الإيراني من البديهيات
  • ضربات ترامب لإيران.. بين حسابات الردع وضغوط الحلفاء
  • الولايات المتحدة تحذر من مستوى تهديد مرتفع بعد الضربات الأمريكية ضد إيران
  • تحول جذري في مسار الحرب.. الضربة الأمريكية لـ إيران تهز العواصم العالمية
  • مصدر لـCNN: أي عمل عسكري إسرائيلي ضد إيران سيعتمد على رد فعلها تجاه الضربة الأمريكية
  • مسؤول روسي: الولايات المتحدة دخلت مرحلة حرب أهلية
  • أستاذ علوم سايسية: الدفاع عن سماء إسرائيل تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية