أثارت سياسة التعريفة الجمركية العدوانية التي ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مناقشات جدية حول إعادة التوازن إلى الاقتصاد الأمريكي في الداخل وعلى مستوى النظام الاقتصادي العالمي. في كلمة ألقاها أمام النادي الاقتصادي في نيويورك في السادس من مارس، عرض وزير الخزانة سكوت بيسنت رؤية لنهج السياسة الاقتصادية الذي تتبناه إدارة ترامب الرامي إلى «إعادة التوازن» إلى الاقتصاد الأمريكي وإعادة خصخصته.

لاحظ بيسنت أيضا، كما فعل ترامب، أن «فترة التخلص من السموم»، حيث يقلل الاقتصاد من اعتماده على الإنفاق الفيدرالي، قد تستلزم «بعض الآلام» في الأمد القريب لتحقيق مكاسب أبعد أمدا.

ليس من الواضح تماما ما الذي يحتاج إلى إعادة التوازن على وجه التحديد، فالسياسات الضريبية والتنظيمية التي تدرسها الإدارة الأمريكية توفر سبلا لزيادة الاستثمار في الولايات المتحدة من جانب الشركات المحلية والأجنبية على حد سواء، لكن التأثيرات التي يخلفها هذا على سعر صرف الدولار والحساب الجاري لا تتماشى على النحو المناسب مع خفض العجز التجاري الأمريكي الذي تسعى الإدارة إلى تحقيقه، مع معاناة الأسواق المالية الأمريكية والصناعة المحلية بفعل الرسوم الجمركية المتقطعة، يجدر بنا أن نتساءل ما إذا كان هدف إعادة التوازن يُـخـدَم على نحو أفضل عندما يجعل ترامب السياسة التجارية على رأس أولوياته. الإجابة المختصرة هي «كلا». على سبيل المثال، من غير المرجح أن تؤدي التعريفات الجمركية المفروضة على الألومنيوم والصلب، وهما من المدخلات الوسيطة الرئيسية في التصنيع، إلى إعادة التوازن للاقتصاد الأمريكي نحو زيادة التصنيع. النهج الأفضل كان ليركز على التغييرات المطلوبة التي طال انتظارها في السياسة المالية، وإن كانت الخطوات السياسية أكثر صعوبة من مجرد التشدق بشعار «إعادة التوازن». يتوخى هدف «أمريكا أولا» الذي تتبناه إدارة ترامب إعادة التوازن إلى النشاط الاقتصادي والإنتاج على مستوى العالم، بالإضافة إلى التعريفات الجمركية الأمريكية، يتمحور قدر كبير من النقاش في دوائر صنع السياسات، داخل الحكومة وخارجها، حول إعادة التوازن في الخارج. في أوروبا، سيعمل احتمال إعادة التسلح وغير ذلك من زيادات الإنفاق المحلي في ألمانيا على تقليص الفائض المزمن في حساب ألمانيا الجاري، وفي آسيا، تبرز الصين بفضل سعيها إلى تحقيق الفوائض، وبسبب سلوكها التجاري الـنَـهّاب في كثير من الأحيان (إغراق الأسواق العالمية بمنتجات قدرتها الصناعية الفائضة)، وسرقة الملكية الفكرية.

قد تُـساق بسهولة حجة مفادها أن الصين، في سبيل تعزيز رفاهتها الاقتصادية، يجب أن تعمل على زيادة إنفاقها المحلي، وخاصة الاستهلاك، بدلا من الاعتماد على النمو الذي تقوده الصادرات، وأعلنت الصين مؤخرا عن خطط لتعزيز الاستهلاك المحلي في الاستجابة للرسوم الجمركية الأمريكية، وإذا تجنبت الصين عملية إعادة التنظيم هذه، فربما ينبغي لعضويتها في منظمة التجارة العالمية أن تكون موضع تساؤل، لكن خطة إعادة المواءمة الاقتصادية على مستوى العالم تنطوي على جانب مقابل مهم. فبينما تحتاج بعض الاقتصادات، مثل الصين وألمانيا، إلى زيادة الإنفاق المحلي، تحتاج الولايات المتحدة إلى زيادة الادخار الوطني، وفي حين يمثل الادخار الوطني الادخار الخاص (من قبل الأسر والشركات) والادخار العام، فإن الأخير هو الذي يحتاج إلى التعديل، الأمر ببساطة أن الولايات المتحدة ينبغي لها أن تعمل على خفض عجز الموازنة الحكومية ووضع نسبة الدين الفيدرالي إلى الناتج المحلي الإجمالي على مسار مستقر أو حتى هابط.

من الإنصاف أن نعترف بأن بيسنت أَكَّـدَ أن خفض العجز هدف مرغوب في حد ذاته، ويوفر خفض العجز الفائدة المتمثلة في تحقيق أهداف الإدارة فيما يتصل بإعادة التنظيم الاقتصادي.

مع تساوي العوامل الأخرى كافة، تفرض الزيادة في المدخرات الوطنية الناتجة عن انخفاض عجز الموازنة ضغوطا تدفع أسعار الفائدة الحقيقية إلى الانخفاض في أسواق رأس المال العالمية وعلاوة الأجل على الدين العام الأمريكي الأطول أجلا، ومع تساوي العوامل الأخرى كافة أيضا، سينخفض عجز الحساب الجاري الأمريكي، وبقدر ما يتحقق الانضباط المالي من خلال خفض الإنفاق الفيدرالي، يصبح من الممكن تحقيق إعادة التوازن نحو الاقتصاد الخاص. على الجانب الضريبي، يجب أن تكون إدارة ترامب حريصة على تجنب التخفيضات الضريبية الكبيرة الجديدة التي تزيد من عجز الميزانية وتقلل من الادخار العام. وكما يوضح تقرير توقعات الميزانية الطويلة الأجل السنوي الصادر عن مكتب الميزانية في الكونجرس، فإن الزيادات الطويلة الأمد في الادخار العام تتطلب الحد من نمو الإنفاق الفيدرالي.

في هذا الصدد، تتطلب ملاحقة مسار مالي نحو إعادة التوازن اتخاذ خطوات معروفة، وإن كانت صعبة على المستوى السياسي. في حين تركز إدارة الكفاءة الحكومية التابعة لإدارة ترامب على تخفيضات التوظيف الفيدرالي، ويجب أن تتمحور أي تخفيضات جدية طويلة الأمد في الإنفاق حول إبطاء معدل نمو النفقات على الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، وينطوي الأمر على عدد من الطرق لإنجاز هذه التغييرات الكفيلة بتعزيز المساعدات المقدمة لكبار السن من ذوي الدخل الأدنى، مع تقليل سخاء البرنامج مع المسنين الأكثر ثراء. بالنسبة للضمان الاجتماعي، من الممكن أن يقترن رفع الحد الأدنى من الاستحقاقات بإدخال تغييرات على مقايسة الاستحقاقات لجلب خفض تدريجي في نمو الإنفاق، وعن الرعاية الطبية لكبار السن، من الممكن أن يوفر دعم الأقساط الممولة من القطاع العام للتغطية الأساسية شبكة أمان قوية مع خفض نمو التكاليف. وإذا كانت إدارة ترامب جادة بشأن إعادة التوازن إلى الاقتصاد الأمريكي، فعليها أن تستفيد من سيطرة الرئيس على مجلسي الكونجرس للدفع بتغييرات ذات مردود اقتصادي ضخم في الأمد البعيد، على الرغم من التحديات السياسية في الأمد القريب. سيكون ذلك حقا الـمُـعادِل لوضع أمريكا أولا. من غير المرجح أن يؤدي الحديث عن إعادة التوازن، الذي يركز على التعريفات الجمركية في الداخل والمحاضرات في الخارج، إلى تحويل شعار ترامب المميز «اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى» إلى أكثر من مجرد كلمات على قبعة بيسبول.

جلين هوبارد أستاذ الاقتصاد والمالية في جامعة كولومبيا، والرئيس السابق لمجلس المستشارين الاقتصاديين الأمريكي في عهد الرئيس جورج دبليو بوش.

خدمة بروجيكت سنديكيت.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلى الاقتصاد الأمریکی إعادة التوازن إلى إدارة ترامب

إقرأ أيضاً:

تحليل ينتقد النهج الأمريكي تجاه الحوثيين.. يستغلون كل هدنة لإعادة التسلح والعودة لساحة المعركة أقوى (ترجمة خاصة)

حذر تحليل أمريكي من أي سياسة للتهدئة مع جماعة الحوثي في اليمن، والبحر الأحمر، قال إنه سيفضي إلى مزيد من إراقة الدماء ويهدد الاستقرار الإقليمي والدولي.

 

وذكرت مجلة "ناشيونال انترست" في تحليل ترجمه للعربية "الموقع بوست" أن النهج الأميركي الذي اختار الدبلوماسية كوسيلة لاحتواء الحوثيين، خطأ فادح سيعزز قوتهم في اليمن وسيزيد من توسع هجماتهم في المنطقة.

 

وأضافت "بدلًا من سياسة التهدئة، ينبغي على الولايات المتحدة اتباع حملة مستمرة من العقوبات والضغط الدبلوماسي، وعند الضرورة، استخدام القوة العسكرية، أي شيء أقل من ذلك سيُفضي إلى مزيد من إراقة الدماء".

 

وأكدت أن اتفاق واشنطن مع الحوثيين مثلها مثل الرياض في وقت سابق، سعت إلى وقف إطلاق نار وتقديم حوافز، لكن الجماعة لم تتجاوب، بل استغلت الفرص لإعادة التموضع.

 

وأردفت "اتّبع رد فعل واشنطن نمطًا مألوفًا الآن - نمطًا فشل مرارًا وتكرارًا. كما فعلت السعودية من قبل، انتهجت الولايات المتحدة مسارًا دبلوماسيًا، عارضةً وقف إطلاق النار وتقديم حوافز على أمل أن يتوقف الحوثيون. لكن التاريخ يُخبرنا بعكس ذلك: فالحوثيون يستغلون كل هدنة كفرصة لإعادة التسلح، وإعادة تنظيم صفوفهم، والعودة إلى ساحة المعركة أقوى".

 

وحسب التحليل فإن هذه ليست مشكلة إسرائيل فحسب. فقد شنّ الحوثيون عشرات الهجمات على سفن الشحن المدني في البحر الأحمر، مما تسبب في فوضى عارمة في سلاسل التوريد العالمية وهدد أحد أهم الممرات البحرية في العالم. تُشكّل هذه الهجمات تحديًا لالتزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حرية الملاحة، التي تُعدّ حجر الزاوية للازدهار العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

 

"في مايو/أيار، ساعدت واشنطن في التوسط لوقف إطلاق النار عبر عُمان. كان الهدف واضحًا: إنهاء الهجمات على الشحن الدولي. لكن في غضون أسابيع، نقض الحوثيون الاتفاق. ففي 7 و9 يوليو/تموز، هاجموا سفينتي شحن، مما أسفر عن مقتل ثلاثة بحارة واحتجاز ستة آخرين رهائن"، حسبما ورد.

 

وقال "كانت المملكة العربية السعودية أيضًا تعتقد ذات يوم أنها قادرة على التفاوض مع الحوثيين. بعد دخولها الحرب الأهلية في اليمن عام 2015 للدفاع عن الحكومة المعترف بها دوليًا، وجدت الرياض نفسها عالقة في مأزق حرج. وتحول الصراع إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، وكان رد الفعل سريعًا".

 

ووفق المجلة "بحلول عام 2020، وصل الرأي العام الأمريكي تجاه المملكة العربية السعودية إلى أدنى مستوياته التاريخية. كمرشح، وعد جو بايدن بجعل الحكومة السعودية "منبوذة". وكرئيس، قلّص مبيعات الأسلحة وألغى تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية الذي كان قائمًا في عهد ترامب. ومع ذلك، وبينما خفف بايدن من حدة السياسة الأمريكية تجاه الحوثيين، لم يبادلهم الحوثيون نفس المعاملة.

 

وكما أشار السفير مايكل راتني، المبعوث الأمريكي السابق إلى المملكة العربية السعودية، في بودكاست "إيران بريك داون" التابع لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، فإن هجمات الحوثيين على المدن والمطارات والبنية التحتية للطاقة في السعودية لم تُلحق أضرارًا حالية فحسب، بل عرّضت خطط التنمية طويلة الأجل للمملكة للخطر.

 

"في عام 2022، أبرمت الرياض اتفاقًا لوقف إطلاق النار لمدة ستة أشهر مع الحوثيين، وامتنعت، على وجه الخصوص، عن الرد حتى بعد أن شنّ الحوثيون هجمات بطائرات مُسيّرة على بنى تحتية يمنية حيوية. إن العقيدة الإقليمية الجديدة للسعودية واضحة: تهدئة، لا تصعيد"، وفق التحليل.

 

وزاد "لكن هذه العقيدة لا تُجدي نفعًا إلا إذا كان العدو يُشاركها هذا الهدف. أما الحوثيون، فلا. لقد عرقلوا مفاوضات السلام، وفرضوا حظرًا نفطيًا على اليمن، واستمروا في تهريب الأسلحة المتطورة - بما في ذلك مكونات الصواريخ - من إيران".

 

والأسوأ من ذلك، يذكر التحليل أن الحوثيين وسعوا نطاق عدوانهم بعد أن هاجمت حماس إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. أطلقوا صواريخ على إسرائيل، واختطفوا سفينة "جالاكسي ليدر" وطاقمها المكون من 25 شخصًا، وشنوا أكثر من 100 هجوم على سفن تجارية. بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويناير/كانون الثاني 2025، أطلقوا مئات القذائف على إسرائيل - كل ذلك في الوقت الذي كانوا يتمتعون فيه بهدنتهم مع المملكة العربية السعودية ويعززون قدراتهم.

 

وقالت المجلة الأمريكية "هذه هي التكلفة الحقيقية لـ"خفض التصعيد مهما كلف الأمر". إنها تُرسل رسالة مفادها أن العنف يُثمر، وأن انتهاك وقف إطلاق النار مع أقوى جيش في العالم لا عواقب حقيقية.

 

واستدركت "يعلم الحوثيون أنه ما داموا يُقدمون ضمانات غامضة، فإن الولايات المتحدة ستتردد في اتخاذ إجراء حاسم".

 

وخلصت مجلة "ناشيونال إنترست" بالقول إلى أن يؤمن الحوثيون بوجود ثمن حقيقي لعدوانهم - ثمنٌ في العقوبات، وفي التكاليف العسكرية، وفي العزلة الدبلوماسية - سيواصلون نهجهم في الحرب. ينبغي أن تُكتسب وقفات إطلاق النار، لا أن تُمنح. والصفقات مع الإرهابيين ليست صفقاتٍ على الإطلاق".

 

 

 


مقالات مشابهة

  • مسؤول أميركي يدلي بتصريح بشأن تطبيق الرسوم الجمركية
  • وزارة الصحة تبحث إعادة تفعيل مصنع «الرابطة» للمواد الأولية
  • تقليص الرسوم الجمركية وفتح الأسواق أمام السلع الأمريكية| تفاصيل
  • الكشف عن لجنة سرية بقيادة شقيق الشرع لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري
  • وفاة عملاق المصارعة الأمريكي الذي أسر قلوب الملايين.. ترامب: فقدنا رمز القوة والقلب الكبير
  • وزير التجارة بكوريا الجنوبية يناقش مع نظيره الأمريكي التعريفات الجمركية
  • تصريح محافظ حلب المهندس عزام الغريب لـ سانا حول أهمية المنتدى الاستثماري السوري السعودي في مشاريع إعادة الإعمار
  • ويتكوف يسحب الوفد الأمريكي من مفاوضات الدوحة.. سندرس خيارات بديلة لإعادة الأسرى
  • ويتكوف يسحب الوفد الأمريكي من مفاوضات الدوحة.. سندرس خيارات جديدة لإعادة الأسرى
  • تحليل ينتقد النهج الأمريكي تجاه الحوثيين.. يستغلون كل هدنة لإعادة التسلح والعودة لساحة المعركة أقوى (ترجمة خاصة)