الفانتازيا وتاريخ النكسة.. صلاة القلق تفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية
تاريخ النشر: 25th, April 2025 GMT
فاز الروائي المصري محمد سمير ندا بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الـ18 الخميس عن روايته "صلاة القلق" الصادرة عن منشورات ميسكلياني، والمكتوبة بقالب سردي جريء يمزج الفانتازيا بالتاريخ، ويعيد مساءلة نكسة 1967 وما تلاها من "وهم السيادة" وزمن الشعارات.
وقال سمير ندا في كلمة مسجلة قبل إعلان النتيجة "صلاة القلق هي روايتي الثالثة، هي تتحدث عن فكرة اختطاف العقول، وفكرة تشكيل الوعي الجمعي لمجموعة من البشر بطريقة مغايرة للتاريخ".
وأضاف "هؤلاء الأشخاص، وكأنما سُرق منهم الزمن الحقيقي وعاشوا في زمن مواز.. هل كان هذا لمصلحة هذه المجموعة من الناس أم خلاف ذلك؟ هذا ما تكشف عنه الرواية وشخصياتها".
وقالت الأكاديمية المصرية منى بيكر رئيسة لجنة تحكيم الجائزة لهذه الدورة: "هي رواية يتردد صداها في نفس القارئ، وتوقظه على أسئلة وجودية ملحة، تمزج بين تعدد الأصوات والسرد الرمزي بلغة شعرية آسرة تجعل من القراءة تجربة حسية يتقاطع فيها البوح مع الصمت والحقيقة مع الوهم".
وأضافت: "رواية لها أبعاد تتخطى الجغرافيا وتلامس الإنسانية والمشترك، رواية اختارها جميع أعضاء لجنة التحكيم بالإجماع".
عام 1977، في قلب صعيد مصر، تقع قرية "نجع المناسي" المعزولة عن العالم، محاطة بما يعتقد أهلها أنه حقل ألغام لا يُمكن عبوره، يفصلهم عن المجهول. لا يعرف سكان النجع شيئا عن الخارج سوى أن هناك حربا مستمرة منذ نكسة يونيو/حزيران 1967، وأن العدو الإسرائيلي يحاول التوغل عبر قريتهم، التي يُنظر إليها كخط الدفاع الأول على الحدود.
إعلانالنافذة الوحيدة التي تطل على العالم الخارجي هي "خليل الخوجة"، ممثل السلطة، التاجر الوحيد، وناشر صحيفة محلية بعنوان "صوت الحرب". يحتكر الخوجة كل شيء: المعلومة، والسلعة، وحتى مصير أبناء القرية عبر إشرافه على عمليات التجنيد في الحرب.
ذات يوم، يهوي على القرية جسم غامض، نيزك؟ قمر صناعي؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين، يعقبه وباء غريب يشوّه ملامح سكان النجع، بمن فيهم الأطفال حديثو الولادة، ووجد القرويون أنفسهم وقد تحوّلت رؤوسهم إلى رؤوس سلاحف، وتبدأ يد مجهولة في كتابة خطايا الناس على الجدران، بينما يبتدع إمام المسجد "صلاة جديدة" سماها "صلاة القلق"، باعتبارها طقسا روحيا يُبشّر بالخلاص من المحنة والنجاة من الوباء.
8 شخصيات مختلفة تتناوب على رواية الحدث، كل منها تحمل زاويتها الخاصة، وذكرياتها، وشكوكها. معا، تشكّل هذه الأصوات فسيفساء حكائية مدهشة تُعيد تركيب السرد وتفككه في آن.
تجربة إبداعيةفي حواره السابق مع الجزيرة نت قال ندا، الذي نشأ في بيت يحتفي بالأدب والثقافة: "في طرابلس، كانت أمي تقرأ علينا قبل النوم كتب محمد حسنين هيكل… خريف الغضب وسنوات الغليان.. وكانت مكتبة أبي هائلة تحوي المثير من أمهات الكتب.. تلك كانت حكايات طفولتي.. كنت أراقب طقوس الكتابة لدى والدي، وهو يُملي، وأمي تكتب… تلك كانت بيئتي".
تجربته الإبداعية، المتأثرة بتنقلاته بين مدن مثل بغداد وطرابلس، انعكست في أعماله السابقة، خاصة روايته "بوح الجدران"، التي جاءت كاستعارة أدبية لحياة والده، بينما شكلت "صلاة القلق" تحررا من تلك الظلال، كما يقول: "صلاة القلق كُتبت في منأى عن ظل أبي… عشت مع شخصياتها لسنوات، وكان فراقهم مؤلما".
وعند سؤاله عن دور الروائي في مواجهة تزييف الوعي، يجيب ندا من دون مواربة: "دور الكاتب أن يُلقي بالحجارة في المياه الراكدة، لا ليحسم، بل ليوقظ". معتبرا "الكاتب لا يملك حلّ الأزمات، لكنه يملك أن يلفت النظر إلى مواضع القلق، كما حاولت في الرواية".
من الضروري أن يمتلك الكاتب الجرأة على إلقاء الحجارة في البحيرات الراكدة، هو لن يحل الأزمات العربية بكتابته، لكنه يلفت الانتباه، ويصوّب نظر القرّاء في موضع محدد يختاره لكتابته، مثل كيفية السيطرة على الوعي الجمعي لفئة من الناس كما جاء في صلاة القلق بصورة تمزج الفانتازيا بالتاريخ الموثّق، هذه وضعيّة شائعة في دول العالم الثالث، وقد سبقني بالكتابة عنها الكثير من عظماء الأدب عالميا وعربيا، لكنني حاولت إعادة طرح الأمر من خلال زاوية مختلفة، وبطريقة أتمنى أن يجدها القارئ مختلفة كما تمنّيت.
النكسة والنكبةوهو لا يتردد في ربط "صلاة القلق" بالواقع العربي المَعيش، إذ يرى أن النكسة لم تكن نهاية مرحلة، بل "أسلوب توكيد للنكبة"، وأن "جرح النكبة لم يندمل حتى يُقال إنه نُكئ مجددا… بل هو نزف دائم".
جرح النكبة، وجرح النكسة، والجراح الآخذة في الاتساع في هذه اللحظات، كلها لم تزل نازفة، النكبة ليست ندبة حتى تنكأ وتُحرّك وتُستعاد، هي نزف دائم منذ أكثر من 70 سنة، أما النكسة في رأيي فليست سوى أسلوب توكيد للنكبة، وإعلان مكتمل يرسّخ حدوثها، واستحالة إعادة الوضع لما كان عليه قبل مايو/أيار 1948
الرواية تبني عالمها عبر 8 أصوات روائية مختلفة، يروون جميعا الحدث ذاته من زوايا متباينة. تجربة تتطلب مهارة فنية عالية لضمان التمايز النفسي والفكري، وهو ما يعلّق عليه ندا قائلا: "كانت مغامرة كبيرة… نوّعت الأصوات فكريا أكثر من تنويعها لغويا، لأن لذلك تفسيرا داخل النص. الرهان كان على القارئ الصبور".
ويحضر صوت عبد الحليم حافظ بقوة في الرواية، لا كمجرد خلفية غنائية، بل كصوت يُجسّد المرحلة الناصرية، كما يوضح المؤلف: "عبد الحليم هو سفير تلك الحقبة العروبيّة… صوت آمن به الجيل واحتفى به. وكان موته موتا للصوت المعبّر عن المرحلة، أزاح الغمامة والغشاوة عن أبصار المُختطفة عقولهم، فكان ما كان".
إعلانافتتاحية الرواية التي تبدأ بجملة: "استيقظ الشيخ أيوب المنسي صباح اليوم، فلم يجد رأسه بين كتفيه"، أثارت مقارنات فورية مع كافكا وساراماغو، لكن ندا يرى أن روح جورج أورويل كانت الأشد حضورا، مع تركيز خاص على تزييف الوعي الجمعي: "الواقع العربي المرصود في الرواية كابوسيٌّ… ربما لا يكفي له كافكا وأورويل وساراماغو مجتمعين".
هذا الواقع العربي المرصود في زمن الرواية، ربما يعجز أورويل وكافكا وساراماغو مجتمعين عن الإحاطة بكابوسيّته. أردت لمفتتح الرواية أن يحيل القارئ إلى تصور رجل فقد رأسه المعتاد، بعدما استحالت كرأس السلحفاة بفعل الوباء الغامض، لم أشأ محاكاة شخصية جريجور سامسا، والقارئ أدرك ذلك منذ الصفحة الأولى.
ويشرح الوباء الغامض الذي يصيب القرويين بأنه "وباء القلق"، أما الوباء، كما يضيف، "فقد وُجد ليلخّص الوضع العربي آنذاك، فهو وباء القلق، الشعور بالخوف من الآخر، حالة اللايقين تجاه كل شيء، هو مزيج من مشاعر خبرها العرب عقودا من الزمن، وقد جاءت الرواية لتدعو القارئ إلى التخلص من هذا الوباء/القلق، من خلال استعادة الحق في قراءة التاريخ الفعلي، والتيقّن من ماهيّة الحقيقة".
وترشحت للجائزة هذا العام 124 رواية من 20 دولة وصلت 16 منها للقائمة الطويلة في يناير/كانون الثاني.
واختيرت 6 روايات للقائمة القصيرة في فبراير/شباط حصلت كل منها على مكافأة مالية قدرها 10 آلاف دولار. وتبلغ القيمة المالية للجائزة التي يرعاها مركز أبو ظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة في أبو ظبي 50 ألف دولار.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات صلاة القلق سمیر ندا
إقرأ أيضاً:
داء القلق
د. صالح بن ناصر القاسمي
ماذا عساه أن يواجه الإنسان وهو يبدأ مسيرته على وجه البسيطة؟ فمنذ أن تبدأ صرخته الأولى في فضاء الحياة، وهو يعيش حالة من الترقب والقلق، دائم الالتصاق بأمه التي يشعر معها بالأمان والاطمئنان. حيث يولد الإنسان وهو محمل بغرائز طبيعية، في مقدمتها حب الحياة، وإلا فما هو تفسير أن يمتلك الطفل ردة فعل مباشرة حين يسمع صوتًا غريبًا بالقرب منه؟ جميعنا لاحظنا ذلك مراراً وتكراراً مع أطفالنا، بل نعايشه بأنفسنا رغم أننا نمتلك رصيدًا من الأعوام، نخشى فيه على ذواتنا من أي تهديد خارجي، ونتفاعل بردة فعل تناسب الموقف المعاش.
ولا زلت أذكر، ونحن في مقاعد الدراسة الجامعية، أن أحد المدرسين ضرب بيده على الطاولة بينما كان يشرح لنا كيف أن الإنسان لديه ردة فعل طبيعية تجاه التهديدات الخارجية. فما كان منَّا إلا أن تحركنا تلقائيًا، وتملكنا الخوف، وكان ذلك مثالًا حيًّا لا تزال تفاصيله حاضرة في ذهني، كأنها حدثت للتو.
كثيرة هي الأشياء التي تجعل الإنسان يعيش داء القلق: الخوف من المستقبل، القلق بشأن تأمين المعاش، الخوف من تربية الأبناء، وغير ذلك الكثير من الهواجس. بل وأحيانًا يعيش الإنسان حالة من القلق والخوف من أمور لا يستطيع حتى أن يحدد مصدرها، فكثيرًا ما يخبرنا أصدقاؤنا أنهم يمرون بحالة قلق لا يعرفون سببها. وهذا ما يزيد من خطورة هذا الداء، أنه متسلل، لا يأتي من باب واضح، بل يتسلل من النوافذ الصغيرة المهملة في زوايا النفس.
ومع تدرج الإنسان في مراحل حياته، يبدأ الصراع مع العديد من الأدواء، في مقدمتها الأمراض الجسدية. ومع ذلك، فإن تلك الأوجاع غالبًا لا تجعله يعيش حالة من القلق الشديد، لأنه يشعر بأن لكل داء دواء، وأن هناك دائمًا أملًا في الشفاء. أما إذا أصيب الإنسان بداء القلق، وتمكن منه حتى تغلغل في نفسه، وسيطر على روحه وأفكاره، فهنا فقط تبدأ المأساة الحقيقية.
إذ إن أي داء يصيب الجسد، فإن الروح تسنده لتجاوز المرض، أما إذا أصيبت الروح، فإن الجسد حينها لا يقدم عونًا، بل يصبح عاجزًا، ويصيبه الوهن، ويغدو عرضةً للأمراض والانهيار. ولهذا، فإن الكثير من الدراسات الطبية الحديثة أكدت العلاقة الوثيقة بين الصحة النفسية والجسدية، فكل اضطراب في الأولى قد يُترجم في الثانية على شكل أمراض عضوية ملموسة.
ومن الملاحظ أيضًا أن الأمراض النفسية، وعلى رأسها داء القلق، أصبحت أكثر انتشارًا في المجتمعات المعاصرة. ويعود ذلك إلى نمط الحياة المتسارع وضغوطها، وصعوبة التأقلم معها، مما يؤدي إلى تجاوب مباشر وسريع مع كل مثير، فينتقل القلق ويتعمق في النفوس، ويتحول من شعور عابر إلى نمط تفكير مزمن.
ولا شك أن الأمر، في أوله وآخره، مرتبط بالحالة الإيمانية للإنسان. فمتى ما كان الإنسان قوي الإيمان، كان أقل عرضة للإصابة بداء القلق، لأنه موقن أن مصيره بيد الله، وأنه المدير والمسيّر لأحواله، وأن كل ما يصيبه ما هو إلا ابتلاء واختبار. كما قال تعالى:
"قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة: 51)
فالآية الكريمة وصفت حال المؤمنين الحقيقيين الذين تمكن الإيمان من نفوسهم. وهو خط الدفاع الأول الذي يحميهم من داء القلق. وفي الحديث الشريف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" (رواه الترمذي).
ولعل من أعظم الشواهد على صدق التوكل، ما وقع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الهجرة، عندما كان مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في غار ثور، وكانت قريش تلاحقهم، حتى وصلت إلى باب الغار، واقتربت الخُطى، فهتف أبو بكر: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!"، فجاءه الرد الحاسم من النبي عليه الصلاة والسلام:
"يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" (رواه البخاري ومسلم)
إنها لحظة مفصلية في تاريخ التوكل البشري. فالخطر محدق، والقلق مشروع، لكن اليقين بالله كان أقوى من كل مظاهر الخوف. ذلك الموقف يُعلّمنا أن الطمأنينة ليست في غياب التهديد، بل في حضور الله في قلوبنا، يقينًا لا يهتز، وثقة لا تنكسر.
فإذا كان أكثر ما يقلق الإنسان هو رزقه، وهو يعلم يقينًا أن رزقه بيد الله وحده، فلم القلق؟ يعيش حينها ببساطة، بل بسعادة واطمئنان. ولهذا، علينا أن نوقن أن داء القلق لا يصيب إلا من كان في إيمانه خلل، وعليه أن يراجع نفسه، فالدواء الحقيقي مرهون بها، لا بغيرها.
ومن المهم أن نلتفت إلى ضرورة بناء توازن نفسي، من خلال تهذيب النفس، وترويض الفكر، وتوجيهه نحو ما ينفع. فالعقل إذا تُرك ليتأمل المخاوف وحده، صنع منها وحشًا وهميًا يهابه صاحبه كل يوم. ولكن متى ما تم إشباع الروح بطمأنينة الإيمان، واليقين، والذكر، خمدت نيران القلق، وانزاحت غيوم الخوف.
فيا من أنهكه القلق، وتاه في دروب الهواجس، تذكّر أن الحياة لا تعطي أمانها لمن يركض خلف الظنون، بل لمن وقف بثبات على أرض الإيمان. لا تجعل يومك ساحة معركة بينك وبين ما لم يحدث بعد. فالقلق لا يغير المستقبل، بل يسرق منك الحاضر لحظة بلحظة. قاومه بالتوكل، واجه ظلاله باليقين، وعلّم قلبك أن لا يرتجف إلا من خشية الله، لا من غموض الغد.
ولعل أجمل انتصار تحققه في معركتك مع القلق، هو أن تبتسم وسط ضجيج الخوف، وأن تقول لنفسك بثقة: "أنا لست وحدي، فرب السماء يدبر أمري."
ومن هنا، تبدأ رحلة السلام.