ظلت رواية "خريف البراءة" لعباس بيضون تتربع في قائمة انتظاري القرائية سنوات أطول مما ينبغي، وكما يحدث غالباً مع الكتب المهمة، تتدخل الظروف أحياناً لتؤجل لقاءاتنا مع النصوص التي تستحق منا حضوراً كاملاً. التزامات البحث الأكاديمي، ومتطلبات العمل الصحفي، وانشغالات الحياة اليومية، كلها عوامل جعلتني أؤجل قراءة هذا العمل الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2017، حتى جاءت الأيام القليلة الماضية لتعوض هذا التأخير القسري بلقاء حميمي مع النص.

عندما وضعت يدي أخيراً على الرواية قبل أيام، اكتشفت أن هذا التأخير لم يكن خسارة كاملة، بل ربما منحني نضجاً قرائياً إضافياً مكنني من استيعاب طبقات النص المتعددة بعمق أكبر. لقد تحولت قراءتي من مجرد تتبع للحبكة إلى حفر في أنساق النص الخفية، من سؤال العنف والهوية إلى إشكالية الذنب والبراءة في مجتمعاتنا العربية.

في هذا المقال، أحاول تعويض سنوات التأجيل هذه بإثراء القراءة عبر الكتابة النقدية التحليلية، مستلهماً أسلوب الدكتور علي بن تميم في قراءاته الناعمة للنصوص السردية، حيث لا تنفصل المتعة الجمالية عن العمق التحليلي. إنها محاولة لاستعادة حوار متأخر مع نص ظلّ ينتظر دوره ليحدثنا عن تعقيدات النفس البشرية في زمن العنف والتشظي.

مدخل إلى عوالم بيضون السردية

في رواية "خريف البراءة" للكاتب اللبناني عباس بيضون، نجد أنفسنا أمام نص سردي لا يكتفي بسرد الحكاية، بل ينفذ إلى أعماق النفس البشرية عبر بوابة العنف والهوية الممزقة. هذا العمل الذي حاز جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2017 ، يُشكل نموذجاً لسردية عربية معاصرة تستثمر تراكم الشاعر في بناء عالم روائي مكثف، حيث تتحول اللغة من أداة وصف إلى فضاء دلالي يختزل تعقيدات الوجود الإنساني.

بيضون، الشاعر والروائي الذي درس الأدب العربي في جامعة بيروت العربية وحصل على الماجستير من السوربون ، يقدم في هذا العمل رؤية نقدية للمجتمع العربي من خلال قصة غسان الابن الذي يحمل وزر جريمة أبيه مسعود الذي قتل زوجته وهرب إلى سوريا ليلتحق بجماعة إسلامية . السرد هنا لا يكتفي بتتبع الأحداث، بل يغوص في التشريح النفسي للشخصيات، خاصة غسان الذي يكبر "يتيماً وحاملاً وزر جريمة أبيه وسمعة أمه" ، ليكون بذلك نموذجاً للضحية التي ينتجها المجتمع قبل أن تنتجها الجريمة ذاتها.

 تشريح سرديات العنف

يقدم بيضون في روايته رؤية نقدية لآليات صناعة العنف في المجتمع العربي، حيث يصبح مسعود - الأب القاتل – نموذجاً للإرهابي الذي "بعد 18 سنة يعود ويبدأ حملته في ترويع أهل البلدة والقضاء على كل من يعارضه" . هذا التحول من الفعل الفردي (قتل الزوجة) إلى العنف الجماعي المنظم، يكشف عن منطق تطور الجريمة في اللاوعي الجمعي العربي، حيث يتحول العنف من رد فعل إلى هوية ومن حادث عابر إلى مصير دائم.

اللافت في سردية بيضون أنها لا تقدم العنف كظاهرة فردية، بل كنتاج لبنية اجتماعية قائمة على التمييز والقمع، فغسان يتعرض لـ"شتى أنواع التمييز والتهميش والقمع من المجتمع" ، مما يجعله ضحية مزدوجة: ضحية جريمة الأب وضحية نظرة المجتمع. هنا يتجلى عمق الرؤية النقدية في الرواية التي تفضح "العديد من العاهات التي تعاني منها المجتمعات العربية غير المؤهلة لاحتضان الضعفاء" .

 الهوية كسؤال مفتوح

تتحول رواية "خريف البراءة" إلى مرآة عاكسة لأزمة الهوية في العالم العربي، حيث يطرح بيضون سؤال الهوية من خلال ثنائية الأب والابن: مسعود الذي يختار الانتماء إلى جماعة إسلامية متطرفة كملاذ لهويّة مأزومة، وغسان الذي يعيش هوية مشتتة بين رفض الأب والبحث عن الذات. الهوية هنا ليست معطى جاهزاً بل هي سيرورة متوترة، كما يتجلى في قرار غسان "اغتيال أبيه ثأراً لمقتل صديقه" ، الذي يتحول إلى محكّ لهويته المعلقة بين الثأر والغفران.

الرواية تقدم قرية مسعود وغسان كرمز لـ"معظم البلدان العربية" ، حيث تصبح القرية فضاءً دالاً على الأزمات العربية الراهنة. لعبة الأسماء الرمزية في الرواية، كما يذكر أحد النقاد، تؤكد على هذا البناء الرمزي، حيث "تبين الصراع بين من يدافع عن الحرية والحب ومن يدافع عن التسلط والإرهاب" .

 شعرية السرد وتقنياته

يمتلك بيضون في هذه الرواية أسلوباً سردياً يمزج بين التحليل النفسي والشاعرية ، حيث يستثمر خلفيته الشعرية في بناء لغة سردية مكثفة. الرواية تنهض على تقنيات سردية متعددة، منها الانتقال بين الضمائر في السرد ، مما يخلق تعددية في الرؤى تثري النص وتجعله قادراً على استيعاب تعقيدات الشخصيات.

في القسم الأول من الرواية، يعتمد بيضون على السرد الرسائلي والتبئير الداخلي المتعدد، بينما يختار الراوي العليم في القسم الثاني . هذا الانزياح السردي ليس تقنياً فحسب، بل هو تعبير عن تحولات الشخصية الرئيسية وتشظي رؤيتها للعالم. إلا أن بعض النقاد يرون أن الرواية عانت من تسارع الأحداث في القسم الثاني بشكل "غير منطقي" ، مما أخل بالتوازن الفني للعمل.

 الذنب والبراءة: ثنائية مقلقة

العنوان "خريف البراءة" يحمل في طياته إيحاءً بالزمن الذي تنتهي فيه البراءة كحالة وجودية، حيث يصبح الخريف هنا "رمزاً للحصاد والتغير والنُضج والحزن وبدء الانحدار استعداداً لدخول الشتاء" . الرواية تطرح أسئلة وجودية حول مفهومي الذنب والبراءة، فغسان الذي لم يرتكب جريمة يحمل ذنب الأب والأم معاً، كما تقول سارة في الرواية: "لن يتحمل فقط جريمة أبيه، وإنما أيضا سمعة أمه التي تلطخت بدمها" .

هذه الثنائية تفتح الباب أمام قراءة نفسية للرواية، حيث يصبح غسان نموذجاً للكائن المسلوب الذي "نبذ نفسه بدوره شيئا فشيئا ليتعامل مع نفسه كخطيئة في الوجود" . الرواية بهذا المعنى تتحول إلى دراسة للعقدة النفسية التي يولدها العنف الأسري والمجتمعي في آن.

 سردية ما بعد العنف

"خريف البراءة" ليست مجرد رواية عن العنف، بل هي رواية عن ما بعد العنف، عن آثاره التي تمتد عبر الأجيال وتشكل الهويات وتعيد تشكيل الذوات. بيضون يقدم من خلال هذه الرواية رؤية نقدية للمجتمع العربي الذي "يدين الضعيف البريء ويبرئ المخطئ القوي" ، حيث يصبح العنف لغة والهوية سجناً.

في النهاية، تظل هذه الرواية نموذجاً للأدب الذي لا يكتفي بالسرد، بل ينفتح على أسئلة الوجود والمجتمع، مستخدماً أدوات السرد والشعر معاً لخلق نص مكثف يحفر في أعماق النفس البشرية والمجتمع العربي بكل تناقضاته. ربما هذا ما جعلها تستحق جائزة الشيخ زايد للكتاب، ليس لأنها تقدم إجابات، بل لأنها تطرح أسئلة تظل معلقة في ذهن القارئ طويلاً بعد انتهاء الصفحة الأخيرة.

طباعة شارك خريف البراءة العقدة النفسية الأدب

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الأدب حیث یصبح

إقرأ أيضاً:

حماس ترفض تقرير العفو الدولية وتتهمه بتبني الرواية الإسرائيلية

رفضت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الخميس، تقرير منظمة العفو الدولية الذي صدر في وقت سابق الخميس واتهم فصائل فلسطينية مسلحة بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية" خلال هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. 

واعتبرت الحركة أن التقرير يستند إلى رواية الاحتلال الإسرائيلي ويتضمن مغالطات وتناقضات جوهرية، في وقت يواصل فيه الاحتلال التغطية على جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب.

حماس: تقرير العفو "مغلوط ومشبوه"
قالت حماس في بيان رسمي إنها ترفض "بشدة" ما ورد في تقرير منظمة العفو الدولية، معتبرة أنه "يزعم ارتكاب المقاومة الفلسطينية جرائم خلال عملية طوفان الأقصى"، وأنه يتجاهل الحقائق التي وثقتها منظمات حقوقية، بعضها إسرائيلية. 

وأكدت الحركة أن التقرير "مغرض ومشبوه" ويحتوي على "مغالطات وتناقضات" تتناقض مع ما أثبتته تسجيلات ووثائق وتحقيقات ميدانية.

وأشارت الحركة إلى أن بعض مزاعم العفو الدولية، مثل "تدمير مئات المنازل والمنشآت"، ثبت أنها وقعت بفعل القوات الإسرائيلية نفسها عبر القصف الجوي والبري. 

كما أوضحت أن "الادعاء بقتل المدنيين" يناقض تقارير عدة أكدت أن جيش الاحتلال هو من قتلهم في إطار تطبيقه "بروتوكول هانيبال" الذي يجيز إطلاق النار على الإسرائيليين لمنع أسرهم.

اتهامات بالاستناد إلى رواية الاحتلال
ورأت الحركة أن ترديد التقرير "أكاذيب الاحتلال" حول العنف الجنسي والاغتصاب وسوء معاملة الأسرى يؤكد أن الهدف الحقيقي هو "التحريض وتشويه المقاومة"، مشيرة إلى أن "العديد من التحقيقات الدولية" سبق أن فندت تلك الادعاءات. 

وشددت حماس على أن "تبني منظمة العفو لهذه المزاعم يضعها في موقع المتواطئ مع الاحتلال، ومحاولاته شيطنة الشعب الفلسطيني ومقاومته الشرعية".

وطالبت الحركة المنظمة الدولية بالتراجع عن التقرير "غير المهني" ورفض الانجرار خلف الرواية الإسرائيلية الهادفة – بحسب البيان – إلى طمس حقيقة جرائم الإبادة الجماعية التي تحقق فيها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.


غياب المنظمات الدولية عن غزة
وأكدت حماس أن حكومة الاحتلال منعت منذ الأيام الأولى للحرب دخول المنظمات الدولية وفرق الأمم المتحدة إلى قطاع غزة، كما حظرت وصول فرق التحقيق المستقلة إلى مسرح الأحداث. 

وأوضحت أن "الحصار المفروض على الشهود والأدلة" يجعل أي تقارير تصدر عن جهات خارج القطاع "غير مكتملة ومنقوصة"، ويحول دون الوصول إلى تحقيق مهني يعتمد على الحقائق الميدانية.

تقرير العفو الدولية
وكانت منظمة العفو الدولية قد أصدرت في وقت سابق الخميس تقريرا موسعا من 173 صفحة، اتهمت فيه فصائل فلسطينية – وفي مقدمتها حماس – بارتكاب "انتهاكات للقانون الدولي الإنساني وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية"، خلال هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر أو ما تلاه من احتجاز وإساءة معاملة للرهائن.

وجاء في التقرير أن الفصائل الفلسطينية "واصلت ارتكاب الانتهاكات" عبر احتجاز الرهائن وسوء معاملتهم، واحتجاز جثامين تم الاستيلاء عليها، مشيرا إلى أن "قتل أكثر من 1221 شخصا في إسرائيل" – وفق تصنيف المنظمة – يرقى إلى "جريمة إبادة ضد الإنسانية".

كما تضمن التقرير اتهامات بالاغتصاب والعنف الجنسي، رغم أن المنظمة أقرت بأنها لم تتمكن من توثيق سوى "حالة واحدة فقط"، الأمر الذي حال دون تقدير حجم الانتهاكات المزعومة بدقة.

إبادة إسرائيلية في غزة
وفي المقابل، تجاهل تقرير العفو الدولية – بحسب حماس – حجم الجرائم التي ارتكبها الاحتلال منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين شن حرب إبادة جماعية على قطاع غزة خلفت أكثر من 70 ألف شهيد فلسطيني، وما يزيد على 171 ألف جريح، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب تدمير 90 بالمئة من البنية التحتية المدنية وتهجير معظم سكان القطاع قسرا.

وأفرجت حماس خلال مراحل اتفاق وقف إطلاق النار، الذي دخل حيز التنفيذ في 10 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عن جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء لديها، إضافة إلى تسليم جثامين المتوفين، باستثناء أسير واحد قالت إنها ما تزال تبحث عنه.

مقالات مشابهة

  • 520 طالبا وطالبة في انطلاق مسابقة «يوم السرد القرآني الأول» بصلالة
  • القبض على '' فاروق فاضل'' أحد أبرز المطلوبين في تعز
  • صلاح نجم يكتب العنف ضد الأطفال " أبشع الجرائم الأنسانيه "
  • طريقة استرداد الكفالة بعد البراءة والتصالح مع المحكمة
  • روائع النغم بصوت ريم كمال فى معهد الموسيقى.. غدا
  • حماس: تقرير العفو الدولية مغلوط ويتبنى الرواية الإسرائيلية
  • حماس ترفض تقرير العفو الدولية وتتهمه بتبني الرواية الإسرائيلية
  • ابن سائق محمد صبحي يقلب الرواية المتداولة رأسًا على عقب .. تفاصيل
  • استقرار النفط مع عودة التركيز إلى محادثات إحلال السلام في أوكرانيا
  • النفط يتراجع مع عودة التركيز إلى محادثات إحلال السلام في أوكرانيا