أكثر ما يمكن وصفه بالهشاشة في أركان النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، هو التوازن بين الردع والاندفاع، بين العقل والمواجهة، بين النووي كقوة ردع والنووي كأداة انتحار جماعي. وإذا كان العالم يعيش تداعيات هذه اللحظة، منذ فبراير 2022 فإن منطقة الشرق الأوسط ما فتئت تعيش تجلياتها على الدوام وترقب ذرواتها وكأنها تقرب ذروة وباء تنتظر عبوره إلى الأبد.

وفي هذا المشهد الملبد بالتهديدات الإسرائيلية والضغوطات الأمريكية التي وصلت إلى ذروة التصعيد والهدوء الإيراني رغم شحن العقوبات والتصعيد العسكري رأت سلطنة عُمان أن مسؤوليتها التاريخية في المنطقة تحتم عليها العمل بعمق في سبيل إعادة ترتيب قواعد الاشتباك، لا بالحرب ولكن بالكلمة، لا بالاستعراض ولكن بالثقة المكتسبة من السياق التاريخي والحضاري للأمة العمانية.

ليس من المبالغة القول إن ما جرى في مسقط السبت هو لحظة تاريخية تؤسس لما يمكن تسميته بـ«إعادة بعث الدبلوماسية» في زمن الحرب الباردة الجديدة، وفي اللحظة الأمريكية التي لا يبدو للدبلوماسية بمفهومها الكلاسيكي العريق أي مكان أو معنى. ولذلك فإن ما قامت به سلطنة عُمان من جمع ممثلين عن الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وإن كان بوساطة غير مباشرة، هو بشكل أو بآخر «كسر للجمود التاريخي» في أخطر ملف نووي غير محسوم منذ انهيار الاتفاق في 2018، و«ترميم لمعنى الدبلوماسية» في أكثر لحظاتها تبعثرا.

كان يمكن أن يفرط المشهد إلى مواجهة مفتوحة، تُطلق شرارتها من غزة أو من الضاحية الجنوبية أو من قبالة مضيق هرمز أو من تضليل إعلامي بحجم قنبلة تطلقها إسرائيل لتبرير ضربة استباقية.. لكن عُمان، فعلت ما يشبه المعجزة الهادئة حيث أعادت واشنطن وطهران إلى الطاولة، وأزالت الغبار عن المسار السياسي الذي بدا مستحيلا، وتحمّلت قبيل هذه العودة حملة تحريض موجهة بعناية من أجل تغيير مسار المفاوضات إلى مكان فرص الفشل فيه أكبر بكثير من فرص النجاح.

الدول الناجحة، دائما، هي التي تحسن استخدام قيمها ومبادئها ومؤسساتها، وهذا ما فعلته عُمان بالضبط؛ ففي لحظة أقرب إلى ذروة الفوضى وحافة النار صنعت عُمان اللحظة المناسبة للتفكير في الحل من أجل تجنيب المنطقة امتداد ألهبة نار جديدة يختلط فيها السياسي بالاقتصادي والثقافي بالتاريخي وتعود موجات التطرف للعصف بالمنطقة، وكل شيء مهيأ لذلك، وتدخل المنطقة في انغلاق جيوسياسي كان يمكن تجنبه بشيء من العقل والحكمة.

تملك عُمان الكثير من المؤهلات التي تجعلها قادرة على جعل الأطراف المتخالفة تنصت لها وتقتفي أطروحاتها، وأول تلك المؤهلات تاريخها من الحياد الذي لا يعني اللاموقف، ولكن يعني بناء موقف يُؤمِن بالسلام العادل للجميع، وثاني تلك المؤهلات هي مصداقيتها لدى كل الأطراف، إيران تثق، وأمريكا تُصغي، والمنطقة تعرف أن مسقط لا تسعى لمكانة بل لوظيفة تاريخية. ثم إن عُمان تدرك بشكل عميق أن الحرب في زمن التوازنات الهشة لا تنتصر فيها الدول، بل تنهار فيها الحضارات.

ورغم أن الأمر لا يمكن فهمه على أنه نزهة دبلوماسية إن لم تنته بالسلام ستعود بالتفاهم لكن عمان، أيضا، تدرك ذلك، ولذلك قدمت للطرفين فضاء تفاوض بصيغة قابلة لكل الاحتمالات لكن لا أحد يهزم في هذه المنطقة، والمواقف المتطرفة يمكن أن تقابلها لغة العقل والحكمة.

وقيمة النظم السياسية، كما يقول المفكرون، لا تُستمد من القوة فقط ولكن من الشرعية القادمة من القدرة على توفير بدائل سلمية دائمة. وبهذا المعنى يمكن أن نفهم أن سلطنة عُمان لم تكن مجرد وسيط في هذه المفاوضات إنما كانت، وهذا مهم جدا، دولة تُنتج شرعية جديدة في عالم مضطرب ومتآكل القيم والمبادئ. والدولة التي تستطيع ترتيب لحظة تاريخية بهذا الحجم توقف انفجارا عظيما، وتعيد اختبار صدقية النظام العالمي، دولة قوية وعميقة وعظيمة، وعلى العالم أن يتعلم منها الطريقة الصحيحة لممارسة النفوذ الأخلاقي لا التهديد العسكري.

وإذا كان أساتذة السياسة في الجامعات الكبرى يبحثون عن لحظة مفصلية في تاريخ ما بعد الاتفاق النووي الأول، فإن ما جرى في 12 أبريل 2025 وفي مسقط بالتحديد يستحق أن يُدرَّس كاختبار لجدوى الدبلوماسية، وقوة الهدوء، وفلسفة اللاصراخ في زمن الخفة التي لا تحتمل. وسيُكتب في دفاتر التاريخ أن مدينة على ضفاف الخليج، حين صمتت، بدأت في إنقاذ العالم من نفسه ومن شروره الدفينة.

جريدة عمان

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

روسيا: إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك أسلحة نووية

وجهت روسيا انتقادات حادة للولايات المتحدة وإسرائيل عقب الهجمات التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، معتبرة أن إسرائيل هي "الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك أسلحة نووية"، بينما يتم قصف إيران التي لا تمتلك مثل هذه الأسلحة.

 جاء ذلك على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في تصريحات نشرتها عبر قناتها الرسمية على تطبيق "تلجرام".

إطلاق موجة صواريخ جديدة من إيران باتجاه إسرائيلالصين: هجوم أمريكا على إيران دمر مصداقيتها ويهدد بانفجار إقليميإيران تعلن اعتقال عناصر استخبارات أوكرانيين بتهمة التخطيط لهجمات واسعةأولمرت: الضربات الأمريكية على إيران لن تؤدي إلى انهيارهاإسرائيل تفتح باب وقف إطلاق النار مع إيران.. بشروطمندوب إسرائيل: الولايات المتحدة أنقذت العالم بعد ضرب إيرانترامب يعلن عودة قاذفات بي-2 إلى قواعدها بعد تنفيذ ضربات إيرانترامب يطالب بتغيير النظام في إيرانأمريكا تبرر ضرب إيران أمام مجلس الأمن: لحماية إسرائيل ومنع التهديد النوويوصمة في تاريخ الأمم المتحدة..إيران تتهم أمريكا وإسرائيل بمجلس الأمن وتتوعد بالردإسرائيل ترفض جهود نزع السلاح النووي

وقالت زاخاروفا: "حتى اليوم، الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية هي إسرائيل، التي تتجاهل بشكل ممنهج المبادرات الهادفة إلى إنشاء منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط". وأشارت إلى أن إسرائيل، بالتعاون مع الولايات المتحدة، تقصف الآن إيران التي لا تمتلك أسلحة نووية.

وأضافت أن إسرائيل لم تكتفِ بامتلاك الأسلحة النووية فحسب، بل إنها أيضًا تقف عقبة أمام جهود المجتمع الدولي الرامية إلى إخلاء الشرق الأوسط من هذه الأسلحة. واعتبرت المتحدثة الروسية أن ما يجري هو مثال صارخ على ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية المتعلقة بالأمن ونزع السلاح.

إطلاق موجة صواريخ جديدة من إيران باتجاه إسرائيلالصين: هجوم أمريكا على إيران دمر مصداقيتها ويهدد بانفجار إقليميإيران تعلن اعتقال عناصر استخبارات أوكرانيين بتهمة التخطيط لهجمات واسعةأولمرت: الضربات الأمريكية على إيران لن تؤدي إلى انهيارهاإسرائيل تفتح باب وقف إطلاق النار مع إيران.. بشروطمندوب إسرائيل: الولايات المتحدة أنقذت العالم بعد ضرب إيرانترامب يعلن عودة قاذفات بي-2 إلى قواعدها بعد تنفيذ ضربات إيرانترامب يطالب بتغيير النظام في إيرانأمريكا تبرر ضرب إيران أمام مجلس الأمن: لحماية إسرائيل ومنع التهديد النوويوصمة في تاريخ الأمم المتحدة..إيران تتهم أمريكا وإسرائيل بمجلس الأمن وتتوعد بالردانتقاد للوكالة الدولية للطاقة الذرية

وفي سياق متصل، هاجمت زاخاروفا تصريحات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل جروسي، الذي دعا إلى ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات والسماح لمفتشي الوكالة بالوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية. وقالت المتحدثة الروسية: "الصواريخ أصابت طاولة المفاوضات اليوم. كان من الصعب عدم تمييز مصدر إطلاقها"، في إشارة واضحة إلى إسرائيل والولايات المتحدة.

إطلاق موجة صواريخ جديدة من إيران باتجاه إسرائيلالصين: هجوم أمريكا على إيران دمر مصداقيتها ويهدد بانفجار إقليميإيران تعلن اعتقال عناصر استخبارات أوكرانيين بتهمة التخطيط لهجمات واسعةأولمرت: الضربات الأمريكية على إيران لن تؤدي إلى انهيارهاإسرائيل تفتح باب وقف إطلاق النار مع إيران.. بشروطمندوب إسرائيل: الولايات المتحدة أنقذت العالم بعد ضرب إيرانترامب يعلن عودة قاذفات بي-2 إلى قواعدها بعد تنفيذ ضربات إيرانترامب يطالب بتغيير النظام في إيرانأمريكا تبرر ضرب إيران أمام مجلس الأمن: لحماية إسرائيل ومنع التهديد النوويوصمة في تاريخ الأمم المتحدة..إيران تتهم أمريكا وإسرائيل بمجلس الأمن وتتوعد بالرد

واعتبرت زاخاروفا أن تصريحات غروسي كانت تفتقر إلى الوضوح اللازم، وقالت: "لماذا مرة أخرى يتم تنميق البيانات وتجريدها من أي إشارة واضحة؟"، مطالبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية باتخاذ موقف أكثر حزمًا تجاه الاعتداءات على إيران ومواقعها النووية السلمية.

الموقف الروسي 

الموقف الروسي يأتي في أعقاب جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، وهي الضربات التي وصفتها طهران بأنها "عدوان سافر وانتهاك صارخ للقانون الدولي"، بينما قالت واشنطن إنها "جاءت لحماية إسرائيل ومنع إيران من الحصول على سلاح نووي".

وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش قد دعا في وقت سابق إلى "وقف فوري للتصعيد" محذرًا من خطر خروج الأوضاع عن السيطرة في الشرق الأوسط.

في الوقت نفسه، تواصل إيران الرد على الهجمات من خلال إطلاق موجات من الصواريخ تجاه إسرائيل، فيما تتصاعد المخاوف الدولية من توسع دائرة النزاع بشكل قد يجر أطرافًا إقليمية ودولية أخرى إلى أتون مواجهة عسكرية شاملة في المنطقة.

طباعة شارك زاخاروفا روسيا إسرائيل إيران أمريكا ترامب

مقالات مشابهة

  • حزب الاتحاد: يجب تحصين المنطقة من سيناريوهات الانفجار التي تهدد الشرق الأوسط
  • طيار مصري يروي لحظة غلق المجال الجوي على الطائرات القطرية
  • روسيا: إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك أسلحة نووية
  • قصف منشآت إيران بطائرات B‑2:لحظة الانفصال عن المنطقة الرمادية
  • ماكرون يحذر من تصعيد لا يمكن السيطرة عليه في الشرق الأوسط
  • العراق ودوره في صراعات المنطقة بين التوازن والتجاذب
  • إيران تتعهد بالرد.. ما هي المصالح الأمريكية التي يُمكن استهدافها؟
  • الأزهر: استمرار العدوان على إيران عربدة تجر المنطقة نحو الانفجار
  • الضّب العربي.. من الكائنات البرية التي تسهم في التوازن البيئي بمنطقة الحدود الشمالية
  • مصر تُحذر من “الانفجار” في الشرق الأوسط وتدعو لوقف العدوان الإسرائيلي