البرهان عثرة البناء الذهني في استخدام الرموز
تاريخ النشر: 1st, May 2025 GMT
كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبد الحميد
يحرص البرهان كل الحرص في لا وعيه على التأكيد دوما أنه لا يرتبط بأي آصرة علاقة سياسية أو أيدولوجية بالإسلاميين. ولعل مرد ذلك يرجع لطبيعة الوضع السياسي الذي وجد نفسه فيه. وإدراكه الواعي بأن أحد أكبر نقاط ضعفه هي مستويات الحضانه السياسية التي بات يوفرها له الإسلاميون ليس بمشيئته، وإنما بمشيئة التوازن الجدلي في الواقع السوداني، وبالطبع هذا وضع قد لا يُحسد عليه كثيرا، ويُضيّق عليه حيز المناورة السياسية.
فتراه عادة و بعكس الإخوان المسلمين يؤكد من خلال رفعه ليده مقبوضة الكف في تحية الجماهير على عكس ما يفعل الإسلاميون الذين عادة ما يرفعون أيديهم مشهرين أصبع السبابة.. وقد يبدو أنه قد نجح وينجح في ذلك دائماً فهو لم يخطأ مطلقاً ولو بشكل غير واعي في هذه الحركة بالغة الدلالة الرمزية، فهذه الحركة بالنسبة له وبحسب خلفيته العسكرية وهو إستخدام مباشر لما ترمز له اليد المقبوضة كعلامة فوق أنها مفارقة لعلامة الإسلاميين، فإنها تدل سيميائياً على السيطرة والقوة والانضباط والتماسك، بينما في المقابل يعجز عندما يستخدم اللغة الرمزية عجزاً كبيراً ومفضوحاً.
أن إستخدام اللغة الرمزية قد يستعصي على الشخص ذو التكوين العسكري في العادة، فمجال إستخدام اللغة الرمزية معقد ويحتاج لبنية ذهنية مدربة و خيالات واسعة وإدراك موضوعي وثقافة معمقة لوقع إستخدام الرموز في نفسية جمهور المخاطبين.
ففي خطابه الذي إستخدم فيه رمزية (اللساتك مقابل البندقية) في الشرعية وأثار ردود فعل واسعة محتجة وكظيمة وسط الثوار، حيث لم تسعفه معارفه ولا قدراته الذهنية ولا خبراته العملية في التفريق بين مَن أراد أن يوصل لهم الرسالة، وبين مدلول الرسالة.
إن إستخدام رمزية غاية في التعقيد كالبندقية واللساتك تتطلب درجة عالية من القدرة على فهم الدال والمدلول كما تتطلب وضعاً يختلف عن وضع البرهان الحالي. ففي السياق السوداني السياسي المعقد الراهن - والذي أسهم البرهان شخصياً في تعقيده - حول "شرعية البندقية" والتي ترتبط بأسس وضوابط لا تخرج عن أن تكون ضمن وظيفة الدولة الرسمية القاضية بإحتكار أدوات العنف والقهر في الدولة، فهي في هذه الحدود تتطلب (إدارة) أكثر من تأكيد شرعية. فالشرعية في الأصل لمَن يدير البندقية، لا لمَن يستعملها... وقد كان البرهان في لحظة ما بوصفه قائداً عاماً للجيش ورئيساً لمجلس السيادة والقيِّم والمدير الأول للبندقية قد سمح لقوات الدعم السريع بوصفها قوة خارج نطاق الجيش الرسمي أن تمتلك ليس فقط البندقية، وإنما شرعية ذلك الامتلاك. وبذلك تعددت أوجه وجود شرعية البندقية في أكثر من يد. وما يجري في الحرب الآن هو في الأصل محاولة للتكفير عن هذا التفريط في إدارة البندقية.
لعل الحرب الآن قد فرضت واقعاً أكثر تعقيداً. فالبندقية الآن في الواقع السوداني يمتلكها أكثر من فصيل، وللمفارقة يحارب بها مع الجيش جنباً لجنب. أما إستخدام رمزية اللساتك فهي تجسد عدم قدرة ذهنية في إستخدام الكلمة على مستوى الدلالة لسيميائية الفعل، فحرق اللساتك وعلى الرغم من أنه يُمثل تعدي على البيئة ويحتوي على مخاطر بيئية وصحية، إلا أنه في السياق السوداني يُعبّر عن حالة رفض جماهيري للسلطة الديكتاتورية التي كان يقودها الإسلاميون. وهي ليست حكراً على القوى السياسية المنظمة في الأحزاب السياسية التي رفضت أو أحجمت عن التضامن مع الجيش، وإنما إستخدامها هنا كان يتطلب حساسية أكثر للسياق الذي وضع البرهان في أعلى قمة الهرم السياسي والسلطوي في الدولة. وهي إرادة الجماهير الشعبية والتي هي بالمناسبة ليست غائبة ولا متراجعة عن رمزية فعلها الثوري من خلال حرق اللساتك في إقامة نظام مدني ديمقراطي حر. غير أنها اختارت أن ينجلي غبار المعركة الحالية لتعود لنفس فعلها الثوري إن كان بحرق اللساتك أو الإضراب أو العصيان أو غيرها من أوجه التعبير المدني الحر عن الإرادة السياسية.. وهي تَعِدُ نفسها لذلك اليوم وتتطلع إليه محتفظة بشرعية فعلها لحين أن يواتي السياقُ السياقَ.
د.محمد عبد الحميد
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
بين التجويع المنهجي والعقوبات الأوروبية.. كيف غيرت مأساة غزة الخريطة السياسية؟
تشهد الساحة الدولية تحولات جذرية في التعامل مع الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، حيث تسببت صور المجاعة والتجويع المنهجي في إحداث صدمة للضمير العالمي أجبرت الحكومات على إعادة النظر في مواقفها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويمثل هذا التطور الذي وصفه رئيس شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة أمجد الشوا بأنه "إنذار حقيقي للمجتمع الدولي"، تحركا لم يقتصر تأثيره على الشارع الشعبي، بل امتد ليطال أروقة صنع القرار في العواصم الأوروبية والأميركية.
وفي تحذير جديد من عواقب كارثية للمجاعة في القطاع، قال مرصد عالمي للجوع إن السيناريو الأسوأ لحدوث مجاعة يلوح في الأفق حاليا في القطاع.
وأكد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في العالم، أن الأدلة المتزايدة تشير إلى أن انتشار الجوع وسوء التغذية والأمراض تسهم في ارتفاع الوفيات المرتبطة بالجوع.
ويضيف التحذير أن أحدث البيانات تشير إلى أن استهلاك الغذاء بلغ حد المجاعة لدى المواطنين في أنحاء قطاع غزة، وأن سوء التغذية الحاد يتركز في مدينة غزة.
ويكشف الوضع الراهن عن إستراتيجية تجويع ممنهجة بدأت منذ اللحظات الأولى للعدوان، كما يوضح الشوا الذي يشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي قام بحساب السعرات الحرارية والكميات التي تدخل إلى القطاع، ونفذ تدميرا ممنهجا للبنى الاقتصادية والاجتماعية لزيادة اعتمادية السكان على المساعدات.
ووصف هذه السياسة خبراء إسرائيليون أنفسهم بأنها الأكثر منهجية وتنظيما منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تركت آثارا عميقة على النخب الإسرائيلية ذاتها.
حراك ضد نتنياهو
وفي هذا السياق، يشهد المجتمع الإسرائيلي حراكا متزايدا ضد سياسات حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، حيث يؤكد الخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور مهند مصطفى أن أكاديميين وفنانين وأدباء إسرائيليين بدؤوا يشاهدون كيف تغرق إسرائيل في وحل أخلاقي سيرافقها لعشرات السنوات.
إعلانوتجسد هذا الحراك في بيانات من 5 جامعات إسرائيلية ومطالبات بحل مشكلة قطاع غزة، مما يعكس قلقا متزايدا من انهيار الصورة الدولية لإسرائيل التي كانت تعتبر نفسها ضحية وممثلة للهولوكوست اليهودي.
وبينما يتصاعد الضغط الداخلي الإسرائيلي، تشهد الساحة الأوروبية تحركات جدية نحو فرض عقوبات على إسرائيل، كما يوضح أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف الدكتور حسني عبيدي أن أوروبا بدأت تقود حملة داخل الاتحاد الأوروبي لتعليق الاتفاقيات التجارية والتعاون العلمي مع إسرائيل.
ويحمل هذا التهديد بالعقوبات الأوروبية تأثيرا مضاعفا على إسرائيل، نظرا لأن البحث العلمي والتطوير الإسرائيلي مبني بالكامل على العلاقة العلمية مع الاتحاد الأوروبي، كما يشرح مصطفى، حيث إن التلويح بقطع هذا التعاون يعني انهيار عملية البحث العلمي والتطوير في إسرائيل نهائيا، مما يفسر الحراك الأكاديمي الإسرائيلي المتزايد ضد سياسات الحكومة.
وفي وقت سابق، قررت هولندا منع وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش من دخول أراضيها.
وكان وزير الخارجية الهولندي كاسبر فيلدكامب قد أعلن أمس، في رسالة وجهها إلى البرلمان أن الوزيرين لن يتمكنا من دخول هولندا بسبب تحريضهما على العنف ضد الفلسطينيين ودعوتهما إلى توسيع المستوطنات غير الشرعية، ودعواتهما كذلك إلى التطهير العرقي في قطاع غزة.
وعلى الصعيد السياسي، يشهد ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية تطورات مهمة، بدءا من الموقف الفرنسي وصولا إلى التصريحات البريطانية الأخيرة.
حيث أعلن رئيس الوزراء الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن بلاده ستعترف رسميا بالدولة الفلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، وهو نفس القرار الذي أعلن عنه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي ربطه بشرط عدم اتخاذ الحكومة الإسرائيلية خطوات جوهرية لإنهاء الوضع "المروع" في غزة.
بَيد أن النائبة السابقة في البرلمان البريطاني كلوديا ويب تنتقد بشدة ربط الاعتراف بشروط، معتبرة أن الدولة الفلسطينية حق لا يمكن إنكاره وليس وسيلة للمقايضة والمساومة مع إسرائيل.
تنامي الضغوط الشعبية
وتأتي هذه التطورات في ظل تنامي الضغوط الشعبية في الدول الأوروبية، حيث تشير ويب إلى أن الشعب البريطاني يخرج في مظاهرات كل يوم وفي كل عطلة نهاية أسبوع دفاعا عن فلسطين، لأن الناس لم يعودوا يتحملون رؤية هذه الفظائع تحدث أمام أعينهم يوميا.
وهو نفس الضغط الشعبي الذي يلاحظه عبيدي في جميع أنحاء أوروبا، لافتا إلى أنه بدأ يؤثر على قرارات المفوضية الأوروبية وحكومات القارة.
ورغم هذه التطورات الإيجابية، يبقى التحدي الأكبر في تحويل هذه المواقف إلى إجراءات فعلية على الأرض، حيث يؤكد الشوا أن الشعب الفلسطيني لن يفقد الأمل مهما حدث.
ولكنه يشدد على ضرورة أن تتحول هذه المواقف إلى إجراءات وتدابير حقيقية وليس فقط ربطها ببعض الأمور الإنسانية، مطالبا بمسار سياسي حقيقي لوقف العدوان وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.