لجريدة عمان:
2025-12-07@14:45:05 GMT

الفقهاء والأدب

تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT

دعتني الفتاوى والآراء المتكرّرة نكرانًا لما ينتج من مظاهر الأدب أحيانًا إلى التفكّر فـي الصّلة التي ربطت فقهاءنا بالأدب عبر التاريخ العربيّ الإسلاميّ، وبلغتُ نتيجة تُقيم قطيعةً بين حاضر الفقه صمْتًا أو نُكرانًا ورفضًا لأغلب ظواهر الأدب، وقديم الفقه بيانًا وتلقيًّا حسنا للأدب.

لقد لفت انتباهي وأنا أبحث عن أوليِّة الكتابة الروائيّة فـي عدد من المناطق العربيّة تدخُّل جميل للفقيه والعالم الجليل ومفتي الديار التونسية محمد الفاضل بن عاشور الابن البارّ لأبيه محمد الطاهر بن عاشور صاحب التفسير العظيم «التحرير والتنوير»، فـي وسْمِ عملٍ روائيّ أوّل فـي البلاد التونسيّة وإبداء الرأي فـيه، وبيان منزلته الفنيّة والتاريخيّة، ففـي تونس يُعَدُّ صالح السويسي القيرواني فاتق الرواية وبادئها وواضع حجر أساسها، وفـي أمره -كما فـي كلّ البلاد العربيّة- خلافٌ فـي التأسيس، بين من يرى الأساس الأوّل ماثل فـي الأسبقيّة التاريخيّة، ومن يرى الأساس الأوّل فـي البروز الفنيّ، وبعيدًا عن هذا الجدل، فإنَّ قولاً للفقهاء فـي أمرِ البدايات ظاهرٌ، بل إنّ الأمر ليتعدَّى الموقف الفقهيّ إلى النظر الفنيّ فـي روايةٍ فـيها جدلٌ وهي رواية «هيفاء وسراج الليل»ـ التي نعتَها شيخنا الجليل بقوله: «إذ نوَّهت الصّحافة فـي سنة 1324 هـ بأنّ شاعر القيروان قد ألَّف رواية انتقادية سمّاها (الهيفاء وسراج الليل)، فكانت أوّل رواية ظهرت فـي تاريخ الأدب العربيّ فـي تونس، وهي وإن كانت مُقامة على هيكل القصَّة البسيطة، ضعيفة العقدة الروائيّة إلاّ أنّ أوليَّتها من جهة،

وابتناءها على فكرة الإصلاح من جهة أخرى يمكِّن لها منزلة مهمّة من تاريخ الفكر ونهضة الأدب»، وللشيخ مواقف وأقوال وكتب ومقالات فـي الأدب جمَّة، وهذا الأمر لا يُخرجه عن مساره الفقهي ولا يجعله فريد ملَّته ولا وحيد فئته، وإنّما كان فـي تناغمٍ تامٍّ مع الفقهاء الذين كان الأدب سبيلهم وأداتهم، وبه يُقيمون فكرَهم ويُقوِّمون أمزجتهم، فكذا كان والده الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مؤلِّفا فـي «الإنشاء والخطابة»، ومحقِّقًا وشارحًا لدواوين الشعراء، وهو من الأوائل الذين أوردوا قصيدة المتجرّدة تامَّة دون أن ينقص منها ما يُمكن أن «يعيب حياء القارئ» فـي شرحه لديوان النابغة الذبياني، وهذا الأمر يقودني إلى البدايات الأولى، إلى الإسلام الأوَّل، الذي لم يكن فـيه الفقيه يخشى من نصٍّ، من أدبٍ، من بيتِ شعر، أو من قصص قاصٍّ؛ لأنّه يُدرِك المقام الذي فـيه تخلَق، يُعيدني إلى ابن عبّاس المحدِّثُ وراوية القرآن الكريم، وله مع عمر بن أبي ربيعة موقفٌ يُظهر هذه الصِّلة العميقة، الجذريّة بين الفقهاء والأدب، إذ دخل عليه عمر بن أبي ربيعة مجلسه والناس يستفتونه، ويطلبون علم الديّن منه، أقبل عليه عمر فـي تمام زينته فـي ثوبين مصبوغين مورّدين،

فإذا بابن عبّاس يقطع حديث الفقه وينصرف إلى الشاعر يطلبُ منه شعرا، فـينشده عمر «أمن آل نعم أنت غاد فمبكر/ غداة غد أم رائح فمهجّر، حتى أتى على آخر القصيدة، فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال له: الله يا ابن عباس! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد، نسألك عن الحلال والحرام، فتتثاقل عنَّا، ويأتيك غلام مترف من مترفـي قريش فـينشدك: رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت/ فـيخزى وأما بالعشيّ فـيخسر.

فقال ابن عباس: ليس هكذا قال. قال نافع: فكيف؟ قال: رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت/ فـيضحى وأما بالعشيّ فـيخصر. قال نافع: ما أراك إلا وقد حفظت البيت؟ قال: نعم، وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها. قال: فإني أشاء. فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها، وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحا»، وفـي رواية أخرى أنّه أنشدها من أوّلها إلى آخرها، ومن آخرها إلى أوَّلها.

هذا يقودني فـي رحلة التاريخ إلى أسماءٍ عددٍ يعسُر الوقوف على آثارها وأعمالها، لعلّ أبرزها الزبير بن بكّار الفقيه والقاضي والراوية، الذي جمع أشعار عمر بن أبي ربيعة وأخباره، وروى ذلك لطلبته وبرَّزهم لرواية هذه الأشعار.

هذا وجهٌ من أبوابِ وجوهٍ لا حصْرَ لها ولا عدُّ أقبل فـيها الفقهاء على الأدب دون اعتبارٍ للصدق والكذب أو الصفاء والكدر لأنّهم كانوا على درايةٍ تامّة بأنّ الأدب تمثيلٌ جميلٌ للمعاني، وقول يتمثّل الفعل ولا يؤدّيه، وتخييل يبني عوالم مادّتها اللّغة.

وأختم قوْلي بنقطتين الأولى من التاريخ والثانية من واقع الحال، فأمَّا التاريخ فإنّه يُظْهِرُ لنا أنَّ أغلب نقّاد الأدب من شيوخ الفقه، وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني الذي ما زالت كتبه وتصانيفه تكشف لنا من النقد والبلاغة ما لا يخطر على ذهنٍ، وقد سار فـي مسار إظْهار دلائل إعجاز القرآن الكريم، فتوسَّط بالشعر قولاً مبينًا وأساسًا مكينًا لحُسْن القول، وفـيه يبدو «النظْمُ» الذي يعلو أو يخبو، وأمَّا واقع الحال، فقد تسنّى لي فـي مرحلةٍ من مراحل حياتي أن أجالس بعضًا من شيوخ الزيتونة كبار السنّ، فوجدتُ لديهم حلقةً من الأدب لا مثيل لها، وروايةً للشعر والنثر لا تُسايَر، وكانوا فـيما يحفظونه من شعر لا يُمايزون بين التقيّ والشقيّ، بين الوفـيِّ والرديِّ، بين الرضيّ والعصيّ، وإنّما يُمايزون بين من له فـي الأدب باعٌ وذراع وخليّ الوفاض.

فمتى نرى فقهاءنَا يُخبروننا آراءهم فـي الرواية والقصة والشعر وأعمالِ الأدب المختلفة ودرايتهم بحركة الأدب والمسرح والسينما، دون نكران أو هجران، ودون تجريم أو تحريم، ويسيرون على سيرة أوائلهم!

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

“هيئة الأدب” تختتم النسخة الـ5 من مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025

اختتمت هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الخامسة من مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025، التي نظّمتها على مدى ثلاثة أيام في مكتبة الملك فهد الوطنية، تحت عنوان “الفلسفة بين الشرق والغرب: المفاهيم، والأصول، والتأثيرات المتبادلة”، وسط حضور لافت من المفكرين والباحثين والمهتمين بالفلسفة من داخل المملكة وخارجها.
وتميّزت النسخة الخامسة بحضور معرفي واسع، وببرنامج علمي تناول أبرز قضايا الفلسفة ومقارباتها المعاصرة, وشهد المؤتمر في يومه الأول نقاشات معمّقة حول طبيعة التفلسف وطرقه في الشرق والغرب، واستعرض مفاهيم المحاكاة والوجود والمسافة الفلسفية ودورها في تشكيل المعنى وتطور المدارس الفكرية, كما تطرقت الجلسات إلى جذور التفلسف الأولى في الحضارات القديمة والفكر اليوناني والتراث الشرقي، مؤكدةً أن سؤال الأصل يشكّل مدخلًا رئيسًا لفهم تطور المفاهيم الفلسفية حتى العصر الحديث.
وتناولت الجلسات العلاقة بين الفلسفة والمطلق والأخلاق، والتحولات التي شهدها الفكر الفلسفي المعاصر، والحاجة إلى إعادة جمع الفلسفة في إطار معرفي موحّد يعيد لها قدرتها على قراءة الواقع وتفسير تعقيداته, وناقشت الجلسات ماهية التفلسف ووجهيه النظري والعملي، وأهمية الأدوات المنهجية في إنتاج المفاهيم وتحليل الإشكالات، إضافة إلى مستقبل تعليم الفلسفة في العالم العربي ودورها في تنمية مهارات التفكير النقدي.
وبحث المؤتمر في يومه الثاني مسارات التداخل بين الفلسفات الشرقية واليونانية، وعودة الاهتمام بالفكر الشرقي منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى جانب استعراض أثر ابن سينا والحوار القرآني بوصفه نموذجًا فلسفيًا في بناء المعنى ومنطق الحجة, كما ناقش المشاركون نظرية الفعل التواصلي وأطر العدالة والاحترام في الحوار، وأثر اللغة العربية في تشكيل المفهوم الفلسفي وقدرتها على صياغة المصطلحات وتنظيم الخطاب الحجاجي.
أما اليوم الختامي, فشهد طرحًا موسعًا حول التفاعلات الفلسفية بين الشرق والغرب في العصور الحديثة، وتحولات المشهد الفلسفي المعاصر، وذلك عبر جلسات تناولت قضايا الجيوفلسفة، وبناء الجسور المعرفية، وأدب الطفل والفلسفة، كما استضاف المؤتمر المفكر العالمي الدكتور جون أرمسترونغ في جلسة تناولت “مستقبل الجمال”، إلى جانب جلسات بحثت في التعايش الفكري واللغة المشتركة بين المدارس الفلسفية، وكذلك تجاوب الفلسفات الشرقية والغربية مع القضايا المعاصرة.
وشهد المؤتمر سلسلةً من المناظرات الفلسفية التي شارك فيها طلاب وطالبات الجامعات السعودية، امتدّت على مدى ثلاثة أيام من الحوار الرصين والمقاربات الفكرية الثرية, قدّم المشاركون خلالها نموذجًا مُلهِمًا لمستقبل الفلسفة في المملكة، برؤية ناقدة واستعداد حقيقي للبحث عن المعنى. واختُتمت المناظرات بمنافسة نهائية في آخر أيام المؤتمر، تُوِّج فيها الفريق الفائز الذي نال تكريمًا من الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل، ليعكس اهتمام الهيئة وسعيها في دعم الطاقات الشابة وتمكينها.
وتضمن المؤتمر طول أيامه الثلاثة، ورش عمل ناقشت موضوعات الحِجاج الفلسفي، والتحديات المعرفية الحديثة، وطرائق استلهام التراث الفلسفي في بناء رؤى فكرية معاصرة، ما أتاح للمختصين والمهتمين مساحة تدريبية لنقل الفلسفة من حيز التنظير إلى الممارسة.
وتميزت النسخة الخامسة للمؤتمر بمشاركة 60 متحدثًا من فلاسفة ومفكرين وباحثين من مختلف دول العالم، وتضمين أكثر من 40 جلسة حوارية تناولت جذور الفلسفة ومسارات تطورها، واستقبل المؤتمر ما يتجاوز الـ 7000 زائر، في مؤشر يعكس تنامي الاهتمام بالفلسفة والعلوم الإنسانية في المملكة.
واختُتمت أعمال المؤتمر وسط إشادة واسعة بالمحتوى العلمي والنقاشات التي شهدتها منصاته المختلفة، مؤكدةً استمرار المؤتمر بوصفه منصة فلسفية عالمية تعزز صناعة الوعي، وترسّخ دور المملكة في قيادة المشهد الفكري والثقافي إقليميًا ودوليًا، بما يتسق مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في دعم المعرفة وبناء الإنسان.

مقالات مشابهة

  • عائشة الغيص: الأدب الشعبي مرآة للذاكرة الجماعية
  • “هيئة الأدب” تختتم النسخة الـ5 من مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025
  • رواية مقعد أخير في الحافلة لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام مأسي الواقع
  • رواية جديده حول مقتل العميل ياسر ابو شباب
  • غدًا بمتحف نجيب محفوظ: إطلاق ورشة "السينما والأدب"
  • صدور رواية «عزف على جثث النساء» للسيد فلاح.. رعب يهزّ المعادي ويجدّد روح الأدب البوليسي العربي
  • من هو أبو شباب وكيف أصبح عميلاً لإسرائيل وما رواية مقتله؟
  • غدًا الجمعة بمتحف نجيب محفوظ.. إطلاق ورشة "السينما والأدب.. نجيب محفوظ نموذجًا"
  • هيئة الأدب والنشر والترجمة تطلق أعمال مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة
  • الحاجة الاستراتيجية للنقد العربي