الكتاب: تحولات بنية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر ( الصراع الثقافي نموذجا)
الكاتب: منصور أبو كريم
الناشر: مركز فينيق للبحوث والدراسات الحقلية الطبعة الأولى غزة - فلسطين 2024م
عدد الصفحات: 207 صفحة

بعد أن سبق للكاتبة إلهام جبر شمالي تقديم قراءة لكتاب "تحوّلات بنية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر"، تأتي قراءة الباحث التونسي أحمد القاسمي اليوم لتشكّل إضافة نوعية في سياق ما آلت إليه حرب الإبادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني منذ قرابة عامين، حيث يستعرض د.

منصور أبو كريّم تحوّلاً جوهريًا في بنية الصراع من صراع على الأرض إلى صراع على الهوية والتراث والحضارة، بعد أن بسطت إسرائيل سيطرتها شبه الكاملة على الجغرافيا الفلسطينية. ويُبرز الكتاب التداخل العميق بين المشروع الاستيطاني والبعد الديني والاستعماري الكولونيالي، مسلطًا الضوء على محاولات محو الهوية الفلسطينية وسرقة تراثها، ليؤكد أن ما يجري اليوم هو حرب ثقافية موازية للحرب العسكرية، تستهدف الوجود الفلسطيني برمته، وهو ما تجسّده عملية 7 أكتوبر وتداعياتها، بوصفها نقطة تحوّل مفصلية كشفت زيف سردية "الجيش الذي لا يُقهر"، وأعادت تعريف جوهر الصراع كصراع وجودي شامل.

ـ 1 ـ

تمثل الأرض جوهر الصراع العربي الإسرائيلي ومحدده الرئيسي. ولعلّ المقولة التاريخية التي تشير إليه باعتباره "صراع وجود وليس صراع حدود" تختزله جيّدا. فما تواجهه فلسطين إنما هو استعمار استيطاني يعمل على أن يُحلّ أفرادا وافدين من مشارق الأرض ومغاربها بدلا من شعب آخر قائم، ويعمل على محو تاريخ أصلي كتب على أرض فلسطين وكتابة أخر زائف على الصفحة نفسها بعد تغيير تسميتها ولذلك كانت كل المعارك، العسكري منها والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، تتأثر بطبيعة هذا الصراع.

كانت خارطة الطريق واضحة بالنسبة إلى الحركة الصهيونية منذ البداية. فهي تدرك أنّ إحلال المستوطنين بــ"أرض الميعاد" لن يتحقّق إلاّ باقتلاع أصحاب الأرض الأصليين ونفي وجودهم وحقهم في أرضهم عبر تطهير عرقي يرغمهم عن التخلي عن وطنهم والتفرّق في الشتات أو إبادتهم إن هم أبدوا صمودهم.ولذلك أيضا ارتبط نشاط الحركة الصهيونية على الاستيلاء على الأرض، بطرق مختلفة تدرّجت من اقتناء بعض الأفراد أو المؤسسات للأراضي من أصحابها أو من متحوزيها من رجالات العسكر العثماني، إلى طرد أهلها وسكانها الأصليين لمّا اكتسبت العصابات الصهيونية أسباب القوة، إلى توظيف أسلحة الدمار الشامل اليوم وارتهان القرار الدّولي بعد التحالف مع القوى الدولية والنجاح في تشتيت القرار العربي ومشاغلة الحكام العرب بالمحافظة على استقرار حكمهم وتمزيق الوحدة الفلسطينية.

لقد كانت خارطة الطريق واضحة بالنسبة إلى الحركة الصهيونية منذ البداية. فهي تدرك أنّ إحلال المستوطنين بــ"أرض الميعاد" لن يتحقّق إلاّ باقتلاع أصحاب الأرض الأصليين ونفي وجودهم وحقهم في أرضهم عبر تطهير عرقي يرغمهم عن التخلي عن وطنهم والتفرّق في الشتات أو إبادتهم إن هم أبدوا صمودهم.

ـ 2 ـ

ضمن لعبة

بعد سيطرة إسرائيل على أكثر من 90 في المائة من أرض فلسطين التاريخية، ظهر تحول جوهري في الصراع الذي يستهدف اختراع شعب وتفكيك آخر. فبات يستهدف شطب الهوية الوطنية الفلسطينية والسطو على التاريخ والتراث الحضاري والثقافي الفلسطيني، وتهويده كما تُهوّد الأرض والمقدسات الإسلامية.

انطلاقا من هذه الزاوية التي لا ننتبه إليها غالبا تناول الباحث منصور أبو كريم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. واتّخذ من الصراع الثقافي أنموذجا لتحولاته. وجعل دراسته ضمن حدود زمانية تبدأ بالعام 1967م، وهو العام الذي قامت فيه إسرائيل باحتلال باقي الأرض الفلسطينية، وتنتهي في عام 2023، بعد أشهر قليلة من عملية طوفان الأقصى. ولم يربط بحثه بحدود جغرافية يعينها. فعمّت دراسته كامل الأراضي الفلسطينية بما في ذلك ما تم احتلاله سنة 1948.

ـ 3 ـ

اقتضى المشروع الاستيطاني الصهيوني أوّل الأمر إذن العمل على السيطرة على أكبر قدر من الأرض الفلسطينية بما أسهم في تثبيت حقائق على الأرض. فقامت الحركة الصهيونية ببناء قاعدتها الديمغرافية اليهودية بمساعدة بريطانيا. ووظفت في سبيل ذلك مقولتين أساسيتين من المقولات الدينية اليهودية.

كان مدار المقولة الأولى على فكرة "الشعب المختار" التي ترسّخ فكرة عنصرية تعتقد بأنّ اليهود أسمى في جوهرهم من جميع البشر الآخرين، وتؤمن بأن هذا السّمو جاء بتقدير إلهي. فقد جعلهم خاصته وصفوة خلقه. فجاء في سفر التثنية: [لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدِّسُ لِلرَّبِّ إليكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ].  واعتمادا على هذا التصوّر تأصلت لديهم فكرة انفصالهم عن الآخرين وانعزالهم في حارات خاصّة بهم. أما وقد بات لديهم "وطنهم الخاص" فقد أسست هذه القناعة لشرعية تطهير الأرض من الفلسطينيين أو إبادتهم إن اقتضى الأمر.

ومثلت "أرض الميعاد" أساس المقولة الثانية. فالحلم بالوطن الخاص ركيزة أساسية في تشكيل الهوية الدينية. ولذلك لم يجد زعماء الحركة الصهيونية أي صعوبة في إقناع يهود المهجر أو الشتات بأنّ الهجرة إلى "الوطن القومي الجديد" عمل عبادي. ومنذ مؤتمر بازل عام 1897 قدّموا الاستيطان بوصفه حقا طبيعيا لليهود يجب العمل على تعزيزه وإيجاد الظروف المواتية له.

وبعد إعلان قيام الدولة الإسرائيلية وما أحاط بها من إبادة وتهجير و تطهير عرقي وجدت الحركة الصهيونية في هزيمة حزيران عام 1967 فرصة لتنفيذ مخططاتها بالسيطرة على ما تبقى من الأرض الفلسطينية وجعل القدس مدينة يهودية خالصة. وظهرت ثلاث اتجاهات مختلفة. فتبنت القوى الدينية المتطرفة حل مشكلة الفلسطينيين عبر ترحيلهم عنوة خارج البلاد، للتخلص من الأعباء الأخلاقية التي تترتب على بقائهم.

وتبنى اليمين المتطرف ـ وعلى رأسه حزب الليكود، فكرة ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى إسرائيل، عبر توسيع المستوطنات ومنح الفلسطينيين حكمًا ذاتيا محدودًا. أما اليسار فكان أميل إلى تنفيذ مبدأ "حل الأرض مقابل السلام". ولكن رغم تباين المرجعيات أو المواقف المعلنة ظاهرا يظل التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين على الأرض واحدا. فعمليا أسهمت مختلف الأطراف في تطويق المدينة المقدسة بمجموعة من الكتل الاستيطانية من كافة الجهات وأعاقت كلّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية.

ـ 4 ـ

يمثل ما تقدّم ذكره المستوى الظاهر من الصراع وفق الباحث. أما المستوى الخفي منه الذي يراد له تأبيد الواقع المفروض على الأرض فحضاري، على صلة بالهوية. وهوية الأمة وفقا للمرجعيات التي يعتمدها الباحث هي تاريخية أولا وبناء اجتماعي ثانيا، يشكّله التفاعل بين المجموعات المتعايشة وانصهار أفرادها في وجود مجتمعي منسجم وإن تعلق بالتخيل أكثر من كونه عنصرا موضوعيا.  فهو تجسيد لتصور مجموعة ما لما بجعلها تميّيز عن الآخرين، تلك السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات. وهي مفهوم رمزي ثالثا. فما ذكر يتحوّل إلى منظومة متكاملة من المعطيات المادية والمعنوية والاجتماعية ومن القيم الثقافية المشتركة التي يمكن إعادة صياغتها وتطويعها بما يخدم تلك المجموعات ويحدّد كينونتها.

عد إعلان قيام الدولة الإسرائيلية وما أحاط بها من إبادة وتهجير و تطهير عرقي وجدت الحركة الصهيونية في هزيمة حزيران عام 1967 فرصة لتنفيذ مخططاتها بالسيطرة على ما تبقى من الأرض الفلسطينية وجعل القدس مدينة يهودية خالصة. وظهرت ثلاث اتجاهات مختلفة. فتبنت القوى الدينية المتطرفة حل مشكلة الفلسطينيين عبر ترحيلهم عنوة خارج البلاد، للتخلص من الأعباء الأخلاقية التي تترتب على بقائهم.إذن ليست الهوية كتلة صلبة جامدة، وإنما هي حقيقة تتطور وفقًا لمنطقها الخاص: متحركة ومتطورة مع تطور حركة التاريخ يحددها الباحث انطلاقا من عدة عوامل تسهم في تشكيلها. منها العامل التاريخي الذي يخضع لظروف المجتمع والعامل الثقافي وهو يمكن تحديده بعدد من العناصر. منها اللغة والدين والعادات والتقاليد والقيم المشتركة التي أنتجتها تجارب ذلك المجتمع نفسه. ومنها  العامل السياسي وكُل ما يرتبط بالدساتير والقوانين ومنها العامل الاقتصادي الذي يخص مقدرات المجتمعات وثرواتها.. وانطلاقا منها تدافع المجموعات عن مصالحها المشتركة.

انطلاقا من هذه المعطيات يحدّد الباحث سياق بروز الهوية الوطنية الفلسطينية. فقد مثلت وعيا جماعيا بالذات، بما يميزها عن العرب الآخرين الذين يشتركون معها في اللغة والدين والثقافة. وجاءت ردة فعل عن إنكار الدراسات الإسرائيلية لوجود هوية وطنية فلسطينية وارتبطت بالنضال ضد المشروع الصهيوني. ومقابل الانسجام في التصور الهووي الفلسطيني تعاني إسرائيل من أزمة هوية شاملة. صحيح أن بعدا نفسيا روحيا يجمع بين أغلب اليهود. فقد عاشوا ضمن مناطق معزولة عن المجتمعات، شأن الشنتل "المدينة الصغيرة" على تخوم هموشاف" أو محيط الاستيطان اليهودي في شرق أوروبا، أو "الجيتو" في غربها ووسطها. وجعلوا من عزلتهم درع أمان للحفاظ على الذات اليهودية. ولكن هذه الأزمة تتصل بطبيعة تكوينها باعتبارها خليطا عرقيا إثنيا متعددا. فيمثل اليهود الشرقيين السفارديم نصف سكان إسرائيل من اليهود ويتشكل نحو النصف الآخر من الغربيين "الإشكناز" والذين هاجروا من أصول حضارية مختلفة. أما اليهود الروس الذي وفدوا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد جاؤوا  مُحمَّلين بثقافات وعقائد مختلفة؛ ومشاعر وقناعات بعيدة عن الأيديولوجيا الصهيونية. ورغم المماثلة بين  الدين والقومية لم يتحقق الانصهار المجتمعي.

ـ 5 ـ

تحاول إسرائيل، لمواجهة الانسجام المجتمعي الفلسطيني ومواجهة ما تعيشه هي من تحلل، عبر شرذمة وحدة الفلسطينيين وإضعاف انتمائهم المشترك وتمزيق نسيجهم الاجتماعي. واليوم تمثل صفقة القرن التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي ترامب في بداية العام 2020 أملها في إنقاذ هويتها المتحلّلة. فتراهن على استكمال بناء الدولة العبرية اليهودية الكبرى التي تمتد من نهر الأردن للبحر المتوسط وعلى تصفية ما تبقى من كيان فلسطيني في الضفة الغربية والقدس الشرقية ودمج ما يمكن دمجه في دولة الأردن وتحرص على بقاء قطاع غزة بعيدًا عن مركز التأثير الفلسطيني.

وفي البال استبدال سكانها الأصليين بمستوطنين يهود انطلاقا من  وحشية عنصرية فاشية حددها "سموتريتش حين وضع الفلسطينيين، أمام خيارات ثلاث. فإما أن يعيشوا في دولة يهودية وإما أن يهاجروا خارج فلسطين. وإما أن يموتوا بالقتل الذي ينتظرهم. فهذا السياسي والمحامي الإسرائيلي  الذي ينتسب إلى أقصى اليمين ينكر وجود "فلسطين" أصلا، إذ يرى أنها "أمة" "لم تكن موجودة قبل المشروع الصهيوني"، وأن "فلسطين" كانت الاسم الجغرافي لهذه القطعة من الأرض ولا شيء آخر".

ـ 6 ـ

يتجلى صراع الهوية في محاولات سرقة إسرائيل لكل الأبعاد التراثية والثقافية الفلسطينية المادية واللامادية، بأشكال وصور مختلفة ومتعددة. ففضلا عن سرقة الآثار الكنعانية وتحويلها إلى المتاحف والمعارض الإسرائيلية وفضلا عن تهويد أسماء المدن والشوارع الفلسطينية والمحاولات المستمرة لتهويد مدينة القدس ومقدساتها، تمتدّ يدها إلى اللباس الفلسطيني بما فيه من أزياء وتصاميم وتطريز وإلى الأكلات الشعبية الفلسطينية. ويندرج سعيها هذا ضمن عملها على نسف التاريخ الفلسطيني واجتثاث شواهده بعد إنكارها لوجوده.

وهذا السعي يتم بوعي وتصميم وتخطيط. فمنذ النكبة أقامت إسرائيل لجنة سميت لجنة "الأسماء الحكومية". وتمثّلت وظيفتها في تبديل الأسماء العربية الأصلية إلى أسماء يهودية. ويتم هذا التزوير تحت مسميي: التهويد والأسرلة.

ـ 7 ـ

يناقش إذن الباحث منصور أبو كريم تحولات بنية الصراع بين الفلسطينيين والحركة الصهيونية، آملا في أن يستفيد الباحثون المهتمون وأصحاب القرار من منجزه. ويحدّد مواضيع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ثلاثة عناصر رئيسية. أولها الصراع على الأرض التي هي أساس المشروع الكولونيالي الاستعماري الصهيوني. وخسارة الأرض بتهجير الفلسطيني منها عنوان كبير لنكبة الفلسطينيين. وثانيها الصراع على الهوية. فالتعلق الوجداني للفلسطينيين بأرضهم اعتزازهم بالانتماء إليها والأمل في استعادتها، يمثل عائقا يحول دون تأبيد خسارتهم لأرضهم. وثالثها الصراع على التراث باعتباره مقوما مهما من مقومات الهوية. لذلك تعمل إسرائيل عبر التهويد والأسرلة على سرقة الموروث الثقافي الفلسطيني وطمس أحد أساسيات ارتباط الفلسطينيين بهذا المكان.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الفلسطيني فلسطين كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحرکة الصهیونیة الأرض الفلسطینیة انطلاقا من تطهیر عرقی على الأرض منصور أبو من الأرض صراع على

إقرأ أيضاً:

المقاومة الثقافية في ظل الصراعات

تشكِّل المقاومة الثقافية أحد أنواع النضال التي تتخذها المجتمعات عندما تحتدم الصراعات السياسية أو الاقتصادية أو التقنية، وتسود الهيمنة الدخيلة التي تحاول طمس الثقافات الوطنية أو تشويهها أو حتى جرِّها إلى منعطفات بعيدة عن منطلقاتها ومبادئها ومرتكزاتها الحضارية والأخلاقية؛ فالمقاومة هنا فعل يرتبط بالقدرة على حماية تلك الثقافات من براثن الاستلاب.

إن المقاومة الثقافية تقوم على إبداع وسائل أدبية وفنية تهدف إلى حماية الهُوية الوطنية والتصدي للقوى الدخيلة التي تلج المجتمعات في أشكال استعمارية مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ تحدث على المستويات الأيديولوجية الفكرية، وتظهر في التحولات التقنية والاقتصادية والسياسية، التي لا تغيِّر الأنماط الثقافية للمجتمعات وحسب، بل أيضا تحاول التشكيك بمرتكزاتها القيمية والأخلاقية.

لذا فإن المقاومة باعتبارها أسلوب من أساليب (الرفض)، تستخدم التراث الثقافي والإبداعات الثقافية للتعبير عن ذلك الرفض، وفق معطيات تعكس الجوهر الحضاري للمجتمعات، وقدرتها على حماية مكتسباتها الثقافية والحضارية من ناحية، وتعزيز مجالات الصمود في وجه الهيمنة الثقافية الوافدة ومواجهتها، والقدرة على إنتاج أو إعادة إنتاج مجالات ثقافية تتناسب مع التطورات الحديثة وتواكب المتغيرات من ناحية، وتتوافق مع المرتكزات الحضارية والثقافة الوطنية من ناحية أخرى.

ولقد اتخذت الدول أساليب متعددة لمواجهة تلك الهيمنة التي أخذت تتطوَّر في أشكالها وأساليبها وتدخل إلى أنماط حياة الشعوب بطرائق ناعمة؛ حيث نجد المقاومة الثقافية في تلك الإنتاجات الأدبية مثل النصوص السردية والشعرية والنصوص المسرحية، وفنون التصوير والتشكيل، التي ظهرت في أنماط جديدة من التعبيرات البصرية بل وحتى السمعية، إضافة إلى ما يقدِّمه التراث الثقافي من تنوُّع على مستوى الإنتاجات التي عبَّرت عن قدرتها على إيجاد مواقف جديدة لحماية الهُويات الوطنية.

ولأن العالم بشكل عام والشرق الأوسط خاصة يعاني منذ عقود من تحديات أيديولوجية على المستوى السياسي والاقتصادي والتقني فإن هذه المعاناة تقابلها تلك الإمكانات الهائلة التي تقدمها مجتمعاتنا في سبيل الحفاظ على هُوياتها الوطنية، وإنتاج ثقافة جديدة تتناسب مع العمق الحضاري الذي تنتمي إليه، ولهذا فإن مقاومتها الثقافية تتخذ فلسفة نابعة من الوعي بالخطر الفكري الذي يحيط بالمجتمع إذا ما سُلب هُويته الحضارية وانقطع عن جوهر ثقافته وانبتَّ من أصوله.

إن هذا الخطر يزداد في ظل الصراعات والحروب السياسية المهيمنة، والأيديولوجيات التي تتخذ من الصراعات الاقتصادية والتقنية، وإرادة هيمنة القوى خاصة في مناطق الصراع التي تشتد وطأة في ظل عمليات القتل والتهجير والنفي والدمار الذي يطال المجتمعات، فإن الدفاع عن الهُويات الحضارية على المستويات الوطنية والقومية يزداد أهمية وإلحاحا في سبيل مجابهة تلك القوى والتعبير عن التمسُّك بالقيم الحضارية والمرتكزات القومية القائمة على المشتركات الإنسانية والتاريخية.

ولعل احتدام هذا الصراع خلال السنوات الأخيرة وامتداده إلى سوريا ولبنان واليمن ومؤخرا في إيران، يكشف عن التحولات الأيديولوجية للصراعات في الشرق الأوسط وحالات الاستلاب التي يصفها إدورد سعيد بـ (طبيعة الاستنساخ في بنية الخطاب الصهيوني)، الأمر الذي يصوِّر في المقابل ما يحدث من مقاومات ثقافية ليس على المستوى العربي وحسب بل على المستوى الشعبي العالمي، ذلك لأن خطاب التظليل والتزييف ومحاولات القضاء على الهُويات الثقافية الوطنية وإعادة تشكيلها وفق أجندات مسيَّسة بات مكشوفا وفاضحا.

إن الخطابات المظللة التي تحاول إعادة تشكيل الهُويات، وتأسيسها بناء على أيديولوجيات سياسية تتجاوز المبادئ الإنسانية والأخلاقية نحو رأسمالية متعالية، تظهر في تمثيلات تحاول الاستحواذ على الذاكرة والتاريخ بل وحتى الإنسان، لتجرِّده من هُويته الوطنية وانتماءاته الحضارية، بُغية السيطرة على وعيه وقدرته على الدفاع عن وطنه ومكتسباته، لتصبح المجتمعات تحت وطأة الاستعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأخلاقي.

لذا فإن المقاومة الثقافية اليوم تتصدَّر المشهد المضاد لتلك الصراعات؛ فما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من خطابات وتداولات وما يقدمه الشعراء والكُتَّاب من آداب، وما يبدعه المصورون والفنانون التشكيليون من لوحات وجداريات معبِّرة عن الرفض تارة، وساعية إلى حماية هُوية المجتمعات تارة أخرى،إضافة إلى ما يقدمه المسرح بأشكاله ومدارسه المختلفة، ذلك وغيره يقدِّم في ظل التطورات التقنية والإعلامية الجديدة صورا مقاوِمة للاستعمار والحروب والصراعات، وحامية للهُوية الثقافية والمكتسبات الحضارية للشعوب.

إن هذا الوعي الشعبي الذي يؤمن بأهمية المقاومة الثقافية باعتبارها أساسا جوهريا للأمم، لا يتجسَّد في الأنواع الأدبية والفنية وحسب، بل إن ما نقدمه وما نعبِّر عنه في المنصات الإلكترونية يجب أن يكتسب حالة الوعي نفسها، فالهدف الرئيس لتلك المشاركة لا يتجلى في الغضب والرفض والمجادلات التي تثير التعصب، بل في ذلك التمثيل الحقيقي للثقافة الوطنية القائمة على المرتكزات الإنسانية الداعية إلى السلام والحوار والمنتجة للإبداع والفكر الذي يحمي الهُوية ويعزِّز الصمود ويقدِّم الإنتاج الثقافي الهادف والمعبِّر عن مقاومته ورفضه للحروب والدمار والقتل.

ولأننا لسنا بعيدين عن دائرة الصراعات والحروب، فإن علينا واجبا فيما ننتجه وما نبدعه ثقافيا وما يمكن أن نقدِّمه في سبيل الدعوة إلى السلام ونبذ الحروب والدمار والخراب للمجتمعات؛ فالمثقف اليوم يحمل رسالة إنسانية وأمانة عليه أن يؤديها لأمته خاصة للشباب والناشئة، فما يبدعه شعرا ونثرا وفنا وأداء يعبِّر عن فكره وقدرته على حماية مجتمعه وثقافته، ويؤسِّس لمسار الرأي العام الذي يمثِّله، لذا فإن حكمته وقدرته على الصمود في وجه المتغيرات ورفضه المساس بمجتمعه الوطني والقومي والقبض على القيم والأخلاق سيكون المعوَّل عليه لتلك الحماية المجتمعية.

إن المشاركة الواعية والإنتاج المبدع لفعل المقاومة الثقافية سيمثِّل أداة مهمة للتطوُّر المعرفي والفكري لفهم متطلبات المرحلة المصيرية المهمة التي تمر بها المنطقة، والتي تشهد تحولات ليس على المستوى السياسي واحتدام الصراعات فقط، بل أيضا على المستوى الأيديولوجي والثقافي الذي يسعى إلى تفريق المجتمعيات وزعزعتها من الداخل، ولهذا علينا الحذر وحماية مجتمعنا وأفكار شبابنا من مغبة الانزلاق في متاهات هذه الصراعات والانشقاقات.

فالمقاومة الثقافية تقوم على الوعي الذي يوازن بين متطلبات المرحلة ومتغيراتها، وبين حماية هُوية المجتمع ومكتسباته الحضارية، لإنتاج أنماط جديدة من الثقافة الإبداعية التي تتجلى في الآداب والمسرح والفنون والكتابات الفكرية وغيرها، والتي تثري الثقافة الوطنية وتعبِّر عن فكرها المنفتح.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

مقالات مشابهة

  • إيران بين المكاسب والخسائر: قراءة في حصيلة المواجهة مع إسرائيل بعد وقف إطلاق النار
  • “الأحرار الفلسطينية” تحمل العدو الصهيوني المسؤولية عن حياة الأسرى الفلسطينيين
  • خبايا صراع الظلام بين إسرائيل وإيران
  • من هي نيهال جاندان التي رحلت بعد صراع مع الأنوركسيا؟
  • ما هي المنشآت النووية الثلاث التي استهدفتها الولايات المتحدة في إيران؟
  • على الخريطة.. مواقع الضربات الأمريكية التي دمرت تماما أبرز منشآت نووية
  • ما هي القاذفات الشبحية «بي-2» التي استخدمتها أمريكا في قصف إيران؟
  • روسيا تقدم عرضًا تاريخيًا لإنهاء التوتر بين إسرائيل وإيران
  • الخارجية الفلسطينية تحذر من تصاعد جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني
  • المقاومة الثقافية في ظل الصراعات