بيروت.. منفى المنافي الفلسطينية
تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT
بيروت مطلع السبعينات، قصيدةُ النثر غير المكتملة في أدراج مجلة «شِعر»، والغرفة السرية لتحالفات المثقفين العرب ومشاريعهم اللاجئة من عواصم عربية أخرى. غابةُ السلاح التي تستقبل الثورة الفلسطينية بالأرز والزهور بعد «أيلول الأسود» في عمَّان، ثم تنتظر وهي تحبس أنفاسها شرارةً من عود كبريت تنتظر وتعد أنفاسها في مليون نسمة.
مع بداية عام 1975 ستنقسم بيروتُ الصغيرة إلى بيروت شرقية وأخرى غربية، كشظية تتطاير في الهواء المختنق بالانقسام الطائفي والفوضى السياسية، مُتشظيةً بين يمين لبناني ويسار لبناني فلسطيني. وما زالت الأحزاب تُريق حبر الشتائمَ والاتهامات المتبادلة في صُحف صباحات المدينة القلقة، قبل أن يحتدم حوار السلاح إثر حادثة عين الرمانة، ليبدأ تناوب رعدَ الرصاص والاغتيالات في يوميات حرب أهلية ستكون تمهيداً للرحيل الفلسطيني الكبير عقب الاجتياح الإسرائيلي.
لم تكن عاصمة الحداثة العربية قد أكملت مشروعها الحداثي بعد في منتصف السبعينات من القرن الماضي، عندما انشطرت على ذاتها وسكانها في حرب أهلية كانت إحدى مفارقاتها الصغيرة تحدث في ساعة غناء مستقطعة من الحرب، ساعة يختار فيها المقتتلون -معا أو على حدةٍ- التخليَ عن عبء السلاح وحراسة السواتر الرملية، مستريحين إلى «صوت فيروز الموزعُ بالتساوي بين طائفتين» وهو يغني لدرَج الورد على مدخل البيت، وسط فرقعة الاشتباكات بين الأزقة. لكأن أجراس الصوت الفيروزي التي ترن بين النافذة والشارع هي الأرض الأخيرة الموحدة والمحايدة التي تُؤالف على بساطها بين عائلة الأعداء، كما يُسجل محمود درويش في قصيدته الملحمية «بيروت»، القصيدة التي جاءت محاولةً شعرية لترميم اسم هذه المدينة من آثار الرصاص والقذائف التي شوَّهت واجهتها البحرية، قصيدةً للتصالح مع المكان، لوداعه الأبدي ربما، لم يكتبها شاعرها لنسيان الحرب بل لتعقيمها كالجرح الراعف في متحف الذاكرة.
مطلع عام 1981 تعلن إسرائيل عن رغبتها في تحريك الخرائط قليلاً، ضمن مشروع صهيوني أمريكي كبير يحلم برسم «شرق أوسط جديد» وفي إطار سياسة أمنية تقوم على مبدأ التوسع الوقائي الذي يعكس قلق إسرائيل الأبديَّ من الجغرافيا، وهي فلسفة هجومية/ دفاعية كانت ملامحها قد بدأت مع سياسات بن غوريون المؤسس، الذي صرَّح أوائل الخمسينات قائلاً: إن أفضل من يقرر نهاية حدود «دولة إسرائيل» هو الجيش الإسرائيلي وحده.
بدأت سياسة التوسع الوقائي صوب لبنان بإنشاء دولة الاحتلال لما عُرف بـ«الحزام الأمني» مع الحدود اللبنانية في الجنوب؛ وذلك بذريعة حماية المستوطنات من جمرات سلاح الكاتيوشا الفلسطيني. إلا أن مشروع التدخل الإسرائيلي في لبنان أخذ زخما أكبر بعد دخول القوات السورية إلى الميدان بطلب رسمي من الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، فأعلن الجيش الإسرائيلي أن قواته البرية ستزحف فوق جغرافيا البركان مسقوفةً بسلاح الجو، وكان الهدف المعلن هذه المرة هو إبعاد الجنوب اللبناني عن خط التماس أربعين كيلومتراً إلى الداخل، أي إبعاد فلسطين عن فلسطينها أربعين كيلومتراً إلى الشمال. وانتظر شارون طويلاً غمزة من الرئيس الأمريكي رونالد ريجان آنذاك، لكن الأخير طلب من وزير الدفاع الإسرائيلي أن يتريث قليلا، ريثما يشهد العالم على استفزاز صريح يبادر به فصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث يمكن استغلاله إعلاميا لتبرير حملة عسكرية على الوجود الفلسطيني في لبنان، التي ستحمل عنوان «سلامة الجليل».
في الثالث من يونيو عام 1982 أطلقت الرصاصات التي ستشُل شلومو أرغوف، السفير الإسرائيلي في لندن، كهديةً منتظرة لجنرالات الحرب الموعودين بعملية خاطفة تستهدف «البنية التحتية» لمنظمة التحرير الفلسطينية. وما هي إلا ثلاثة أيام فقط حتى أعلنت القوات الإسرائيلية غزوها الشامل للبنان صباح الـ6 من يونيو، في تاريخ يعيد إلى الأذهان ذكريات نكسة 1967. وبعد أسبوع واحد فقط من صدمة الاجتياح وتقهقر الدفاعات الفلسطينية في الجنوب، وفي عز انشغال العالم العربي بتطورات حرب الخليج الأولى بين العراقيين والإيرانيين، سيجد اللبنانيون والفلسطينيون أنفسهم بخندق واحد، في عاصمة عربية محاصرة تحفر أعماقها الصلبة بحثا عن الماء، وتقتصد في الخبز والمؤونة لتحيا يوما آخر في ظل الحصار، تحت القصف الذي يطال كل شيء تقريبا، حيث كلُ ساكن ومتحرك قابل للانفجار في أي لحظة.
بعد شهرين من الحصار الضاري في «ملحمة ستالينجراد» كما أرادتها غرفة العمليات اللبنانية الفلسطينية المشتركة، بدا واضحا أن التاريخ يستدرج الفلسطينيين مرة أخرى من المنفى إلى المنفى. إلى أين هذه المرة؟ إلى وجهة غير معلومة، لكنها بالتأكيد ستكون أبعد ما يكون من سابقاتها عن فلسطين. أخيراً تنجح الوساطات الدولية في رفع الحصار عن بيروت بشرط واحد: أن تخرج البندقية الفلسطينية من لبنان بلا عودة. وهكذا مرةً أخرى، بعد أقل من عقد ونصف العقد على الخروج الدامي من عمَّان، يرحل الفدائي الفلسطيني عن عاصمة عربية أخرى ولكن عبر البحر هذه المرة، يستقبل مجهول الآفاق إلى أرض غير واضحة بعد... يصعد ياسر عرفات إلى السفينة «أتلانتيس» تحت عيون المناظير الإسرائيلية، ويسأله الصحفي: إلى أين؟ فيجيب: «إلى فلسطين»!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ثلاثة أسئلة من خارج المنهاج
صراحة نيوز- بقلم / نضال المجالي
عايشنا قبل أيام حالة من الغضب بين الطلبة وأولياء الأمور والمعلمين، بسبب أحد نماذج أسئلة مبحث في الثانوية العامة، والتي كان عنوان الجدل فيها: «أسئلة من خارج المنهاج». وقد تصاعد الحديث إلى حد وصوله إلى أروقة اللجان في البرلمان الأردني، ليُوصَف لاحقا بأنه قضية رأي عام!
ما علينا من كل هذا «الحكي»، فهذه أسطوانة سنوية تتكرر ما دامت امتحانات الثانوية العامة «التوجيهي» تُشكّل وسيلة التقييم الأساسية للطلبة في شكلها الحالي. في المقابل، نحن بحاجة إلى طرح أسئلة أخرى للمعنيين، نأمل أن لا تكون «من خارج المنهاج» في أولويتها، على قطاعات هي أساس إدارة الحياة في الأردن حاضرا ومستقبلاً.
السؤال الأول: هل دواؤنا وغذاؤنا آمنان؟
في ظل ما نشهده من حديث مجتمعي واسع من حالات تراجع وضعف وغياب للرقابة على جودة وسلامة بعض المنتجات الأردنية، بغض النظر عن نوعها أو حكمها شرعاً، أو حتى طريقة توزيعها، يُطرح تساؤل جوهري: هل مَن اضطروا لشراء المنتج الرديء والرخيص بسبب ضيق الحال، كانوا وحدهم الضحية؟ ألا يمكن أن تكون هناك أخطاء أو تقصير حتى في المنتجات الأعلى جودة؟ فتكون الضحايا من طبقات أخرى فيكون الجميع في ضرر!
تخيل لو كان الغش أو الخطأ في منتج شعبي واسع الانتشار أو من الأجود منها لرأينا أسماء معروفة، وأعداد أكبر ترقد على أسرّة الشفاء، أو فقدهم أهلهم!
ولتنشيط ردة الفعل، أدعو كل مَن يقدر على شراء المنتج «الغالي» أو الشعبي الأكثر انتشارا أن يسأل نفسه: ماذا لو كنتُ أنا الضحية؟ نتيجة غش، أو عبث، أو تقصير، أو تهاون فيما يفترض أنه آمن! لعل هذا السؤال يُعيد ويعزز ويشدد التأكيد على ضرورة دعمهم لفرض أقصى العقوبات، وأعلى درجات الرقابة مستقبلاً لا الانسحاب من المشهد عاجلا!
السؤال الثاني: هل اقتصادنا واستثمارنا السياحي فاعلان في كل الظروف؟
منذ جائحة كورونا، ونحن نعيش ارتداداتها المتواصلة، ولم نتنفس سوى قليل في نتائج عام 2023، والتي كان محركها الشغف بالسفر بعد «السجن الانفرادي» الذي فرضته علينا كوارث الطبيعة والبشر.
وبعد تنفس مؤقت واجهنا جائحة الإلغاءات في حركة السفر بسبب حروب المنطقة، نسأل: هل يكفي أن تتحمل هيئة تنشيط السياحة وحدها عبء ضمان الانتعاش والاستمرار؟
رغم أنها الذراع التسويقي الأساسي للأردن، إلا أن واقعها – ماليا – بما يخصص لها غالباً ما يجعل إرادتها في الانطلاق لأوسع أفق وتحدي وانتشار مشلولة. ومع ذلك، تجد الأغلب يحاسبها على أرقام وموازنات لا تكفي أحيانا لتسويق منتج إلكتروني أو غذائي أو تجميلي لشركة ما وليس ما هو باتساع الوطن!
ولتنشيط ردود الفعل، أتساءل: لماذا لم تُؤسَّس حتى اليوم شركة تسويق أردنية ممولة من مستثمري ومشغّلي القطاع السياحي؟ أم أننا نكتفي بمهاجمة الهيئة وكأنها تملك عصا موسى، بينما نغضّ الطرف عن تقصيرنا في التفكير أو المبادرة؟
السؤال الثالث:
هل حالنا السياسي الداخلي ووعينا السياسي في بحبوحة ونضج كافيين لجعل التمثيل السياسي في البرلمان الأردني تمثيلاً حزبياً حقيقياً؟
تمثيل يُحكم باختيارات ما زالت عشائرية تُحدد عدد المقاعد المقبلة تصاعدياً، في وقت ما زالت تدار أغلب الأحزاب بعقلية «الشيخة السياسية» في اختيار قياداتها، أو بعقلية «نحن وحدنا خلفاء الله في الأرض» وكأن البقية من ديانة أخرى أو جنسيات متعددة!
بهذا النهج، صعد بأعلى المقاعد مَن هم أهل خراب وفساد، وهبط أو تراجع حلم مَن يدّعون أنهم أهل لخدمة الوطن.
اطرح ثلاثة أسئلة، لا أكثر، كل واحد فيها يمثل محورا من محاور الإصلاح الثلاثة الإداري والاقتصادي والسياسي أضعها أمام القائمين على صياغة أسئلة الامتحانات وجهات إنجاح المحاور ولن أزيد عليها لإيماني أنها وحدها -وأقصد الاسئلة وأجوبتها- قادرة على تحسن النتائج وخفض نسبة الرسوب أو زيادتها. ورغم أنها نابعة من صلب «منهاج حياتنا اليومي»، إلا أننا سنبقى ندور حول إجاباتها، وندعي أنها من خارج المنهاج، ونشكك بها، بدل أن نُصدق أنفسنا، ونتحمل مسؤولية الإجابة عليها أمام أعلى المستويات.