كاتب أمريكي: ليس كل اليهود مشمولين بحماية ترامب.. فقط من يؤيد إسرائيل
تاريخ النشر: 29th, April 2025 GMT
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا للصحفي، بيتر بينارت، الذي كان أحدث كتاب له هو "أن تكون يهوديا بعد تدمير غزة"، قال فيه إن تيس سيغال، وهي طالبة في السنة الثانية بجامعة فلوريدا تبلغ من العمر 20 عاما، انضمت إلى زملائها النشطاء في ساحة بارزة بالحرم الجامعي في 29 نيسان/ أبريل 2024، مطالبة الجامعة بسحب استثماراتها من شركات تصنيع الأسلحة ومقاطعة المؤسسات الأكاديمية في "إسرائيل".
درس بعض المتظاهرين أو لعبوا الورق. لاحقا، قرأوا نعي فلسطينيين قتلوا في قطاع غزة.
ثم تدخلت قوات إنفاذ القانون. ورغم أن سيغال تقول إنها لم تقاوم الاعتقال، إلا أنها كبلت بالأصفاد واقتيدت إلى السجن، حيث احتجزت طوال الليل.
وقد واجهت سيغال تهمة مقاومة الاعتقال دون عنف. أسقطت الولاية قضيتها لاحقا. إلا أن جامعة فلوريدا كانت قد حظرت دخولها إلى الحرم الجامعي.
وكان مسؤولو الجامعة قد حذروا المتظاهرين من احتمال معاقبتهم إذا انتهكوا القيود الصارمة الجديدة على الاحتجاج. كما قال المسؤولون إن ضباط الشرطة أمروا المتظاهرين بالتفرق. وقالت سيغال إن الضجيج كان مرتفعا جدا بحيث لم يكن بالإمكان سماع هذا التوجيه.
وقالت سيغال إنها منعت من أداء امتحانها النهائي للفصل الدراسي والمشاركة في برنامج صيفي ترعاه الجامعة والذي تم قبولها فيه.
وقضت لجنة تأديبية بالجامعة بأنها لم تتصرف بطريقة مخلة بالنظام، لكنها اعتبرتها مسؤولة عن انتهاك سياسة الجامعة، من بين أمور أخرى. واقترحت اللجنة إيقافها عن الدراسة لمدة عام. وذهب عميد الطلاب المعين حديثا في الجامعة إلى أبعد من ذلك؛ ففي رسالة شاركتها مؤسسة الحقوق الفردية والتعبير، أعلن أن سلوك سيغال "تسبب في اضطراب كبير في الوظائف العادية للجامعة ومنع ضباط إنفاذ القانون من أداء واجباتهم على الفور" وزاد إيقافها إلى ثلاث سنوات.
تشترط جامعة فلوريدا على أي طالب يتغيب لأكثر من ثلاثة فصول دراسية إعادة التقدم بطلب الالتحاق. صرحت سيغال أنها كانت حاصلة على منحة دراسية كاملة. تعمل الآن في مجال خدمات الطعام ولا تعرف كيف أو متى ستعود إلى الجامعة.
ويعلق بينارت أنه في عصر يختطف فيه عملاء فيدراليون الطلاب الذين لا يحملون الجنسية الأمريكية من الشارع، قد تبدو عقوبة سيغال خفيفة نسبيا. لكن قضيتها تنطوي على مفارقة خاصة، فسيغال يهودية.
منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، طالبت العديد من المنظمات اليهودية البارزة وحلفاؤها السياسيون الجامعات مرارا وتكرارا بحماية الطلاب اليهود من خلال معاقبة انتهاكات السلوك والاحتجاج في الحرم الجامعي، بما في ذلك الإيقاف عن الدراسة أو حتى الطرد.
سيغال هي حفيدة أحد الناجين من الهولوكوست وهي خريجة معسكر صيفي يهودي، لماذا لم تشعر المنظمات اليهودية بالقلق بشأنها؟ لأنه على مدار السنوات القليلة الماضية، قام قادة اليهود الأمريكيين الرئيسيين - بالشراكة مع سياسيين متعاطفين - بشيء غير عادي: لقد أعادوا تعريف معنى أن تكون يهوديا بشكل فعال. ولإسكات إدانة "إسرائيل"، ساووا بين دعم الدولة واليهودية نفسها.
قليلون هم من عبروا عن إعادة التعريف هذه بشكل أكثر صراحة من الرئيس ترامب. في الشهر الماضي، في إشارة واضحة إلى دعم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ تشاك شومر غير الكافي المزعوم لـ"إسرائيل"، أعلن ترامب، "إنه لم يعد يهوديا".
ترامب ببساطة يوضح ما كان القادة اليهود يلمحون إليه لسنوات. في عام 2023، أعلن الرئيس التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير، جوناثان غرينبلات، أن "الصهيونية أساسية لليهودية". في عام 2021، شارك المنشق السوفيتي المؤثر ووزير الحكومة الإسرائيلي السابق ناتان شارانسكي في كتابة مقال يصف فيه اليهود الذين يعارضون الصهيونية بأنهم "غير يهود".
تحدث إعادة تعريف اليهودية هذه بالتزامن مع واحدة من أقسى حملات القمع في التاريخ على النشاط اليهودي الأمريكي.
يحمل العديد من اليهود الأمريكيين، وخاصة اليهود الشباب، آراء ناقدة لـ"إسرائيل".
وجد استطلاع للرأي أجراه المعهد الانتخابي اليهودي الوسطي عام 2021، والذي يراقب مشاركة اليهود في التصويت، أن 38% من البالغين اليهود الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 40 عاما يعتبرون "إسرائيل" دولة فصل عنصري، مقارنة بـ 47% ممن لم يفعلوا ذلك.
وعندما وُجهت إلى "إسرائيل" تهمة ارتكاب إبادة جماعية في غزة في استطلاع أجري العام الماضي، وافق 38% من البالغين اليهود الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن 44 عاما على ذلك.
بالنظر إلى هذه الأرقام، فليس من المستغرب أن يلعب اليهود دورا قياديا في الاحتجاجات ضد هجوم "إسرائيل" على غزة.
بعد أحد عشر يوما من 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، جمعت الجماعات اليهودية التقدمية والمعادية للصهيونية، بما في ذلك "صوت يهودي من أجل السلام" ما يقرب من 400 متظاهر، كان العديد منهم يرتدي قمصانا كُتب عليها "ليس باسمنا"، واحتلوا مبنى الكونغرس.
في وقت لاحق من ذلك الشهر، قادت منظمة "صوت يهودي من أجل السلام" وحلفاؤها عملية استيلاء على محطة غراند سنترال في نيويورك.
وفي جامعة براون، اقتصر الاعتصام الأول للمطالبة بسحب الاستثمارات من الشركات التابعة لـ"إسرائيل" على الطلاب اليهود فقط.
لا يعتبر الطلاب اليهود عموما عرضة للخطر كنظرائهم الفلسطينيين والعرب والمسلمين والسود وغير المواطنين، ولكن هذا الافتراض تحديدا بتوفر قدر أكبر من الأمان هو ما جعلهم أكثر استعدادا للاحتجاج في المقام الأول. وقد دفع الكثيرون ثمنا باهظا.
ومن المستحيل معرفة نسبة الطلاب اليهود الذين عوقبوا بسبب نشاطهم المؤيد للفلسطينيين، نظرا لأن الإجراءات التأديبية الجامعية غالبا ما تكون سرية. لكن الأدلة المروية تشير إلى أهمية هذا الأمر.
وبغض النظر عن آراء المرء حول كيفية تعامل الجامعات مع النشاط الطلابي في الحرم الجامعي، هناك أمر غريب في قمعه باسم سلامة اليهود، في حين أن عددا من الطلاب الذين يتعرضون للقمع هم من اليهود.
منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، علّقت أربع جامعات على الأقل مؤقتا أو وضعت تحت المراقبة فروع منظمة "صوت يهودي من أجل السلام".
في عام 2023، في احتجاجات "يهود من أجل وقف إطلاق النار الآن" بجامعة براون، تم اعتقال 20 عضوا (تم إسقاط التهم).
في فعالية مؤيدة لإسرائيل في كلية روكلاند المجتمعية بجامعة ولاية نيويورك في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ورد أن طالبا يهوديا صرخ لفترة وجيزة "من النهر إلى البحر، ستكون فلسطين حرة" و"يهود من أجل فلسطين" قد تم إيقافه عن الدراسة لبقية العام الدراسي. في أيار/ مايو 2024، قالت أستاذة يهودية دائمة في الأنثروبولوجيا بكلية مولينبيرج إنها طردت بعد أن أعادت نشر منشور على "إنستغرام" جاء فيه جزئيا: "لا تخشوا الصهاينة. افضحوهم. لا ترحبوا بهم في أماكنكم ولا تجعلوهم يشعرون بالراحة".
وفي أيلول/ سبتمبر، وجه المدعي العام في ميشيغان تهما جنائية لمقاومة أو عرقلة ضابط شرطة، بالإضافة إلى تهم جنحية بالتعدي على ممتلكات الغير، ضد ثلاثة ناشطين يهود - بالإضافة إلى أربعة آخرين - بتهمة ارتكاب جرائم تتعلق بمخيم تضامن مع غزة في جامعة ميشيغان في آن أربور. (دفعوا جميعا ببراءتهم).
حتى عندما اتخذ الاحتجاج شكلا دينيا يهوديا، غالبا ما أُغلقت أبوابه. في خريف العام الماضي، عندما بنى طلاب يهود معارضون للحرب خلال عيد العرش (سوكوت) أكواخا تضامنية مع غزة، وهي هياكل مؤقتة تشبه الأكشاك يأكل فيها اليهود ويتعلمون وينامون خلال العطلة، قامت ثماني جامعات على الأقل بتفكيكها بالقوة، أو ألزمت الطلاب بذلك، أو ألغت الموافقة على بنائها. (أعلنت الجامعات أنه لم يُسمح للمجموعات بإقامة هياكل في الحرم الجامعي).
على الرغم من ذلك، أشادت المنظمات اليهودية المؤيدة لـ"إسرائيل" بالجامعات التي قمعت الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين.
عندما علّقت جامعة كولومبيا فرعها من منظمة "صوت يهودي من أجل السلام" إلى جانب منظمة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، هنأت رابطة الدفاع عن الحقوق الجامعة على وفائها "بالتزاماتها القانونية والأخلاقية بحماية الطلاب اليهود".
بعد أن فرقت شرطة نيو هامبشاير مخيم دارتموث التضامني مع غزة، شكرت رابطة الدفاع عن الحقوق رئيس الكلية على "حماية حق جميع الطلاب في التعلم في بيئة آمنة".
لكن التجربة لم تكن آمنة بالنسبة لأنيليس أورليك، الرئيسة السابقة لبرنامج الدراسات اليهودية في الكلية، التي قالت إنها قيدت بقيود بلاستيكية وتعرضت للضرب على جسدها وسحبت بالقوة من قبل ضباط الشرطة عندما دخلوا.
بعد أن أعلنت المدعية العامة للولاية أنها ستوجه اتهامات ضد المتظاهرين في مخيم جامعة ميشيغان الذين زعم أنهم انتهكوا القانون، أشاد بها مسؤول في الاتحاد اليهودي لمدينة آن أربور الكبرى لتصرفها "بشجاعة".
ومع ذلك، يواصل اليهود الاحتجاج. في أوائل نيسان/ أبريل، قامت مجموعة صغيرة من الطلاب اليهود بتقييد أنفسهم ببوابات جامعة كولومبيا احتجاجا على استمرار احتجاز محمود خليل، طالب الدراسات العليا السابق وحامل البطاقة الخضراء، والمحتجز الآن في مركز احتجاز تابع لهيئة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك في لويزيانا بسبب مشاركته في احتجاج في الحرم الجامعي.
وقبيل عطلة عيد الفصح، وقّع أكثر من 130 طالبا وعضوا في هيئة التدريس وخريجا يهوديا من جامعة جورج تاون رسالة احتجاج على اعتقال بدر خان سوري، وهو زميل ما بعد الدكتوراه متهم بنشر دعاية حماس والترويج لمعاداة السامية.
هناك مفارقة عميقة في التشكيك الواضح من جانب المؤسسة اليهودية الأمريكية في يهودية هؤلاء المعارضين الشباب. لأن ما يميز نشطاء الطلاب اليهود اليوم عن الأجيال السابقة من اليساريين اليهود الأمريكيين هو بالتحديد اهتمامهم بدمج الطقوس اليهودية نفسها في احتجاجاتهم.
في نيويورك وحدها، نشأت ما لا يقل عن 10 مجتمعات صلاة، غير صهيونية أو معادية للصهيونية، في السنوات القليلة الماضية. يسكنها في الغالب يهود لا يتجاوز عمرهم بكثير عمر الطالبة تيس سيغال.
أقامت منظمة "يهود جامعة براون من أجل وقف إطلاق النار الآن" خيمة تضامن مع غزة في الخريف الماضي.
بدأت إحدى الطالبات اليهوديات، خوفا من تخريب الخيمة أو تفكيكها، بحراستها ليلا. حتى أنها انضمت إلى طلاب آخرين ناموا في المبنى المتهالك، الذي يرمز إلى الضعف البشري والحماية الإلهية، كما فعل اليهود منذ آلاف السنين، على الرغم من حظر الإدارة.
لقد أفلتت من الإجراءات التأديبية دون عقاب، لكنها سرعان ما دبرت خطة أخرى تربط يهوديتها بدعمها للقضية الفلسطينية: أن تجري طقوس (بات ميتزفاه) متأخرة، حيث يتم الاحتفاء بالتزام البنت بالشريعة اليهودية عندما تصل سن البلوغ.
في شباط/ فبراير الماضي، دُعيت إلى التوراة لأول مرة، في حفل أقامه بالكامل أعضاء منظمة يهود [جامعة] براون من أجل وقف إطلاق النار الآن، والتي تُسمى الآن "يهود براون من أجل تحرير فلسطين".
بالنسبة لترامب وقادة المؤسسة اليهودية الأمريكية، قد لا تكون يهودية حقيقية. ولكن مثل الكثيرين في جيلها، فهي تثبت لهم خطأهم بغضب وفرح.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية فلسطينيين يهودية امريكا فلسطين الاحتلال يهود صحافة صحافة صحافة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الیهود الأمریکیین فی الحرم الجامعی الطلاب الیهود تشرین الأول یهود من مع غزة
إقرأ أيضاً:
يهود في مواجهة الصهيونية
أثارت الحركة الصهيونية منذ نشأتها جدلًا واسعا بين شخصيات وعائلات ومفكرين يهود في أوروبا وأميركا، الذين رأوا فيها خطرا على اليهود أنفسهم، زاعمين أن الأساس الذي قامت عليه يرسخ الانفصال عن الأوطان الأصلية التي ينتمون إليها، ويقوّض مبدأ الاندماج الذي كان لعقود صمام الأمان لبقائهم في مجتمعاتهم.
وبرزت أصوات يهودية عبرت بكل وضوح عن حرصها على اليهود، معتبرة أن الفكر الصهيوني يهدد وجودهم، وأن إقامة وطن قومي في فلسطين سيُعرّض ولاء اليهود في أوطانهم للتشكيك ويؤجج النزعات المعادية لهم.
ومثلت هذه المواقف -وبعضها ينطلق من معتقدات دينية- تيارا فكريا يهوديا معارضًا للصهيونية، رأى أن خلاص اليهود يكمن في الإصلاح الاجتماعي والسياسي داخل المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، لا في مشروع قومي ضيق منفصل في فلسطين قد يعمّق عزلتهم ويستدعي المخاطر عليهم.
قدمت عائلة مونتاجو البريطانية نموذجا بارزا لليهود السفارديم الذين تبنّوا التوجّه الاندماجي في مواجهة المشروع الصهيوني، فقد وقفت هذه العائلة، التي كان لها حضور اقتصادي وسياسي مؤثر في بريطانيا منذ القرن الـ19، موقفا نقديا حادا من الحركة الصهيونية، انطلاقا من قناعة راسخة بفصل الدين عن القومية، ورفض فكرة تحويل اليهود إلى جماعة سياسية مستقلة عن أوطانها الأصلية.
وقد أسس صمويل مونتاجو (1832-1911) بنك "صمويل مونتاجو وشركائه" وأسهم بشكل ملموس في ترسيخ مكانة لندن كمركز مالي عالمي، حيث منحه النفوذ الاقتصادي والسياسي موقعا استشاريا لدى الخزانة البريطانية.
وعلى الرغم من اهتمامه بالشؤون اليهودية وزياراته المتعددة إلى فلسطين وروسيا والولايات المتحدة، فقد رفض الصهيونية بوصفها مشروعا يتناقض مع مبدأ اندماج اليهود في مجتمعاتهم القومية.
إعلانوكما يرصد الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" فقد كان هذا الموقف متجذرا داخل العائلة، حيث سار ولداه، لويس صمويل مونتاجو (1869–1927) وإدوين صمويل مونتاجو (1879-1924) على النهج نفسه.
وقد تبلور اعتراض إدوين مونتاجو، الذي تقلد مناصب وزارية مهمة في الحكومة البريطانية وعلى رأسها وزير الدولة لشؤون الهند، بشكل واضح في معارضته الصريحة لوعد بلفور قبيل صدوره عام 1917، محذرا من أن إقامة وطن قومي لليهود سيؤدي إلى نزع حقوق المواطنة عن اليهود البريطانيين، ويُكرّس صورة اليهود كأقلية غريبة محصورة في "غيتو قومي" معزول عن المجتمعات الأخرى.
ولم يكتف مونتاجو بالاعتراض السياسي، بل اعتبر أن المشروع الصهيوني يستند إلى رؤية دينية مغلوطة، ويزج باليهود في صراع قومي لا أساس له. وكتب ساخرا "بلفور ووريث آل روتشيلد لا يمكن أن يُنظر إليهما كمخلّصين يحققون النبوءة الدينية".
واقترح في مواجهة صعود النفوذ الصهيوني أن يُحرم كل صهيوني من حق التصويت في بريطانيا، بدلا من نزع الجنسية عن اليهود غير الصهاينة، معتبرا المنظمة الصهيونية كيانا يعمل ضد المصالح الغربية البريطانية ويهدد وحدة النسيج الوطني في الداخل.
وتكشف مواقف عائلة مونتاجو عن انقسام مبكر داخل الجاليات اليهودية تجاه الصهيونية، بين تيار اندماجي رأى في المشروع الصهيوني انحرافا عن التقاليد الدينية وانعزالا عن الواقع القومي للدول، وبين تيار قومي انفصالي حمل هوية دينية وسياسية مزدوجة، وسعى إلى بناء كيان يهودي على حساب التركيبة السكانية والتاريخية لفلسطين.
يُعد موريتز غودمان (1835-1918) من أبرز المفكرين اليهود الألمان أواخر القرن الـ19، ومن الشخصيات التي لعبت دورا مهما في النقاش الفكري حول هوية اليهود ومكانتهم في المجتمعات الغربية، وتولى منصب كبير حاخامات فيينا منذ عام 1894.
وقد أسهم بعمق في دراسة تاريخ التربية والثقافة اليهودية في الغرب خلال العصور الوسطى، مركزا في أبحاثه على تفاعل الجماعات اليهودية مع البيئات غير اليهودية وتأثرها بها ثقافيا وحضاريا.
وكما يرصد والتر لاكير في كتابه "تاريخ الصهيونية" فقد برز غودمان بوصفه أحد المدافعين عن مبدأ اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، مع الحفاظ على خصوصيتهم الدينية، دون أن يتحول هذا الاندماج إلى انصهار ثقافي أو ذوبان في الأغلبية.
ومن هذا المنطلق وقف موقفا ناقدا بشدة من المشروع الصهيوني الذي طرحه ثيودور هرتزل في كراسته الشهيرة "دولة اليهود" عام 1896.
وكان هرتزل قد أرسل أول خطاب إلى غودمان سنة 1895، مُعتبرا إياه أحد الشخصيات الثلاث التي يمكن أن تنقل حلم الدولة اليهودية إلى حيز التنفيذ، إلى جانب البارون دي هيرش واللورد روتشيلد، إلا أن غودمان خيّب ظنه حين رفض الفكرة برمتها.
تفكيك فكرة الشعب اليهوديوفي ردّه على أطروحة هرتزل، نشر غودمان كُتيبا بعنوان "اليهودية القومية" سنة 1897، هاجم فيه الأسس التي تقوم عليها الصهيونية، وسعى لتفكيك فكرة "الشعب اليهودي" بوصفها غير تاريخية ولا واقعية.
إعلانوطرح سؤالا جوهريا على أنصار الصهيونية: من هو اليهودي الأكثر وفاء لهويته؟ أهو الذي يتمسك بشعائر دينه ويندمج في محيطه الوطني والحضاري؟ أم ذلك الذي يتخلى عن الدين لكنه يتشبث بانتماء عرقي لا سند له سوى الرغبة في التمايز؟
وكان غودمان يرى أن الصهيونية تعكس عقلية الغيتو بشكل مقلوب، وأنها تسعى إلى عزل اليهود مجددًا لا عن طريق الاضطهاد، بل عبر خيار قومي لا يقل قسوة، وهو ما أغضب رموز الحركة الصهيونية مثل هرتزل وماكس نورداو اللذين هاجماه بضراوة، إذ كانا ينظران إلى اليهودية كهوية ثقافية أو قومية لا كديانة، وسعيا من خلال الصهيونية إلى إقامة كيان قومي يُخرج اليهود من أوروبا لا بالدمج والقبول، بل بالهجرة والانفصال.
ولهذا السبب -وكما يذكر المسيري في موسوعته- فإن غودمان يمثل بذلك تيارا عقلانيا داخل الفكر اليهودي الأوروبي، حيث رأى أن مستقبل اليهود يكمن في تعميق انتمائهم الوطني داخل أوطانهم، وليس في الهروب من التحديات الاجتماعية والسياسية عبر مشروع قومي انفصالي.
برز هيرمان كوهين (1842-1918) في المشهد الفكري الألماني أواخر القرن الـ19 كواحد من أهم أعلام الفلسفة الكانطية الحديثة، ومن أبرز المفكرين اليهود الذين تبنوا مشروع الاندماج داخل المجتمعات الأوروبية الحديثة.
ونشأ في بيئة دينية، وبدأ تعليمه بهدف أن يصبح حاخاما، لكنه تراجع عن هذا المسار وانصرف إلى دراسة الفلسفة، ليحصل على درجة الدكتوراه ويتولى التدريس في جامعات ألمانية مرموقة، حيث أسهم في تأسيس مدرسة ماربورغ الفلسفية الشهيرة.
وفي إطار دفاعه عن اندماج اليهودية في المجتمعات التي عاشت فيها، وبغية الدفاع عنها ضد بعض الهجمات الغربية التي طالتها، والتي نتبين منها نقمته من الصهيونية التي ترسخ للعرقية والانعزالية، رده على المؤرخ الألماني هاينريش ترياتشكه عام 1879 ضد اليهود الذي وصف اليهودية بأنها "ديانة عرقية تعادي القيم الغربية وتتنكر لها" واعتبر اليهود بأنهم "أمة داخل أمة".
وكما يرصد بول منديز-فلور، في كتابه "اليهود الألمان: هوية مزدوجة"، فقد كان رد كوهين في العام التالي عبر كتابه "اليهودية: اعتراف" مؤكدا أن يهود ألمانيا مواطنون ألمان متكاملون، لا يعانون من أي ازدواج في الانتماء، بل يجمعون بين إيمانهم الديني والولاء المدني للدولة، وأوضح أن الدولة الحديثة بما تحمله من قيم عقلانية وإنسانية ليست نقيضا لليهودية، بل تمثل امتدادا لها في سعيها نحو العدالة والمساواة.
وفي عام 1888 تصدى كوهين أيضا لادعاءات أكاديمية طالت التلمود واتهمته بالسماح لليهود بخداع غير اليهود، فألف كتيبا بعنوان "الحب الأخوي في التلمود" دحض فيه هذه المزاعم، وربط بين مفهوم "الشعب المختار" وفكرة الإصلاح الأخلاقي العالمي، مستشهدا بأن جوهر الرسالة التلمودية يتجلى في تقديم الله بوصفه نصيرا للغريب، وليس حاميا لامتياز عرقي.
ومن خلال أعماله الفلسفية والدينية بحسب المسيري، قدّم كوهين رؤية عقلانية ليهودية منفتحة ترفض الانغلاق القومي وتؤمن بوحدة الإنسانية، وقد شكل هذا التصور أساسا لرفضه الحاسم للمشروع الصهيوني، الذي رآه ضربا من القومية الانفصالية التي تهدد بفصل اليهود عن مجتمعاتهم الأوروبية.
وبالنسبة لكوهين، فإنه لا يمكن الحديث عن خلاص لليهود خارج أطر الدولة الحديثة، ولا عن هوية يهودية حقيقية خارج الالتزام بالقيم الأخلاقية الكونية.
يُعد هانز كون واحدا من أبرز المفكرين اليهود الذين تناولوا فكرة القومية بمنظور نقدي، وطرحوا رؤية مغايرة للرؤية الصهيونية التي حولت الهوية اليهودية إلى مشروع قومي ضيق.
إعلانوقد وُلد كون في براغ ودرس فيها، ثم استقر في فلسطين عام 1925، لكنه غادرها عام 1934 بعد أقل من عقد، ليستقر في الولايات المتحدة حيث عمل أستاذا للتاريخ.
وتركز اهتمامه البحثي على دراسة القومية بوصفها ظاهرة تاريخية متعددة الأبعاد، وارتبط اسمه بعدد من المؤلفات المرجعية في هذا المجال، مثل: فكرة القومية (1944)، عصر القومية (1962)، ومقدمة للدول القومية (1967).
كما ألّف كون دراسة عن 3 شخصيات يهودية بارزة هي آحاد هاعام وهايني وكارل بوبر، ويعكس اختياره لهذه الأسماء توجها نقديا واضحا للفكر القومي الصهيوني الذي خضع في نظره لمفاهيم أحادية لا تنسجم مع الروح العالمية لليهودية.
وفي دراسته "صهيون وفكرة اليهودية القومية" انتقد كون المفهوم الصهيوني القائم على العودة إلى "الأصل" معتبرا أن التفاعل مع الحضارات الأخرى هو ما يصنع التميز الثقافي والإبداع، لا الانعزال القومي.
ويقول إن أعظم الأسماء في التاريخ اليهودي الحديث، مثل هايني وماركس وبرغسون، لم يظهروا إلا بعد انفتاح اليهود على العالم وانخراطهم في حضارات أخرى.
ويرى أن العودة إلى الجذور ليست بالضرورة فضيلة، وضرب مثالا بفرنسا التي لم تتضرر من تبنيها لغة الغزاة الرومان، بل كانت القاعدة القانونية الأوروبية كلها قائمة على القانون الروماني الذي فُرض من الخارج لا من داخل البنية الثقافية الأوروبية.
ويركز كون في قراءته للتاريخ اليهودي على التوتر القديم بين تيارين داخل الفكر الديني: تيار ديني عالمي يؤمن برسالة أخلاقية مفتوحة على الجميع، وآخر قومي يسعى إلى إقامة كيان سياسي خاص، ويستشهد بقصة طلب بني إسرائيل تنصيب ملك عليهم في عهد النبي صمويل، إذ كان المقصود من القصة أن يكونوا عبادا لله لا خدما للدولة.
وبعد تأسيس الدولة لم يتردد الأنبياء في مهاجمتها كما فعل عاموس وإرميا اللذان أعادا تفسير مفاهيم مثل "الشعب المختار" و"أرض الميعاد" مؤكدين أن الاختيار لا يمنح امتيازا، بل يحمّل مسؤولية أخلاقية صارمة، وأن العقاب الإلهي سيكون أشد على بني إسرائيل إذا انحرفوا، لأنهم الطرف الذي "عُرف" من بين جميع الشعوب.
وفي تحليله لظاهرة معاداة اليهود، أشار كون إلى التباين بين النظرة الصهيونية والنظرة الاندماجية، فبينما تعتبر الصهيونية معاداة اليهود ظاهرة أبدية ملازمة لكل الأغيار، ورأى أن هذه الظاهرة اجتماعية وليست قدرية، وأنها قابلة للانحسار كلما زادت المجتمعات البشرية عقلانية واستنارة.
وهذا الموقف، كما يرى المسيري، يعكس إيمان كون العميق بأن التقدم الاجتماعي والسياسي كفيل بتفكيك العنصرية، بعكس النظرة الصهيونية التي تكرس الانفصال كحل دائم.
كما انتقد كون الطرح الصهيوني لحقوق اليهود، مؤكدا أن مطالبة الصهيونية بالاستقلال الجماعي تتناقض مع التقاليد الليبرالية التي تركز على حقوق الفرد داخل وطنه، لا على تشكيل كيانات جماعية منفصلة، وأن هذا الطرح -حسب رأيه- يسيء لليهود الذين يطمحون للعيش مواطنين كاملي الحقوق في بلدانهم الأصلية، ويعزز الشك في ولائهم.
ورغم غزارة إنتاجه الأكاديمي، تجاهلت معظم الموسوعات اليهودية موقف كون من الصهيونية، وركّزت فقط على أبحاثه العامة حول القومية، ولم يبرز هذا الجانب إلا في سيرته الذاتية التي نشرها عام 1964 تحت عنوان "الحياة في ثورة عالمية" حيث عبّر بوضوح عن موقفه الرافض لتحويل الدين إلى مشروع سياسي.
وبلغت الرؤية العالمية لدى كون ذروتها في تأكيده على أن المساعدة الإلهية ليست حكرا على جماعة يسرائيل، وأن الإله في المفهوم التوراتي النبوي يساعد كل الشعوب بما فيها مصر وآشور.