التفكيكية والبعد الصوفي في النص الروائي لروايات الطيب صالح (2)
تاريخ النشر: 10th, April 2025 GMT
[email protected]
التفكيكية والبعد الصوفي في النص الروائي لروايات الطيب صالح (2)
التناص : حفريات البعدالصوفي والأولياء الصالحين
دكتورة سامية عباس كرجويل
أكاديمي -باحث- وناقد
ديباجة
"ياقوت العرش
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم ياخذ منها
ماتعطيه على استحيا
والغافل من ظن الأشياء هي الاشياء!
( الفيتوري:ياقوت العرش)
بالوقوف على نشأة الطيب صالح الريفية في شمال السودان وعلى ضفاف النيل العامر بأهل الطرق الصوفية (12) والاعتقاد في كراماتهم ، مع قراءته القران شكلت قاعدة دينية صلبة ومنبع لما جادت بة قريحته من بعد صوفي طفى على سطح النص الروائ فعكس التناص البين في النص الروائ القائم على أساس مفاهيم وردت في الآيات القرانية مما اكسب الديالوج بعدا دينيا فجاءت العبارة في ظاهرها بسيطة اللغة ولكنها حبلى بالمضامين ذات البعد الديني ، وقد كثر التناص في رواياته: " نخلة على جدول"، "وَدُومَة ود حامد" ، "ضو البيت ( بندر شاة).
التناص والبعد الصوفي في النص الروائي
من بين معاني التناص هو الإشارة الضمنية الى ما ورد في القران الكريم والحديث. ونجد ان الطيب صالح قد استخدمة في كثير من المواضع في النص الروائ. ففي روايته ' ضو البيت-بندر شاه-، عندما نادى 'شيخ نصر الله ود حبيب بصوت عالي ' بعد لحظات تجلي وغيبة روحانية واتصال بعالم الغيبيات قد اوحى اليه باسم "بلال " وبعودة الروح من عالم الأسرار ومايخفية الباطن منها الى العالم الظاهر نادى:" إلينا يابلال ...إلينا يابلال" ووسط دهشة القوم الجالسين أمامه اذا ب " حسن ود عيسى ود ضو البيت " مجيبا: " لبيك......لبيك" وهذا ما يردده الحجاج وهم في ارفع حالات الطهر والنقاء الروحي استجابة لأقدس مناداة من المولى عزه وجله وهم يؤدون مناسك الحج.
وهم يعبرون الى مكة عن طريق السودان قادمون عن طريق "درب الأربعين " من غرب افريقيا.
" يفتح الله" والبعد الصوفي في النص الروائ
عبارة مفتاحية /مفصلية وبالتأمل والتفكر فيها فهي حبلى بالامل والثقة في ان يفتح الله ابواب اليسر للانتقال من العسر الى الفرج.. وفي رواية " نخلة على الجدول" كثر فيها التناص من القران الكريم في إشارة الى تقلب الزمان وتغيير الأحوال من حال البؤس الى حال الترف، ثم الى حال البؤس مرة اخرى ثم الفرج ، حيث عكس الراوي كيف وان الدنيا قاسية عندما تكشر عن نابها الأزرق وجهها القمئ. كان محجوب يكابد شظف العيش والفاقة وعندما رمى ابن عمه " اسماعيل" شتلة لنخلة معتقدا انها غير صالحه ، التقطها محجوب وشتلها بالقرب من الجدول متعشم في الله خيرا بان تنمو ويشتد عودها وعندما تحقق حلمة ونمت وصارت شامخة باسقة وأثمرت جلبت له الخير كلة . وبعد سنتين من زواجه صارت الحياة مترفة كانما استجاب الله لدعائه عندما شق الارض وغرس الشتلة على حافة الجدول وتلا آيات من القران ، وقليل من ماء وضوء والده تفاؤلا وتيمنا بالخير ،وعندما أثمرت النخلة وكانت اول شئ يمتلكه في حياتة " وسارت الحياة رغدة كانما استجاب الله لدعائه يوم شق في الارض على حافة الجدول وغرس النخلة" . ففي استجابة الدعاء إشارة الى قوله تعالى: " اذا سالك عبادي عني فأنا قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ( 14) . وبعد سنين من زواجه اشترى عجلة فصارت جميلة لها غرة في جبينها تجر الساقية وتدر اللبن وظهرت عليه مظاهر الدعة والترف وتغير سلوكه الى سلوك المترفين . ولما لم يدوم الحال وتبددت امواله ، ويبس الزرع والضرع، وشحت حتى مياه النيل، بتسأل الراوي هل هي نبوءة " الشيخ ود دوليب تحققت؟ قد أنذر الناس في يوم من الأيام انه سياتي عليهم يوم يصير فيه اللبن كثيرا تافها مثل الماء وتصير كيلة الذرة بقرشين، ويصبح ثمن النعجة ريالين. لكن الناس كدابهم أبدا سيضيقون بهذا الخير، وسينهمكون في الغي وينسون الله، فيأخذهم الله بذنوبهم." . وفي هذا إشارة الى قوله تعالى في محكم التنزيل الكريم :" كداب ال فرعون واللذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب. (15) . وفي هذة النبوءة تماشيا مع رؤية العزيز حاكم مصر والتي فسرها سيدنا يوسف عليه السلام لتكون له شفيعا فيخرج من السجن منتصرا ساحقا الكيد ويتبوء مكانة عالية وليتحكم في الكيل ، وقد ذكرت في القرا ن الكريم :" وقال الملك أني ارى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخرى يابسات يا ايها المُلا أفتوني في رؤياي ان كُنتُم للرؤى تعبرون " (16 ) . وعندما أدبرت الدنيا عن محجوب ليرى وجهها الأغبر ، ضاقت ثم ضاقت وعان من الفاقة وشظف العيش مضاف اليها هجرة ابنه الوحيد " حسن" وهو احوج ما يكون الى ساعده وقد بلغ من الكبر عتيه، ولم يبقى أمامه من حيلة فراودته فكرة ان يبيع النخلة وبينما الشاري امامة يمتطي حماره منتظرا اجابة سرح بخياله بعيدا يستعيد ويستحضرالذكريات لايام الرخاء ، وقطع علية سيل الذكريات صوت صاحب الحمار الذي يرغب في شراء النخلة. وعاد الى الواقع بعينين مترقرقين ودمعة حبيسة ليقول لا ارغب في بيع النخلة قائلا:" يفتح الله.... انا تمرتي ما ببيعها" ، يشير الراوي الى ان " يفتح الله" قادته الى التفكير في عمق معناها ، فهي في سورة الفتح ، قال تعالى في محكم التنزيل : " انا فتحنا لك فتحا مبينا"(17 ) وفي سورة النصر ، قال تعالي :" اذا جاء نصر الله وألفتح " (18) ولهذا فإنها عبارة مفتاحية لمن اثقلت كاهلة اعباء الحياة ، ولمن كابد العسر والضيق ، وهي عبارة حبلى بالتوكل على الله والامل في ان يفرجها الله ويفتح أبواب الرزق. وهو على تلك الحاله من الياس اذا بطفلته تركض نحوه لتزف اليه البشرى وخبر ان ' حسن ' 'قد أرسل له رسالة مع قادم من مصر. سلمه القادم جوابا من حسن ومعه 30 جنيها ، وملابس وقال له ان حسن يطلب منه العفو . فنظر الى نخلته ورأى جريدها تتلاعب بة نسمات الشمال فخيل اليه ان سعف النخلة " يرتجف مسبحا قائلا " يفتح الله ...يفتح الله"
فضاء الظاهر وأسرار الباطن :الأحلام والبعد الصوفي في النص الرؤي
ان الرؤى في الأحلام يكمن في باطنها قدر قليل من الحقيقة التي يكرم بها الله عبده الرائي وقد ذكرت في سورة الانفال قال تعالى: "اذ يريكم الله في منامكم قليلا " (19) وفي رواية "دومة ود حامد" كثر التناص من خلال التعبير عن الرؤى في الأحلام وتفسيرها ذلك مرده الى الإشارة الى سورة يوسف علية السلام كمفسر للرؤى في الأحلام(20). كما وان كل الأحلام الوارده في النص الروائ حبلى بالاعتقاد في كرامات الاولياء والصالحين . ذكر الراوي في روايته " دومة ود حامد" ان محجوب قال لضيفه :" اجلس الى اهل هذه البلد واستمع اليهم يقصون احلامهم. يصحو الرجل من نومه فيقص على جاره انه رأى نفسه في ارض رملية واسعة رملها ابيض كلجين الفضة مشى فيها فكانت رجلاه تغوصان فيقتلعهما بصعوبة. ومشى ومشى حتى لحقه الظمأ وبلغ منه الجوع، والرمل لا ينتهي عند حد . ثم صعد تلا،فلما بلغ قمته رأى غابة كثة من الدوم في وسطها دومة- دومة طويلة، بقية الدوم بالنسبة اليها كقطيع الماعز بينهن بعير. وانحدر الرجل من التل وبعدها وجد كأن الارض تطوي له. فما هي الا خطوة وخطوة وخطوة، حتى وجد نفسه تحت دومة ود حامد. ووجد إناء فية لبن رغوته معقودة علية وكأنه حلب لساعته، فشرب منه حتى ارتوى ولم ينقص منه شئ. فيقول له جاره:" أبشر بالفرج بعد الشدة". ركز الطيب صالح على الرؤى في الأحلام التي لم تخلو من الاولياء والصالحين ولسان حاله يؤكد اعتقاد الأهالي في كرامات الصالحين اللذين ذكروا في طبقات ود ضيف الله.
المصادر:
(12)محمد، ضيف الله محمد (. 1992). طبقات ود ضيف الله. الناشر المكتبة الثقافية- بيروت- لبنان
(13a)سورة النجم : (اية 11
(13b ) سورة الحج (الاية 46
(13c) عامر، توفيق( 2017 )." "في نظرية المعرفة عند ابن عربي" ص 101-120.
(14) القران الكريم سورة يوسف (الاية (43)
( 15 ) القران الكريم سورة الفتح( الاية 1)
(16 ) القران الكريم سورة النصر( الاية 1)
(17القران الكريم سورة يوسف ( الآية 46-49)
(18سورة الفتح( الاية1 )
(19)سورة الانفال ( الاية 43)
(20) سورة يوسف ( الاية 54)
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القران الکریم سورة فی الأحلام الطیب صالح سورة یوسف یفتح الله
إقرأ أيضاً:
وداعا أيها الطيب
سلطان بن محمد القاسمي
يأتينا الفقد دائما بطريقة لا نتقن الرد عليها.. لا يقول: استعدوا، ولا يمنحنا مقدمات نهيئ بها أنفسنا للحزن، بل يدخل حياتنا بغتة ثم يغير معالمها.. يسقط أسماء من قوائم الوجود ويضعها في خانة الذكرى، وكأننا نستيقظ على أنفسنا نعيد ترتيب الذاكرة بالقوة.
ولأننا لا نتوقع الفقد من الأشخاص الطيبين، فإننا حين نفقدهم لا نحزن عليهم فقط بل نرتبك ونفقد توازننا معهم. لا نستوعب أنهم غادروا. لا نصدق أنهم لن يعودوا.
مات إدريس...
نعم، أكتبها الآن بعد أن مر وقت كاف على الخبر، لكنني ما زلت لا أقولها دون أن تسبقها في داخلي وقفة.
لم يكن مجرد صديق عابر، بل كان طيفا من الطمأنينة، أحد أولئك الذين يشعرونك أن في العالم أناسا خلقوا فقط ليجعلوه أكثر احتمالا.
ثلاثة فصول دراسية جمعتني به في كلية مزون، لكنها كانت كافية لأدرك أنه ليس عابرا، ولا مجرد اسم في قائمة الزملاء، كان يحمل في صوته دفئا، وفي حضوره سكينة، وفي تصرفاته قدرا عاليا من الذوق الذي لا يُدرّس.
الذين عرفوه عن قرب سيتفقون معي: إدريس لم يكن يتكلف في طيبته، لم يكن يتودد ليُحب، بل كان نقيا بطبعه، مريحا لمن حوله، ودودا دون تزلف، كريم الروح دون ضجيج، كان يملك القدرة النادرة على الحضور بخفة، والغياب بثقل.
كنت ألاحظ كيف يعامل الجميع بذات الروح، لا يفرق بين أحد، ولا يُظهر ميلا أو نفورا، كان يحسن الظن، حتى فيمن لا يحسن إليه، كان يسامح تلقائيا، ويتجاوز كأنه لا يعرف الحقد أصلا.
وذات يوم، وبينما كنا نراجع بعض دروسنا، التفتّ إليه وسألته ممازحا: (إدريس، بتخلص دراسة، وبعدين؟).
فرد ببساطة خالية من التعقيد: (أحلم أن أكون ضابطا، وأنتظر الشهادة بفارغ الصبر، كل شيء يبدأ منها).
كان الحلم يسكن صوته، والصدق يملأ عينيه، لم يكن يقولها من باب الأمنيات العائمة، بل من عمق إيمان حقيقي أنه خُلق لهذا الطريق. كان يرى في الزي العسكري وقارا، وفي خدمة الوطن غاية، وكان ينتظر اللحظة التي يُنادى فيها باسمه في طابور الشرف، مرفوع الرأس، مزدانا بالنجمة.
لكنه غادر قبل ذلك الطابور، رحل إدريس قبل أن تتحقق الأمنية، وقبل أن يرى في عيون والدته فرحة التخرج، وقبل أن يثبت لذاته أنه بلغ ما كان يحلم به.
حين وصلني خبر وفاته، لم أستوعب، ليس لأن الموت بعيد، بل لأن إدريس بالذات كان قريبا جدا من الحياة.
كنا نظن أن أمامه الطريق، وأن بسمته ستمتد معنا لسنوات، وأن الحديث عن مستقبله ما زال طازجا، ما زال مفتوحا، ما زال ينتظر.
في لحظة واحدة، بات حلمه هو الذي يُكتب عنه، لا هو، وبات الدعاء له، هو الطريق الوحيد الذي يوصلنا إليه.
إن إدريس لم يكن شخصا عاديا، كان محبوبا بالفطرة، رقيقا دون ضعف، كريما دون استعراض.
لم يكن مجرد صاحب وجه بشوش أو أخلاق راقية، بل كان نموذجا حيّا لما تعنيه الكلمة حين تقول: رجل خدوم.
ورغم أننا لم نكن نعمل في الجهة نفسها، إلا أنني كنت -بين الحين والآخر- أحتاج إلى إنجاز بعض المعاملات في مكان عمله، وما إن أخبره، حتى يبادر من تلقاء نفسه، دون أن يشعرني بثقل الطلب، أو يطلب توضيحا، أو يعتذر بانشغال.
كان يتعامل مع طلبي كأنه التزام شخصي، ينهي كل شيء بدقة وسرعة، يتابع المعاملة بنفسه، ويعود إليَّ مبتسما كعادته قائلا: تمت، لا تشيل هم
لم يكن ذلك يدهشني وحدي، بل كنت أراه يعامل الجميع بالطريقة ذاتها: خدمة بلا تكلف، ومساعدة بلا مقابل، وبشاشة لا تتغير.
كان إذا حضر في مكانه، شعر الجميع بأن الأمور ستسير كما ينبغي،
وإذا غاب، افتقد الناس تلك الروح التي كانت تحب أن تنجز، لا من باب الواجب الوظيفي، بل من باب النبل الإنساني.
وحين رحل، لم يرحل وحده، بل رحلت معه طمأنينة كنا نراها تتجسد في شخص.
رحلت تلك الابتسامة التي كنّا نلتفت إليها لنطمئن، ورحلت عبارات المجاملة التي لم تكن منه مجاملة، بل خلقًا.
تأملت بعد وفاته، كما يفعل الإنسان كلما ودع أحدا لا يعوض.
عدت أفتش في معنى الفقد، ومعنى الزمن، ومعنى الأعوام التي نعدها وكأنها مُلكنا.
هكذا، فالأيام هي تكوينة الأعوام، والأعوام هي نسيج أعمارنا، وفي كل عام يمضي، نخسر شيئا: مالًا جمعناه، أو رفيقا رافقناه، أو حلما كنا ننسجه سويا ثم انقطع.
وقد نكسب أيضا: رفقة جديدة، معلومة، أو ذكرى تبقى، لكن خسارة النبلاء من أمثال إدريس، لا يُعوّضها شيء.
وحين تمضي الأعوام، لا تعيدهم الأيام، ولا يرجع الزمن إلا في الصور، أو الذكرى، أو على شكل دعاء.
اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، واجعل الشهادة التي لم تُسلَّم له في الدنيا وساما في الآخرة، واجعل حلمه الذي لم يتحقق أجرا، اللهم بلغه منازل الصالحين، وارض عنه، واغفر له، واربط على قلوب أهله وزملائه ومحبيه، اللهم اجعل من كل لحظة طيبة عاشها بيننا نورا في قبره، وذكرا في السماء، وشهادة في الملأ الأعلى.
كان إدريس يحلم أن ينادى باسمه في طابور التخرج فناداه القدر أولا، فناديناه نحن في دعائنا، وكلنا يقين أنه قد سمعنا.
رابط مختصر