نزهة في رحاب روايات ماريو فارغاس يوسا أحد أعظم كتّاب الأدب الناطق بالإسبانية
تاريخ النشر: 28th, May 2025 GMT
ترجمة: حافظ إدوخراز -
يُعَدّ ماريو فارغاس يوسا - الكاتب والأكاديمي الذي وافته المنيّة في الثالث عشر من شهر أبريل الماضي - من كبار الرّوائيين المنتمين لحقل الأدب الناطق باللغة الإسبانية. وُلد فارغاس يوسا في البيرو سنة 1936، وكان آخر من تبقّى على قيد الحياة من جيل «الطّفرة الأدبية» في أمريكا اللاتينية. لقد امتدّت مسيرته الأدبية الغزيرة على مدى أكثر من ستة عقود تميّز خلالها بكونه كاتبا «شاملا»؛ فقد أبدع في كل من الرواية والمقالة والمسرح والمقال الصحفي بنفس القدر من البراعة.
حصل على عدة جوائز مثل جائزة أمير أستورياس سنة 1986، وجائزة ثيربانتس سنة 1994، وجائزة نوبل للآداب سنة 2010؛ تكريما لمساره الأدبي وأعماله السردية الضخمة التي تطوّرت مع مرّ الزمن من حيث المواضيع والأسلوب، بدءا بالواقعية الاجتماعية الخالصة في بداياته، ووصولا إلى التجريب الشكلي والتأملات التاريخية والأخلاقية في أعماله الأخيرة.
بدايات «شاملة»
برز ماريو فارغاس يوسا على الساحة الأدبية خلال ستينيات القرن الماضي في أوج ما سُمّي بـ«الطفرة الأدبية»؛ بفضل أعمال روائية اتّسمت بالواقعية الاجتماعية والطموح الشامل (السعي إلى احتواء الواقع في شموليته وتعقيده/ المترجم). لقد قدّمت أولى رواياته، «المدينة والكلاب» (1963/ التواريخ المذكورة في هذا المقال تتعلّق بتاريخ أول إصدار للرواية في نسختها الإسبانية)، صورة صادقة تعكس الحياة داخل مدرسة عسكرية في العاصمة ليما، وتطرّق فيها الكاتب لمواضيع العنف والتراتبية العسكرية، والتمزّق الأخلاقي الذي أصاب المجتمع البيروفي. وتشهد البنية السردية المبتكرة في هذه الرواية من خلال تنقّلها بين وجهات نظر متعددة وقفزاتها الزمنية، على ميول الكاتب التجريبية منذ بداية مسارة الأدبي.
أمّا «البيت الأخضر» (1966) فهي عمل روائي ذو بنية سردية معقّدة تتحدّى التسلسل الزمني الخطّي، وتتشابك فيه عدة حبكات ومسارات سردية من بيت على رمال بيورا (مدينة تقع في شمال غرب البيرو، قريبة من الساحل المطلّ على المحيط الهادئ/ المترجم) إلى أدغال الأمازون. وبنشره لهذه الرواية فرض فارغاس يوسا نفسه على الساحة الأدبية بوصفه سيدا في فن بناء السرد المتعدّد. وبعدها جاءت روايته «حديثٌ في الكاتدرائية» (1969) ليبلغ فارغاس يوسا بالتجريب حدوده القصوى؛ حيث نجح في رسم لوحة فنية بانورامية جسّدت واقع البيرو في ظل دكتاتورية مانويل أودريا (Manuel Odría)، وتمّكن من تقديم عمل روائي تتعدّد فيه الأصوات وتتراكب الأزمنة.
وعلى الرغم من تباينها من حيث الحبكة والأسلوب؛ إلا أن هذه الروايات الأولى في مسار الكاتب تشترك جميعها في رؤيتها البانورامية والنقدية للمجتمع البيروفي بالإضافة إلى بنيتها السردية المعقّدة. ونظرا لهذه السّمات؛ فقد صنّفها النقّاد في فئة واحدة تحت اسم «الروايات الشاملة» في إشارة إلى مشروع أدبي يطمح إلى احتواء الواقع بكل تعقيداته. وهو طموح تطلّع إليه فارغاس يوسا على غرار كتّاب آخرين ينتمون لـ جيل «الطفرة الأدبية».
لقد أشار فارغاس يوسا إلى تأثّره بالكاتب الأمريكي ويليام فوكنر (William Faulkner) على مستوى تعدّد الرّواة والقفزات الزمنية، وبالكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير (Gustave Flaubert) فيما يخص البناء المُحكم والسّارد المحايد: «لقد علّمني فلوبير أن الموهبة هي انضباط مثابر وصبر طويل، وعلّمني فوكنر أن الشكل ـ أي الكتابة والبناء ـ هو ما يمنح المواضيع ثراءها أو يُفقرها».
«الكذب الحقيقي»
شرع فارغاس يوسا انطلاقا من سبعينيات القرن الماضي في تنويع أساليبه السردية، والتخفيف جزئيا من سمة الطموح الشامل التي طبعت رواياته الأولى.
لقد خاض الكاتب في رواية «بانتاليون والزائرات» (1973) غمار تجربة السخرية الطريفة، إذ يروي العمل قصة نقيب في الجيش كُلِّف بمهمة غريبة تقضي بتنظيم خدمة دعارة مخصصة للحاميات العسكرية في الأمازون. تنطوي الرواية على طابع تهكمي ونقد مبطن للنزعة العسكرية وللبيروقراطية، وقد تبنّى فيها أسلوبا أكثر بساطة وأكثر خطّية من حيث التسلسل الزمني للأحداث. غير أن هذه البساطة الظاهرة لم تمنعه من بناء حبكات متوازية (التقابل السردي)، ومن تغيير زوايا السرد.
تندرج الأعمال التالية للكاتب ضمن حقل الميتا-أدب (métalittérature) والتناصّ الذاتي، فضلا عن استكشافها لأجناس أدبية شعبية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك رواية «الخالة خوليا وكاتب السيناريو» (1977)، التي تستند إلى أساس قوي من السيرة الذاتية. ففيها يتناوب البطل الشاب، الذي يُمثّل شخصية بديلة للمؤلف، بين سرد قصة بداياته الأدبية والعاطفية، وبين قصص غريبة ألفها كاتب سيناريو غريب الأطوار بُثّت عبر الإذاعة. يختلف هذان المستويان السّرديان من حيث الأسلوب والنّبرة، إذ يتّصف الأول بطابع حواري يُروى بصيغة المتكلم، بينما الثاني فلكلوري ويُحكى بصيغة الغائب.
كما ألّف روايات ذات طابع سياسي وتاريخي. ففي «حرب نهاية العالم» (1981)، اتّخذ الكاتب من البرازيل كما كانت في القرن التاسع عشر خلفية له ليعيد بناء ثورة كانودوس (Canudos) مستندا في ذلك إلى وثائق تاريخية دقيقة. أما في رواية «تاريخ مايتا» (1984)، التي بُنيت كتحقيق حول انتفاضة تروتسكية فاشلة في البيرو، فقد قدّم الكاتب شهاداتٍ متناقضة حول بطل مُتخيَّل.
تعزّز التقنية المتمثلة في تقديم نسخ متباينة عن حدث حقيقي في عمل خيالي الفكرة التي يتبنّاها الكاتب بأن الرواية هي «كذبة حقيقية». لقد سبق أن فكّر فارغاس يوسا في «حقيقة الكذب» في مقالات نشرها من قبل، حيث أكّد على أن الأدب يخلق عالما مستقلا عن الواقع يملك قواعده الخاصة وأصالته المتفرّدة، غير أن هذا العالم المتخيّل لا يقل أهميةً عن الواقع الموضوعي.
اللعب بالأنواع الأدبية
لقد جرّب فارغاس يوسا أنواعا سردية ، فكتب رواية «من قتل بالومينو موليرو؟» (1986)، وهي رواية بوليسية قصيرة تدور أحداثها في الريف البيروفي خلال خمسينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من أنها تبدو كرواية بوليسية بسيطة، إلا أنها تحوي نقدا اجتماعيا وإدانة ضمنية. أما في رواية «الرجل الذي يتكلّم» (1987)، فيتناوب خيطان سرديّان (أحدهما ذو طابع مقالي يكون الراوي فيه هو شخصية بديلة تتحدّث نيابةً عن الكاتب، والآخر تخيّلي يستند إلى ثقافة الماتشيغينغا (Machiguenga) في منطقة الأمازون)، وذلك بهدف مساءلة فعل السرد والتفكير في مسألة الاستيلاء الثقافي.
عمل فارغاس يوسا من خلال شخصية الراوي الشفهي، على استكشاف قوة السرد باعتباره وسيلة لبناء الهوية. كما خاض غمار السرد الإيروتيكي في روايته «امتداح زوجة الأب» (1988)، وهي رواية قصيرة ذات نبرة مرحة مستفزّة، اختبر فيها الكاتب حسّية الفن التصويري وجماليته من خلال المغامرات لعائلة برجوازية.
يُظهر هذا التنقل بين الأنواع الأدبية المختلفة كاتبا متعدد الوجوه، على استعداد لـ «اللعب» مع مختلف التقاليد الأدبية. وقد تمكّن على الدوام من فعل ذلك دون أن يتخلى عن أسلوبه المميّز الذي يمزج بين النّثر الرصين والبناء المُحكم والتأمل العميق حول المجتمع البيروفي أو طبيعة الرواية.
ما بعد السياسة
واصل فارغاس يوسا مسيرته الأدبية بعد مغامرته السياسية حيث ترشّح لرئاسة بلده البيرو وخسر أمام منافسه ألبرتو فوجيموري. وتُظهر الروايات التي ألّفها بعد استئناف مسيرته، من جهة، نوعا من العودة إلى الواقعية الكلاسيكية، ومن جهة أخرى، ميلا نحو التاريخ والتّنديد السياسي.
ومن الأمثلة المبكّرة التي تشهد على ذلك رواية «ليتوما في جبال الأنديز» (1993)، حيث يعيد الكاتب توظيف شخصية الضابط ليتوما التي ظهرت في روايات سابقة لينسج قصة بوليسية تدور أحداثها في إحدى القرى المعزولة في جبال الأنديز والتي عانت من قسوة العنف الممارس من العصابات المتمردة على النظام. لقد جمع الكاتب في هذه الرواية بين عناصر الغموض والتوتر السياسي إبّان فترة الإرهاب الذي مارسته حركة «الدّرب المضيء»، مضيفا إلى ذلك لمسة أسطورية من خلال إحياء أسطورة «البيشتاكوس» (pishtacos) أو الكائنات آكلة البشر.
تناولت رواية «حفلة التيس» (2000) تاريخ النظام الديكتاتوري الذي أقامه رافاييل ليونيداس تروخيّو (Rafael Leónidas Trujillo) في جمهورية الدومينيكان، واعتمد فيها الكاتب سردا متعدد الأصوات تدور أحداثه في فترتين زمنيتين. فمن جهة لدينا أحداث تدور عام 1961 وتركّز على الأيام الأخيرة للطاغية وعملية اغتياله، ومن جهة أخرى أحداث تدور عام 1996، حيث تعود مواطنة دومينيكية تُدعى أورانيا كابرال إلى وطنها لتواجه من جديد صدماتها الشخصية العائدة إلى الماضي. تجمع الرواية بين العمل الوثائقي التاريخي الرصين والتحليل النفسي العميق للسلطة وتجاوزاتها.
تعدّ رواية «شيطنات الطفلة الخبيثة» (2006) تجربةً أخرى في السرد العاطفي المعاصر، والتي تدور أحداثها في مدن مختلفة حول العالم وتمتدّ على مدار عدة عقود. تروي القصة العلاقة المتقطعة بين ريكاردو سوموكورثيو (شخصية بيروفية حالمة) و«الفتاة الخبيثة»، وهي امرأة غامضة.
حائز على جائزة نوبل للآداب
واصل فارغاس يوسا في أعماله الأخيرة التعمّق في التاريخ والسياسة، إذ برزت فيها شخصيات تاريخية أو مثالية تجسّد أفكارا وقيما. فقد استوحى رواية «حلم السِّلتي» (2010) من حياة الدبلوماسي الأيرلندي روجر كيسمنت (Roger Casement) الذي فضح الفظائع التي ارتكبها الاستعمار في الكونغو والأمازون أوائل القرن العشرين. وتجوّل في أرجاء البيرو المعاصرة في كلٍّ من روايتي «البطل الخفي» (2013) و«خمس زوايا» (2016). وفي رواية «أوقات عصيبة» (2019)، استعاد بعض الشخصيات من رواية «حفلة التيس» ليحكي قصة غواتيمالا المضطربة في خمسينيات القرن الماضي. أما في آخر عمل صدر للكاتب وهو رواية «أهديكم صمتي» (2023)، والذي كُتب بأسلوب مزج بين التجربة الشخصية والموسيقى واليوتوبيا الفنية، فقد أعاد الكاتب التفكير في مسألتي الهويّة القومية واليوتوبيا الاجتماعية.
كتب فارغاس يوسا كذلك مسرحيات ومقالات ونصوصًا أخرى. ويمكن أن نذكر من بين هذه الأعمال مسرحية «آنسة تاكنا» (1981)، ودراسة في النقد الأدبي تناول فيها رواية مدام بوفاري للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، وكتاب «الحقيقة من خلال الكذب» (1990)، وهو مجموعة من المقالات عن روايات عالمية وقف فيها فارغاس يوسا على قدرة الخيال الروائي على بناء حقائق بديلة.
إن التطور الإبداعي والجمالي الذي مرّ به فارغاس يوسا ليشهد على قدرة الكاتب على تجديد نفسه من دون أن يخون جوهره.
كارمن ماركيز مونتِس أستاذة الأدب الإسباني بجامعة لاس بالماس، إسبانيا
عن موقع The Conversation
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فارغاس یوسا فی روایة من خلال من جهة
إقرأ أيضاً:
اقرأ لي رواية
أنطونيو مونيوث مولينا
ترجمة: حسني مليطات
طلب مني عمّي، الذي كوّن ثروة مهمة في حياته أنّ أنصحه بكتب لتقرأها بناته، اللاتي أوشكن على الخروج من سنّ الطفولة، والبدء بمرحلة عُمرية جديدة، فقال لي: «أريد كتبًا مُؤَسِّسة، ليست بروايات، ولا شيء من هذا القبيل». تجدر الإشارة إلى أنّ عمي وصل إلى مكانته الاجتماعية المرموقة دون الحاجة إلى قراءة ولو كتاب واحد، ومع ذلك، له قناعته الصارمة حول ما لا ينبغي على بناته ألا يقرأنه، ولا يعزو سبب ذلك إلى الظّن المتعارف عليه عن الانحلال الأخلاقي في بعض الروايات، لا سيما عند النساء، بل بسبب توجسّه من «الخيال». ما الفائدة من قراءة حكايات مختلقة عن أناس لا وجود لهم؟ أتذكر الآن عمي المسكين؛ لأنني أقرأ هنا وهناك تقارير وتحاليل عن اللامبالاة المتزايدة، بل وحتى الرفض الصريح من الرجال للكثير من الروايات، وخاصة عند الشباب، أو أولئك الذين هم في مرحلة المراهقة الأولى. إنّ ما يرصده الخبراء اليوم، وبهذه الحدّة، يعرفه أيّ كاتب يهدي كتبه إلى عدد من القُرّاء، أو يلقي محاضرةً، أو يقبل دعوة من نادٍ للقراءة. إحصائيًّا، القارئ «قارئة»، تمامًا كما أنّ الممرض «ممرضة». وكما يوجد قُرّاء ذكور ممتازون، يوجد أيضًا ممرضون رائعون في عملهم، لكن منذ منتصف القرن الثامن عشر، وتحديدًا حين شاع فنّ الرواية، لوحظ بأنّ جمهورها الأكبر كان من النساء، وهو ما جعل البعض يُعدّ ذلك دليلًا على ضعف الاتساق الفكري لهذا الشكل الأدبي. وقد استطاعت بعضُ النساء، وخاصة في بريطانيا وفرنسا، أن يصنعن لأنفسهنّ «مهنة أدبية»، وقد نجحن في ذلك؛ لأنها، كما ترى فرجينيا وولف، من أرخص المهن. فامرأة مثل جاين أوستين تحمّلت كلفة المواد القليلة التي نحتاج مثلها في عصرنا الحالي؛ لتحقيق فعل الكتابة، مثل: الحبر، والورق، والريشة، وشيء من الكسل.
ويوجد عنصرٌ آخر أساسي، رغم مجّانيته، وهو: فضول التعرّف على حياة الآخرين، والقدرة على التخيّل، الذي يُتيح مراقبة الحياة نفسها من الداخل والخارج، وبسرد تجارب الآخرين، كما لو أن المرء عاشها أو ما زال يعيشها إلى الآن. إنّ تلك القدرة التي يمتلكها الروائي يقابلها، بشكل دقيق، قدرة القارئ على العيش المتخيّل لحياة الأشخاص المُتخيلين في الرواية، ولا يكون ذلك خبط عشواء، ولا بتقريب تلك الشخصيات بآخرين من الواقع، وإنما من خلال تلك الآلية المعقدة، التي سمّاها الشاعر كوليردج التعليق المؤقت أو المشروط للشك وعدم التصديق. أنا أعرف بأنّ الأمير أندريه بولكونسكي وفريدريك مورو ليسا شخصيتين حقيقيتين، موجودتين في الواقع، لكن عندما ينظر بولكونسكي، المصاب بجروح خطيرة في معركة أوسترليتز، إلى السماء الزرقاء الصافية، ويتملّكه شعور الحزن بدنوّ الأجل في سن مبكر، أو عندما يودّع فريدريك مورو حبيبته، مدام أرنو، وينظر إليها وهي تبتعد ببطء بشعرها الأبيض، في هاذين المشهدين من روايات «الحرب والسلم»، و«التربية العاطفية»، يخنقني الحزنُ، لدرجة أنني لا أستطيع أن أتمالك نفسي، فتبلّ الدموع عينيّ. ولذلك، يقول مارسيل بروست: إنّ الأدب، والموسيقى، والفن، السبيل الوحيد لمعرفة نفوس الآخرين، الموسومة بـ«علامات» من الكلمات والإيماءات، التي تظلّ موضع شكّ دائمًا».
يعيش كلّ واحد منّا مُقيّدًا داخل حياته الخاصة، في بيئة محدودة من الأشخاص والأماكن، وفي زمن مُنح قصيرًا لهذا العالم. لا أعتقد بأنّ الروايات تواسينا عن تفاهة الواقع، ولا تتيح لنا الاستمتاع بمشاعر أقوى وأصدق من تلك التي تُقدّمها لنا الحياة؛ فبالطبع هناك روايات سيئة، وروايات بغيضة، وروايات قد يكون لها، في بعض الأحيان، تأثير مُدمّر، في لحظات أو في فترات الهشاشة المُطلقة. ومع ذلك، فأنا مقتنع بأنّ امتلاك «عادة» قراءتها، وتثقيف الذات نقديًّا، ومع توليد الحماس أثناء ممارسة فعل القراءة نفسه، يمكن أن يُنير لنا الطريق للتعريف بذواتنا والآخرين، دون أن ننسى أهمية تلك الروايات في التسلية السليمة والزهيدة؛ ففي الأدب، كما يقول إسحاق باشيفيس سينجر «الحقيقة المملة ليستْ حقيقة». إنّ عالم اليوم، الذي يبدو أنّه يمنحنا منظورات غير محدودة لكل شيء، يحصرنا في قوقعة التشابه والانتماء القبلي: هويتك الجنسية، ومبادئك الأيديولوجية، والجيل الذي تنتمي له. إنّ الرواية الجيدة تُعلّمك تذّوق الفروق اللامتناهية للخاص وغير القابل للاختزال، وتُعرّفك على الأخوّة العميقة التي قد تربطك بمن يبدو غرباء عنك: أشخاص من زمن آخر، ومن جنس آخر، ومن طبقة مختلفة، ويتحدثون بلغة أخرى غير لغتك، للتعرف، فجأة، على ذاتك بهوية، نادرًا ما تجدها عند معاصريك، لا سيما بين المجموعة التي تنتمي لها، برغبتك، وتكيّفك، وبكامل قوّتك.
يتحدث بعضُ المؤرخين عن زمنٍ، بدأ تقريبًا في عصر التنوير، حدث فيه ما أطلق عليه «توسعة الدائرة الأخلاقية». الزمن الذي يتزامن أيضًا مع بداية العصر الذهبي لفنّ الرواية. بدأ الأشخاص أو الجماعات الذين حرموا من إنسانيتهم، أو وصفوا بمستويات دنيا، بالحصول على حق الاعتراف بهم، وبحقوقهم، وبمساواتهم مع الآخرين. وبينما كان المستكشفون والتُجّار يُخضعون الشعوب الأصلية باسم تفوّق الإنسان الأبيض، كان هناك مفكرون مثل ديدرو وغيره الكثير، بينهم نساء، يدينون الاستغلال والعنف الاستعماري، وينددون بالعبودية، مُتخيّلين أنّ أولئك الأشخاص من ذوي البشرة المختلفة، وأنماط العيش المغايرة، يستحقوّن أن يُدرجوا ضمن دائرة أخلاقية، عرفت بأنها كانت، في ذلك الوقت، حكرًا على «الذكور البيض»، من ذوي السلطة الاقتصادية. دافع الروائي والفيلسوف جان جاك روسو عن مبدأ المساواة بين البشر، غير أنّ ماري وولستونكرافت ذكّرت أتباعه -أتباع روسو- في الثورة الفرنسية بأنّ الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان والمواطنة لن يكون فاعلًا إلا إذا شمل حقوق المرأة. وعُرفت ابنتها ماري شيلي بشجاعتها الموروثة من أمها، فقد رسمت من ملامح «فرانكشتاين» الشخصية الإنسانية التراجيدية لأشد الكائنات إقصاء عن الدائرة الأخلاقية، «فرانكشتاين» ذلك المخلوق المسخ الذي تبرأ منه خالقه نفسه؛ مذعورًا من هيئته. وسلط الاهتمام الأكبر بمسألة المعركة السياسية ضد العبودية، حين انضمّت إلى الحُجج النظرية شهادات صادقة من عبيد فارّين، رووا بأنفسهم قصص استعبادهم، وتمرّدهم، وشجاعتهم، ليجبروا خيال القُرّاء، من خلال ذلك السرد، على أن يتقمّصوا شخصيات المُضطهدين، وأن يتعرفوا، كما لو أنّهم ينظرون إلى مرآة مقلقة، على وجوه مَنْ صنّفوهم يومًا ما على أنهم أدنى منزلةً. تجدر الإشارة إلى أنّ العلم لم يتحرر كليًّا من أوهام العنصرية إلا بعد العقاب القاسي الذي فرضه النّازيون: فأفضل الأدب، هو الذي فتح عيون القُرّاء للتعرف على أدلة المساواة بين البشر، وعلى تفرّد كل واحد منهم.
لقد شهدنا بأعيننا اتّساع الدائرة الأخلاقية، سواء في القوانين، أو في الحياة اليومية، أو داخل العائلة نفسها، حيث بات ما كان، حتى وقت قريب، لا يُتخيّلُ أمرًا معتادًا: خيارات النّاس الحيوية والجنسية، والتابوهات القديمة التي تلاشت إلى حدّ لم يعد أحد يتذكرها. إنّ تخيّل ما لا يمكن تخيّله هي مهمة الروائي والمصلح الاجتماعي. لكن لأننا ما زلنا نتذكر البشاعة الجمالية والأخلاقية لماضٍ غارق في الأحكام المسبقة، فإننا نرتعب أكثر عندما نرى كيف أن الدائرة الأخلاقية عادت تضيق مرة أخرى: حيث الحدود القاطعة بين «نحن» و«الآخرين»، والحدود الذهنية التي تساعد الروايات على زوالها، والحدود الجغرافية التي عادت من جديد بكل ما في هذا العالم من تشدد سياسي وتوحش تكنولوجي. ففي غزة، وأوكرانيا، والسلفادور، ومناجم الجحيم في الكونغو، وأفغانستان، وفي الزنازين المحاطة بالتماسيح في فلوريدا، يُعذّب النّاس ويُبادون بكل سهولة، وكأنّ الآخرين لا يعرفون عنهم شيئًا، أو أنهم لا يريدون أن يتصوروا بأنّ أولئك الذين يعيشون في ذلك الجحيم هم بشر مثلنا.
حسني مليطات مترجم وأكاديمي في جامعة صحار
المقال عن صحيفة ألباييس الإسبانية، منشور بتاريخ 5/7/ 2025.