دعتني الفتاوى والآراء المتكرّرة نكرانًا لما ينتج من مظاهر الأدب أحيانًا إلى التفكّر فـي الصّلة التي ربطت فقهاءنا بالأدب عبر التاريخ العربيّ الإسلاميّ، وبلغتُ نتيجة تُقيم قطيعةً بين حاضر الفقه صمْتًا أو نُكرانًا ورفضًا لأغلب ظواهر الأدب، وقديم الفقه بيانًا وتلقيًّا حسنا للأدب.
لقد لفت انتباهي وأنا أبحث عن أوليِّة الكتابة الروائيّة فـي عدد من المناطق العربيّة تدخُّل جميل للفقيه والعالم الجليل ومفتي الديار التونسية محمد الفاضل بن عاشور الابن البارّ لأبيه محمد الطاهر بن عاشور صاحب التفسير العظيم «التحرير والتنوير»، فـي وسْمِ عملٍ روائيّ أوّل فـي البلاد التونسيّة وإبداء الرأي فـيه، وبيان منزلته الفنيّة والتاريخيّة، ففـي تونس يُعَدُّ صالح السويسي القيرواني فاتق الرواية وبادئها وواضع حجر أساسها، وفـي أمره -كما فـي كلّ البلاد العربيّة- خلافٌ فـي التأسيس، بين من يرى الأساس الأوّل ماثل فـي الأسبقيّة التاريخيّة، ومن يرى الأساس الأوّل فـي البروز الفنيّ، وبعيدًا عن هذا الجدل، فإنَّ قولاً للفقهاء فـي أمرِ البدايات ظاهرٌ، بل إنّ الأمر ليتعدَّى الموقف الفقهيّ إلى النظر الفنيّ فـي روايةٍ فـيها جدلٌ وهي رواية «هيفاء وسراج الليل»ـ التي نعتَها شيخنا الجليل بقوله: «إذ نوَّهت الصّحافة فـي سنة 1324 هـ بأنّ شاعر القيروان قد ألَّف رواية انتقادية سمّاها (الهيفاء وسراج الليل)، فكانت أوّل رواية ظهرت فـي تاريخ الأدب العربيّ فـي تونس، وهي وإن كانت مُقامة على هيكل القصَّة البسيطة، ضعيفة العقدة الروائيّة إلاّ أنّ أوليَّتها من جهة،
وابتناءها على فكرة الإصلاح من جهة أخرى يمكِّن لها منزلة مهمّة من تاريخ الفكر ونهضة الأدب»، وللشيخ مواقف وأقوال وكتب ومقالات فـي الأدب جمَّة، وهذا الأمر لا يُخرجه عن مساره الفقهي ولا يجعله فريد ملَّته ولا وحيد فئته، وإنّما كان فـي تناغمٍ تامٍّ مع الفقهاء الذين كان الأدب سبيلهم وأداتهم، وبه يُقيمون فكرَهم ويُقوِّمون أمزجتهم، فكذا كان والده الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مؤلِّفا فـي «الإنشاء والخطابة»، ومحقِّقًا وشارحًا لدواوين الشعراء، وهو من الأوائل الذين أوردوا قصيدة المتجرّدة تامَّة دون أن ينقص منها ما يُمكن أن «يعيب حياء القارئ» فـي شرحه لديوان النابغة الذبياني، وهذا الأمر يقودني إلى البدايات الأولى، إلى الإسلام الأوَّل، الذي لم يكن فـيه الفقيه يخشى من نصٍّ، من أدبٍ، من بيتِ شعر، أو من قصص قاصٍّ؛ لأنّه يُدرِك المقام الذي فـيه تخلَق، يُعيدني إلى ابن عبّاس المحدِّثُ وراوية القرآن الكريم، وله مع عمر بن أبي ربيعة موقفٌ يُظهر هذه الصِّلة العميقة، الجذريّة بين الفقهاء والأدب، إذ دخل عليه عمر بن أبي ربيعة مجلسه والناس يستفتونه، ويطلبون علم الديّن منه، أقبل عليه عمر فـي تمام زينته فـي ثوبين مصبوغين مورّدين،
فإذا بابن عبّاس يقطع حديث الفقه وينصرف إلى الشاعر يطلبُ منه شعرا، فـينشده عمر «أمن آل نعم أنت غاد فمبكر/ غداة غد أم رائح فمهجّر، حتى أتى على آخر القصيدة، فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال له: الله يا ابن عباس! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد، نسألك عن الحلال والحرام، فتتثاقل عنَّا، ويأتيك غلام مترف من مترفـي قريش فـينشدك: رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت/ فـيخزى وأما بالعشيّ فـيخسر.
هذا يقودني فـي رحلة التاريخ إلى أسماءٍ عددٍ يعسُر الوقوف على آثارها وأعمالها، لعلّ أبرزها الزبير بن بكّار الفقيه والقاضي والراوية، الذي جمع أشعار عمر بن أبي ربيعة وأخباره، وروى ذلك لطلبته وبرَّزهم لرواية هذه الأشعار.
هذا وجهٌ من أبوابِ وجوهٍ لا حصْرَ لها ولا عدُّ أقبل فـيها الفقهاء على الأدب دون اعتبارٍ للصدق والكذب أو الصفاء والكدر لأنّهم كانوا على درايةٍ تامّة بأنّ الأدب تمثيلٌ جميلٌ للمعاني، وقول يتمثّل الفعل ولا يؤدّيه، وتخييل يبني عوالم مادّتها اللّغة.
وأختم قوْلي بنقطتين الأولى من التاريخ والثانية من واقع الحال، فأمَّا التاريخ فإنّه يُظْهِرُ لنا أنَّ أغلب نقّاد الأدب من شيوخ الفقه، وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني الذي ما زالت كتبه وتصانيفه تكشف لنا من النقد والبلاغة ما لا يخطر على ذهنٍ، وقد سار فـي مسار إظْهار دلائل إعجاز القرآن الكريم، فتوسَّط بالشعر قولاً مبينًا وأساسًا مكينًا لحُسْن القول، وفـيه يبدو «النظْمُ» الذي يعلو أو يخبو، وأمَّا واقع الحال، فقد تسنّى لي فـي مرحلةٍ من مراحل حياتي أن أجالس بعضًا من شيوخ الزيتونة كبار السنّ، فوجدتُ لديهم حلقةً من الأدب لا مثيل لها، وروايةً للشعر والنثر لا تُسايَر، وكانوا فـيما يحفظونه من شعر لا يُمايزون بين التقيّ والشقيّ، بين الوفـيِّ والرديِّ، بين الرضيّ والعصيّ، وإنّما يُمايزون بين من له فـي الأدب باعٌ وذراع وخليّ الوفاض.
فمتى نرى فقهاءنَا يُخبروننا آراءهم فـي الرواية والقصة والشعر وأعمالِ الأدب المختلفة ودرايتهم بحركة الأدب والمسرح والسينما، دون نكران أو هجران، ودون تجريم أو تحريم، ويسيرون على سيرة أوائلهم!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الحبل الأميركي الذي قد يشنق نتنياهو
يرى بنيامين نتنياهو في العلاقة مع الولايات المتحدة أساسًا لوجود إسرائيل، لكنها اليوم تُظهر وجهها الحقيقي: صفقة مصلحية باردة تحكمها التوترات والخداع المتبادل.
فرغم تصاعد الحرب في غزة وتزايد الضغوط الدولية، تُبدي إدارة دونالد ترامب دعمًا واضحًا لإسرائيل، لكنه مشروط بلغة دبلوماسية دقيقة. في المقابل، يوظف نتنياهو هذا الدعم لتعزيز موقفه السياسي داخليًا، متجاوزًا القيود الأميركية عبر قنوات غير رسمية.
التحالف الذي وُصف يومًا بـ"الأبدي" بات أشبه بحبل مشدود فوق هاوية سياسية وأخلاقية. نتنياهو يراهن على ترامب للبقاء في الحكم، بينما يحسب ترامب خطواته بعناية لتجنّب اندلاع حرب إقليمية غير محسوبة. السؤال الآن: كيف انتقل هذا التحالف من شراكة أيديولوجية إلى سوق مفتوح للمصالح؟ وما حدود هذا الدعم وسط أزمات نتنياهو المتعددة؟
من تحالف الأيديولوجيا إلى مناورة المصالحقدّم نتنياهو نفسه دائمًا كأقرب الحلفاء لواشنطن، لكنه لم يتردّد في معارضة إداراتها حين تعارضت مصالحه معها. خطابه الشهير أمام الكونغرس عام 2015 ضد الاتفاق النووي مع إيران كان تحديًا صريحًا، أكد أن أولوياته تنبع من أجندته الخاصة، لا من توافق إستراتيجي عميق.
وبالمقابل في ولايته الأولى، وفّر له ترامب دعمًا نادرًا: نقل السفارة إلى القدس، والخروج من الاتفاق النووي، واتفاقيات تطبيع عززت صورته كقائد "صنع التاريخ".
إعلانولكن ما بدا حينها تحالفًا استثنائيًا، يكشف اليوم عن هشاشته. في عام 2025، لم يعد ترامب يمنح دعمه دون شروط، بل بات الدعم تكتيكيًا ومحسوبًا، أقرب إلى عقد مؤقت من كونه شراكة راسخة.
صحيفة هآرتس اختزلت الموقف في تحليل لاذع: "إسرائيل لم تعد الحليف المدلل، بل أصبحت شريكًا مزعجًا ينبغي احتواؤه". هذا التوصيف لا يعكس فقط تغيرًا في المزاج الأميركي، بل يُظهر انقلابًا في موازين القوة: من دولة تتلقى التفويض، إلى زعيم يُراقب من خلف الزجاج.
يستمرّ ترامب في دعم إسرائيل، مدفوعًا بعوامل داخلية وخارجية. داخليًا، يعتمد على قاعدته الإنجيلية التي ترى في إسرائيل تجسيدًا دينيًا وسياسيًا.
أما خارجيًا، فيهدف إلى الحفاظ على صورة الردع الأميركي في المنطقة واحتواء نفوذ إيران، لا سيما في ظلّ تراجع التدخل العسكري الأميركي في الساحات الإقليمية. لكنه، وعلى عكس ولايته الأولى، بات أكثر حذرًا.
التصعيد في غزة أو سوريا قد يُدخل واشنطن في مواجهة مفتوحة لا تصبّ في مصلحته الإستراتيجية، ولا في ميزان الاقتصاد الأميركي المتأرجح. ولهذا، تأتي بياناته بلغة مزدوجة: تصريح الخارجية الأميركية في 6 مايو/ أيار حول العمليات في رفح دعا إسرائيل إلى "احترام القانون الدولي والتمييز بين الأهداف"، وهي جملة تُقرأ على أنها تحذير دبلوماسي مغطى بكلمات مجاملة.
في الظاهر، لا تزال إسرائيل مدعومة، لكن في العمق، بدأت واشنطن تضع حدودًا لما يمكن التسامح معه.
كيف حاول نتنياهو التحايل على واشنطن؟ومع تآكل الثقة بين الطرفين، عاد نتنياهو إلى أساليبه القديمة: التأثير غير المباشر عبر الدوائر المقربة من الإدارة، دون المرور بالقنوات الرسمية.
من أبرز تلك المحاولات، علاقته بمايكل والتز، مستشار الأمن القومي السابق الذي كان يُعرف بـ"صوت إسرائيل" داخل البيت الأبيض. تسريبات Axios كشفت أن نتنياهو أرسل إليه تحليلات مباشرة حول الوضع الإيراني، وكذلك حول الحالة الميدانية في القطاع، متجاوزًا الإدارة الأميركية.
إعلانالهدف كان الضغط من خلف الكواليس لتعديل موقف واشنطن، لكن إقالة والتز في وقت لاحق أنهت تلك القناة الحيوية، وأظهرت أن واشنطن بدأت تُغلق أبواب التأثير غير المشروع.
هذه الخطوات تُظهر ليس فقط هشاشة موقف نتنياهو، بل أيضًا أسلوبه السياسي المعتمد على الالتفاف والمراوغة، ولو على حساب الأعراف الدبلوماسية التي طالما تغنّى بها.
دعم مستمر، لكن دون تفويض مطلقالدعم الأميركي مستمر، لكنه تغير في جوهره. صحيح أن الطائرات والسلاح والمواقف العلنية ما زالت تُرسل إلى إسرائيل، لكن الفيتو الأميركي لم يعد حاضرًا بنفس الحزم في مجلس الأمن، كما لم تبذل إدارة ترامب جهدًا كبيرًا لإجهاض مشروع القرار الأممي الداعي لوقف إطلاق النار.
في الوقت ذاته، تُعبّر واشنطن عن فتور واضح تجاه العمليات البرية في رفح، بل وتُسرب امتعاضها بطرق محسوبة.
مجلة "فورين أفيرز" وصفت الحالة بكلمات لا تحتمل اللبس:
"الولايات المتحدة لا تزال تدعم إسرائيل، لكنها سئمت من نتنياهو".
هذا الموقف يضع نتنياهو أمام معضلة غير مسبوقة: الدعم موجود، لكنه لا يكفي لنصر واضح، ولا يمنع الانهيار الداخلي.
قلق داخلي في إسرائيل: عندما تصبح واشنطن مرآةً لفشل القيادةتزداد المعادلة تعقيدًا حين ننظر إلى الداخل الإسرائيلي، حيث تُتابع النخب السياسية هذه العلاقة بقلق واضح. أحزاب الوسط واليسار ترى في تراجع الحماس الأميركي فرصة لتقييد نتنياهو، بينما يتخوف اليمين من أن يفقد الغطاء الأميركي في لحظة حرجة. الانقسام داخل معسكره ذاته واضح: جزء يريد كسر التبعية لأميركا، وجزء يرى أن ترامب هو الحصن الأخير.
استطلاع معهد "متفيم" (أبريل/ نيسان 2025) أظهر أن 62% من الإسرائيليين يعتقدون أن علاقة نتنياهو المتوترة بواشنطن تضر بصورة إسرائيل عالميًا. هذا لا يعكس فقط أزمة دبلوماسية، بل انكشافًا داخليًا لرجل يستند إلى تحالف هشّ لتبرير استمراره.
بيبي على الحافة: مناورة البقاء بين التصعيد والاسترضاءنتنياهو يعرف أن شرعيته مرتبطة بإحداث تغيير محسوس، قبل أن يفقد الغطاء الأميركي الترامبي المحتمل، أو قبل أن يتفكك الائتلاف عند أول تنازل.
إعلانهو يراهن على "انتصار محسوب" قبل أكتوبر/ تشرين الأول. لكن الزمن يعمل ضده، فهو يعرف أن دفع العلاقة مع واشنطن إلى نقطة اللاعودة سيعني: احتمال توقّف الإمداد العسكري، أو على الأقل التلويح به، تراجع الثقة العالمية في "الردع الأميركي" لإسرائيل وتسارع انفكاك الدول العربية المطبّعة، التي تعتمد على الغطاء الأميركي كضامن لتوازناتها.
في ظل هذا المشهد، يصبح نتنياهو كمن يتمسّك بحبل أميركي يشدّه من الجهتين. لا يستطيع تركه لأنه ضمانته الوحيدة للبقاء، لكنه لا يريد أن يخضع لقيوده، لأن تلك القيود تهدد بسقوطه. لهذا، يلجأ إلى سياسة المراوحة: تصعيد محسوب لكسب شعبية، وتهدئة مدروسة لامتصاص الضغوط الأميركية.
إنها إستراتيجية البقاء على الحافة: لا انتصار يُحسم، ولا هزيمة يُعترف بها. وبين التصعيد والمراوغة، يدفع الجميع الثمن: الفلسطينيون أولًا، لكن أيضًا المؤسسة الإسرائيلية التي تفقد ما تبقى من ثقة العالم بها.
وفي الختام، نتنياهو الحليف الذي لا يُوثق بهلم تعد علاقة نتنياهو بواشنطن قائمة على قيم مشتركة أو مصير موحّد، بل تحولت إلى صفقة يومية تُدار وفق حسابات تكتيكية دقيقة. إدارة ترامب تُبقي على الغطاء الدبلوماسي لإسرائيل، لكنها لا تُخفي فقدانها للثقة بنتنياهو. أما هو، فلا يكفّ عن التلويح بالتحالف، بينما يناور من خلف الكواليس.
قد يتمكن من تجاوز أزمة غزة مؤقتًا، لكنه يترك وراءه علاقة مضطربة مع البيت الأبيض، وسمعة دولية متدهورة، وشعبًا إسرائيليًا يزداد تململًا من حروبه ومراوغاته.
في ولاية ترامب الثانية، لا مكان للصداقة الدائمة، بل للمصالح المتغيرة حسب التوقيت. أما نتنياهو، هذا الحليف المربك، فيدرك جيدًا أن الحبل الأميركي الذي يستند إليه، قد يتحول في أية لحظة إلى مشنقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline