لجريدة عمان:
2025-05-29@14:39:24 GMT

سقوط

تاريخ النشر: 28th, May 2025 GMT

سقوط

وهو يسقط لم يسمع إلا صوت اصطدام جسده على الأرض، لم يشعر بألم كبير؛ لأن الظلام سيطر على مشهد الرؤية من حوله.

قبل سنوات حين ورث المزرعة الكبيرة المكتظة بأشجار النخيل بأصنافها المتنوعة الخنيزي والخصاب والفرض والخلاص والنغال والبرحي والبرني، شعر براحة كبيرة، لم يكتف باللون الأخضر المحيط به بل زاد عليه مجموعة من الشتلات الخضراء الصغيرة لأنواع كثيرة من أشجار النخيل.

كان مشواره اليومي يبدأ بزيارته لمزرعته وينتهي بها، حتى وجبة الغداء أصر أن يأكلها تحت النخلات الثلاث التي كونت ظلالًا وارفة فبنى عريشته بالقرب منها، اتخذ منها محرابًا للصلاة ومكانًا للتأمل والثرثرة الذاتية وتناول الطعام.

شعر بأن مذاق الطعام قد تغير رغم أن تلك الوجبات ما زالت تفضح قصور زوجته في الطبخ وإعداد الوجبات، غير أنه حتى الأرز الأبيض الذي يشبه العصيدة تحول إلى طعم آخر في فمه بعد أن اتخذ من المزرعة مكانًا يحميه من الصدامات مع زوجته وجيرانه، كما تحولت مرقة السمك في نظره إلى قوام آخر أصبح يستسيغه ويطلب من زوجته أن تحضرها في فترات متقاربة.

تبدأ خطواته في الطريق المؤدي إلى المزرعة باكرًا، يتنفس الصبح وهو يتحرك قبل شروق الشمس، وتنتهي الخطوات ممزوجة بأشعة غروب الشمس التي تتداخل مع لون الطريق الذي يوصله إلى منزله.

كان يتابع كل مراحل إنبات النخيل من حوله ويراقب تكوين ثمارها وتغيرها إلى حبات من الخلال الأخضر ومن ثم إلى رطب باللونين الأصفر أو الأحمر وأخيرًا إلى حبات من التمر.

وفي مواسم ازدهارها الأخيرة اضطر-بعد أن ازداد ثقل العمل عليه- إلى جلب عاملين وافدين يساعدانه في جمع التمور وتجفيفها في مساحات واسعة وضعها لهذا الغرض.

كان يتأمل المساحات الممتدة من حوله التي تكدست حولها الكثير من ثمار المحصول ويمني النفس بربح وفير في نهاية الموسم.

الأهم من ذلك أنه قد ترسخ في داخله الشعور بالاستغناء عن مساعدة أبنائه الأربعة، فاكتفى بوجوده وحيدًا في المزرعة مع عامليه اللذين يقومان بالأعمال التي يطلبها منهما.

منذ الصغر كان يحب الوحدة لم يكوّن دائرة علاقات متسعة ولم يشارك في المباريات التي تقام بالقرب من دارهم، بل لعل إحساسًا من التذمر والعدوانية نما في داخله، مشاجرات كثيرة خاضها مع أصدقائه في الحي، ومن ثم مع جيرانه بعد أن طالت قامته.

حين ورث هذه المزرعة تحولت طاقته السلبية إلى طاقة أخرى تمثلت في اهتمامه بالمزرعة والعناية بها، يسارع الخطى منذ الصباح ليجلس تحت العريشة التي نصبها، ويرحل عنها عند مغيب الشمس، مما أتاح له فرصة الهرب من كل ما يحيط به، ورغم الحرارة التي تجعل حبات العرق تنزل دون توقف، غير أن دائرة علاقاته التي تقلصت جعلته يتجاهل كل ما يحيط به من تعب وحر.

تمنى في لحظات كثيرة لو أنه اشترى مزرعة منذ سنوات عدة أو لو أنه ورث مزرعة كبيرة يتخذها سلوانًا وهربًا من حياته التي قصمت ظهره، بيد أنها تذكر بكل حزن ومرارة بأن والده لم يترك له سوى الديون والفقر والهموم.

استعاد في تلك اللحظات موت أخيه الأكبر الذي ظل في رحلة تيه لا تنتهي طوال سنوات حياته، حتى فارق الحياة وحيدًا وورث منه تلك المزرعة التي غيرت حياته وأضافت شيئًا من الحركة لمسار عيشه الرتيب.

في أوقات كثيرة حين كان يجلس وقت العصر وهو يشرب فناجين القهوة الكثيرة المتتابعة وتلتقط أصابعه حبات التمر من الإناء البلاستيكي الكبير، تزوره صورة والده، صراخه، فقره والحرمان الذي دفعه إلى التقوقع على نفسه ودفع أخيه للهرب والابتعاد عن المكان كليًا.

لم يحزن كثيرًا حين رحل، كما أنه ابتعد عن الجميع، وحاول تكوين أسرة يغيب فيها وتنسيه كل ما يحيط به، غير أنه تقمص شخصية والده، وأصبح حتى صراخه وحركاته وفقره وأخيرًا قامته ووجهه تشبه والده، أحس بأنه تحول إلى نسخة من أبيه دون أن يعلم!

يحاول طرد هذه الفكرة دائمًا لا سيما في فصل الشتاء، حيث الهدوء وقلة العمل واختفاء المساحات الممتدة المفروشة من التمور، إلا أن حتى تلك البرودة القارسة التي تتبع انبلاج الفجر لم تمنعه من الذهاب للمزرعة، كان يحرص على ارتداء ملابس شتوية ثقيلة، ويغطي وجهه بالمصر الذي يحميه من أي مرض قد يضر بأعصاب وجهه.

يتدحرج بخطوات واسعة نحو المزرعة، يطرد من أمامه صورة والده، ويحارب الأفكار التي تزوره عن ماضيه، ويدوس على أصداء ثرثرة زوجته وأبنائه، ويحاول بشتى الطرق أن يصل بأسرع وقت لمكان عريشته فيجلس ويتنهد قبل أن يتناول فطوره ويتأمل النخلات التي يعصف بها البرد وريح الشمال.

في مرات كثيرة تخيل أنه تحول إلى نخلة من نخلات مزرعته، يداعبها الهواء وتمر بها ظروف الحياة فلا تترك بها سوى ندوب طفيفة لا تذكر.

في هذا الصباح شعور غريب خيم عليه لم ينم سوى سويعات معدودة، كان رأسه ثقيلًا والإحساس بالتعب يلازمه كظله، أصبح الخواء يواكب صوت خطواته، نظر إلى غرفته وسريره بتمعن، توقف عند الباب لدقيقة كاملة قبل أن يخرج.... ثم خرج بكل هدوء.

خطواته اليوم غير ثابتة على الأرض، شعر بأن المزرعة بعيدة، وضع الكيس الذي يحتوي على دلة القهوة على الأرض عدة مرات.

حين وصل لم يجد أحدًا، كانت الحرارة تتزايد مع وصوله، تمنى لو يقطف حبات من نخلة البرني، يحب حباته المدورة وطعمه اللذيذ، سحب نفسه من تحت العريشة، استخدم الحابول ليصعد إلى النخلة، كانت الشمس تحجب عنه الرؤية، والوهن يتصاعد مع صعوده للنخلة، تحول الوهن إلى خدر استشرى في أنحاء جسده، الدوار سيطر على تفاصيل المشهد حوله، فقد الإحساس بالمكان والزمان، لم يشعر سوى بجسده يتهاوى من أعلى النخلة، تتابعت مجموعة من الصور الكثيرة لطفولته، للنخلات الكثيرة التي تحدق فيه، لصراعاته المستمرة، لموت أخيه، لحياة ممزقة الأطراف، كان السقوط مدويًا وصوت الاصطدام عاليًا، ومن ثم أظلم المشهد من أمامه، وفقد الإحساس بكل ما يحيط به.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟

بعد ساعات طويلة من انتظار الحصول على حصّته من المياه، يقف طفل لا يتجاوز الـ12 من عمره أمام غالونين كبيرين مليئين بالماء، لا وقت للإرهاق الآن، فالحصول على المياه النظيفة الشحيحة شيء، والعودة بها للخيمة أو المنزل المهدم الذي يعيش فيه مع أسرته شيء آخر تماما. يحاول الطفل رفع الغالونين عدّة مرات دون فائدة، فالحمل ثقيل لجسد صحيح، فما بالك بجسد منهك من الحرب وقلة التغذية.

محاولات الطفل غير الناجحة جعلته يدرك أن مقدار وزن الغالونين رُبما يفوق وزنه هو شخصيا، وحينما أدرك الصغير حجم ما يواجه، رفع وجهه إلى السماء ثم قال: "أعطني القوة يا الله". تنفس ملء رئتيه، وتمكن بالفعل من حملهما والسير بهما لخطوات عدة وثّقتها الكاميرا لترصد نزرا يسيرا من هول ما يعيشه أطفال غزة تحديدا وعموم قاطني القطاع المحاصر.

طفل غزيّ يحاول رفع غالونين من المياه (مواقع التواصل)

في وقت سابق، نشر ستيفن جوزيف، وهو أستاذ في كلية التربية بجامعة نوتنغهام الإنجليزية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ورقة بحثية ناقش فيها النمو النفسي خلال مرحلة ما بعد الصدمة أو التجربة المؤلمة، وقد استهلّت الورقة البحثية عنوانها بـ"ما لا يقتلنا".

عمل ستيفن مع عديد من الناجين من الصدمات وأهوال النزاعات، ولديه مسيرة طويلة في دراسة ما تُعرف بـ"النمو بعد الصدمة"، وكتابه الشهير: "ما لا يقتلنا: دليل للتغلب على الشدائد والمُضي قدما"، حاول فيه توظيف بعض النظريات والممارسات النفسية لاستكشاف ماذا يجري بعد الصدمة، وكيف يمكن التغلب على الشدائد لخلق معنى وهدف جديدين في حياتنا.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟list 2 of 2ما الذي تغير ليرفض الغرب حرب الإبادة على غزة؟ ولماذا الآن؟end of list إعلان

وضّح جوزيف أن الدراسات النفسية المتعلقة بالصدمات قد تغيرت مؤخرا، خاصة مع إدراك الباحثين أن الشدائد والمواقف بالغة الصعوبة لا تؤدي بصورة حتمية إلى خلق شخص مضطرب نفسيا أو مكتئب، إذ بدأت اتجاهات البحث النفسي العلمي ترى أن هناك جانبا من "النمو الإيجابي" قد يتحقق خلال مرحلة ما بعد الصدمة والتجارب القاسية ويمكن أن تمثّل نقطة انطلاق لبناء مستويات أقوى من الصلابة النفسية.

وهذا ما عبرت عنه بجلاء الورقة التي نشرتها يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024  الأستاذة الأسترالية ميشيل بيس في المعهد الأسترالي للشؤون الدولية بعنوان "الغزيون: شعبٌ يتمتع بشجاعةٍ لا تُقاوم، وإيمان، ولطف" ، وأشارت فيها إلى نمط حياة شعب غزة في فترة ما قبل الحرب، وكيف أنهم "رغم الحصار والتضييق الخانق من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانوا يجدون وسائل للتكيف مع واقعهم المُعاش ووسائل بناء شبكات تضامن اجتماعية تسيّر حياة المجتمع"، وأن هذه الديناميات والقدرات أسهمتا بصورة أو بأخرى في رفد المجتمع بأساليب وأدوات للبقاء والصمود، وقد زادهم صلابة تتالي الحروب وتنوع وسائل القتل والتدمير التي لم تتخلف عن القطاع طوال الفترة الماضية.

ومن المداخل التفسيرية التي لا تستحضر كثيرا في الدراسات النفسية وإن كان لها دور في تعضيد هذه القراءات، ونقصد بذلك المدخل الإيماني الذي يلعب دورا واضحا في الكيفية السلوكية التي يتعامل بها الأفراد تجاه المصائب التي يواجهونها، إذ تشكّل الأرضية الإيمانية -التي يستند إليها الفرد أو المجتمع- عاملا أساسيا في محددات الحالة الشعورية التي تلي المعاناة، فضلا عن الحالة النفسية في أثناء الأزمة، ولا يمكن فصل هذا العامل عن تحليل المشاهد الواردة من غزة، إذ يمكن ملاحظة حضور المفاهيم الدينية والإيمانية في خطاب وسلوك الغزيّين.

إعلان

في الدين الإسلامي مثلا، البلاء يتطلب صبرا، وللصابرين مثوبة جزيلة، وجانب من التكوين الإيماني للمسلم قائم على أن البلاء مرحلة مرّ بها المؤمنون على مدار التاريخ، حيث يسوق القرآن وتسوق الأحاديث النبوية الكيفية التي تعاملت بها المجتمعات المؤمنة التي تعرضت للبلاء، وما يلي ذلك من ثواب من الله لا يقتصر على ما يراه الفرد في هذه الدنيا.

بالطبع لا يسعى هذا التقرير إلى أسطرة الإنسان الغزي (أي جعله أسطورة)، بل يحاول البحث في الديناميات والقدرات النفسية الحقيقية التي يقاوم بها سكان القطاع، في محاولة للنجاة من الأهوال التي يقاسونها يوميا، ليس على صعيد النجاة من الموت فحسب، بل أيضا عبر المجاهدة في تفاصيل يومهم كافة، بدءا من شربة الماء، وصولا إلى محاولة النوم، وليس انتهاء بالعيش وسط مجتمع لا يمتلك أدنى مقومات العيش الكريم، وأساسات الحياة التي اعتادها لعقود.

أطفال فلسطينيون بالقرب من حاويات المياه في قطاع غزة، السادس من أبريل/نيسان 2025 (رويترز) هل تؤدي الصدمات والشدائد إلى "تدمير" الشخص؟

أما عن مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة" فهو أحد أكثر المصطلحات النفسية شيوعا في العالم العربي، وقد أخذ رواجا على إثر الانتكاسات السياسية والاقتصادية وما تلاها من تمزّقات شملت البنى الاجتماعية في عدد من المجتمعات العربية، وكانت ارتدادات تلك الانتكاسات حاضرة بثقلها على المساحة الشعورية للأفراد والمجتمعات على السواء، وفي ظل هذا الواقع، حضر مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة كمحاولة لتفسير آثار التغيرات التي برزت على سطح المجتمع وعمقه.

وكما الحال في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن المفاهيم عادة ما تنشأ في سياق زماني وجغرافي محدد، ثم تكون عرضة للتبدل والتغير، عندما تتعرض لتفسير وفهم مستجدات جديدة، فامتزاج النظرية بسياقات ثقافية مختلفة عن البيئة التي نشأت فيها، يحتم عليها أن تتجاوب مع المتغيرات حتى يمكنها، اخراج تفسيرات ملائمة. وقد أسهمت غزة في خلق تحديديات كثيرة أما العديد من الأفكار والنظريات الاجتماعية.

إعلان

أما عن سياق نشأة وظهور مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة"، فنجده مرتبطا بالجمعية الأميركية للطب النفسي عام 1980، وقبل سك هذا المصطلح، كان هذا الاضطراب يُعرف قد انتشر خلال الحرب العالمية الأولى باسم "صدمة القذائف"، وكان يُعتقد أنه يؤثر على الجنود فقط. وتعرّفه جمعية علم النفس الأميركية بأنه اضطراب نفسي يحدث عندما يعيش أو يشهد شخص ما حدثا يشعر خلاله بتهديد حياته أو سلامته الجسدية، فتكون المشاعر المسيطرة على الشخص خلال هذا الحدث هي الخوف أو الرعب أو العجز.

بمرور الوقت، جذبت أعراض هذا الاضطراب انتباه الباحثين والعلماء، وبدأت البحوث المتتالية ترصد وتوثق أثر التعرّض للصدمات في تغيير حياة الإنسان وإفسادها، وذلك لما تتركه الصدمات من تأثيرات وتغييرات نفسية سلبية بعد تعرض الشخص لحادث صادم. وقد اعتقد الباحثون أن هذه التغييرات النفسية السلبية مردّها عائد إلى رغبة العقل في حماية الشخص من التعرض لمزيد من "التجارب الخطرة" أو من تلك التجارب التي يمكن أن تضع الفرد في موقف فيه تهديد، حتى وإن كان متخيّلا.

في البدء، طغى اتجاه طبي ينحصر تركيزه في توثيق التأثير السلبي للتعرض للصدمات، دون الالتفات كثيرا إلى الملاحظات -كانت قليلة حينها- التي تناولت التأثير الإيجابي الذي يُمكن أن تُحدثه الصدمات في حياة وشخصية الأفراد الذين يتعرضون لها.

لكن قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "هل كل مَن يتعرض لحادث مؤلم مُهدِّد للحياة، يُعاني بعد النجاة منه اضطراب ما بعد الصدمة؟".

النمو بعد الصدمة

رغم الاهتمام بالجوانب السلبية، فإن بحث جوزيف، السابق الإشارة إليه، يرى أن الاهتمام العلمي في المجال النفسي بالتغيرات الإيجابية التي قد تعقب تعرض الشخص للصدمات والشدائد، أخذ في التزايد، بعدما أظهرت مجموعة من الدراسات -التي أُجريت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات- أن هناك مجموعة من التغيرات الإيجابية التي شهدتها شخصيات قاسوا أحداثا مأساوية أو صدمات شديدة القسوة.

إعلان

حين رُصدت نتائج الدراسات السابقة، بدأ الاهتمام خلال تسعينيات القرن الماضي بدراسة الكيفية التي تتحول فيها صدمة إلى عامل "محفز" للتغييرات الإيجابية، وأثر ذلك في تعضيد التكوين الشخص النفسي. هنا بدأ يظهر مفهوم "النمو" بعد الصدمة، حتى أصبح مجالا بحثيا يجذب اهتماما دوليا واسعا من الباحثين والعلماء، وخلال السنوات العشر التالية لظهور هذا المفهوم، أصبح نمو ما بعد الصدمة أحد الموضوعات الرئيسية التي تندرج ضمن موضوعات علم النفس الإيجابي.

يُشير موقع "سيكولوجي توداي" إلى أنه في أوائل التسعينيات، صاغ عالِما النفس ريتشارد تيديشي ولورانس كالهون مصطلح "النمو بعد الصدمة" (PTG)، ويقوم هذا المصطلح بشكل أساسي بوصف التغييرات الإيجابية التي يمكن أن تحدث لشخصية الفرد أو نفسيته بعد تعرضه لأزمة كبيرة أو حادث مُهدِّد للحياة أو صدمة قاسية.

وأن التغييرات الإيجابية الملحوظة يمكن أن تحدث للشخص الذي تعرض للصدمة خلال الأيام أو الأشهر أو حتى السنوات التي تلي تعرضه لهذه الصدمة. وبالنسبة للناجي من الصدمة، يمكن أن تكتسب الحياة معنى جديدا يمنح الفرد القدرة على إعادة تشكيل معتقداته وأولوياته وأهداف حياته والقيم التي ستشكل هويته.

مشروع مقاوم أكثر صلابة

خلال شهر مايو/أيار الجاري، أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة، أن 16 ألفا و503 أطفال فلسطينيين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الإبادة الجماعية في غزة، في إحصائية صادمة تجسد حجم الاستهداف المباشر والممنهج لأضعف فئات المجتمع.

عرف الأطفال، الذين يُمثلون ما يقرب من نصف عدد سكان قطاع غزة خلال أكثر من 20 شهرا، معنى أن يتركوا بيوتهم مرغمين مذعورين قبل أن تُهدم فوق رؤوسهم، ومعنى أن يذوقوا ألم فقدان أهاليهم وأقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، ومعنى أن ينتظروا الموت، فلا يعلمون ما إذا كانت هذه آخر مرة يضع فيها الواحد منهم رأسه المنهك على الأرض كي ينام، أو أن يرقبوا بأعينهم من وراء الركام ويشموا بأنوفهم رائحة الدماء التي تعني حتما ارتفاعا يوميا في أعداد الشهداء والمصابين، حتى يصبح الموت حاضرا وماثلا وجاثما على امتداد القطاع.

إعلان

اختبر هؤلاء الأطفال معنى أن تسترد وعيك في المشفى كي ترى طرفا من أطرافك قد بُتر. ناهيك عن الإصابات غير المرئية، كأن تنخفض قدرة طفل على السماع على إثر قذيفة سقطت في منطقة مجاورة لمكان تواجد الطفل، وهذه إصابة حقيقية لها شواهدها.

بالعادة، وفي سياقات مشابهة، تبدو نتيجة الضرر النفسي البالغ حتمية على كل طبقات المجتمع، فما ظنّك بالأطفال؟ بالتأكيد هناك من عانى من ويلات الحرب وألمت به مشاعر الاكتئاب والقلق واليأس والحزن والاستياء والغضب والخوف، لكن هذا ليس أمرا جاريا ومضطردا في كل الأحوال.

فبعض التغييرات العنيفة والأحداث بالغة القسوة التي شهدها الطفل الغزاوي، وفقا لمفهوم "النمو" بعد الصدمة والتي تمتزج مع المركّبات الإيمانية للمجتمع الغزيّ، قد لا تقود إلى نتيجة حتمية مفادها الانهيار -وإن كان ذلك حاضرا ولا يمكن إنكار حدوثه اليوم أو احتمالية ظهوره في المستقبل القريب- لكنها في المقابل قد تجعل منه شخصية تتسم بالصلابة والقوة النفسية، ورُبما يكون الصبي الذي شهد كل هذا العنف في الغد القريب مقاوما أكثر صلابة من سابقيه، فكثير من مقاومي اليوم هم من أهالي الشهداء والأسرى والمصابين، وهم ممن قاسوا شخصيا، أو قاسى أهلهم المباشرون حروبا وتهجيرا وتضييقا ممنهجا حتى وجدوا في المقاومة خيارا ضروريا لاسترداد الحق.

في السياق ذاته، قبل أن يتغير موقف الملياردير الأميركي إيلون ماسك من حرب إسرائيل على غزة، فإنه كان قد تساءل في مقابلة مصورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر تقريبا على طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة: "مقابل كل عضو تقتله من حماس كم خلقت من الأعداء؟ وإذا كان ما خلقته أكثر مما قتلت فأنت لم تنجح". كان هذا التساؤل المشروع قبل أن يحرك نتنياهو ترسانته لاستمالة ماسك الذي بدا جليا تغير خطابه ومواقفه بعد هذه المقابلة تحديدا.

إعلان

قد تخلق الظروف القاسية إنسانا مضطربا، وقد تساعده على اكتشاف مكنوناته وقدراته الداخلية. قد يتألم الانسان الموجوع، ولكن من الممكن أن يشتد عوده وتصلب إرادته، وعندما يعتاد مجتمع ما الحرب والصراع وترتبط ذاكرته بالاستعمار والانتهاكات، فليس أمامه إلا طريقان: أن يستسلم، أو يقاوم، وغزة بالتأكيد تقاوم.

ووسط كل هذا الركام والدموع المنهمرة، قد يتخلق شيء إيجابي وفق تصورات علم النفس، وأن هذا النمو المتوقع، أو التغير الإيجابي المرتقب لا يحدث بضغطة زر، وليس نتيجة حتمية للتعرض للصدمة، لأنه يتطلب تحديا واستعدادا نفسيا عاليا يصحبه المرء أثناء خوضه معركة بقائه. وهنا يوضح ستيفن جوزيف أن النمو بعد الصدمة هو "عملية تغيير وليس فقط نتيجة تلقائية للتغيير"، فهي لا تحدث إلا للأفراد الذين تأهلوا لذلك.

وهذه "الآثار الإيجابية" قد تزور الفرد بعد أعوام من الحرب، فيكتشف الحكمة من ورائها، ويسبر أغوار الآثار النفسية العميقة التي تركتها التجربة، وكل هذه أمور قد لا تحدث لآخرين. كما أن ثمة بعدا آخر في تشكيل هذا المقاوم الأكثر صلابة، وهي أن القاتل أو المجرم لم يترك "للضحية" مساحة ولا خيارا آخر، فإما أن يغرق في ظلمات الاكتئاب فيصبح الدم المسفوك لا معنى له سوى ندبة غائرة وجرحا نازفا في نفس وذهن الشخص، أو أن يقف على قدميه متحديا كل الأعباء، نافضا عنه غبار العاصفة الثقيل، كعنقاء تخرج من رمادها، ثم يقاوم، كي يسترد بعضا من حقه، أو يُقتل وهو يحاول، فـ "علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ"، كما يقول محمود درويش.

مقالات مشابهة

  • إنزو فيرنانديز.. البطل الذي لا يخسر
  • زكي طليمات.. رائد المسرح العربي الذي أضاء الخشبة بعقله وفنه
  • خالد الأحمد .. العلوي الذي ساعد الشرع وكتب نهاية الأسد - فيديو
  • العينُ على نجل وئام وهاب.. ما الذي يحضره؟
  • شاهد / حبات برد قاتلة تتساقط على العشة بعمران
  • ترمب: بوتين يلعب بالنار .. ولولا وجودي لحدثت أمور كثيرة سيئة لروسيا
  • سقوط جثمان شاب من الطابق السادس بعقار في عين شمس.. الأمن يتحرى
  • ما حقيقة سقوط طائرة حُجّاج موريتانية؟
  • هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟