عراق من غير مياه يتنكر لتاريخه
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
آخر تحديث: 2 يونيو 2025 - 9:49 صبقلم:فاروق يوسف لو لم يكن هناك نهرا دجلة والفرات لما قامت أولى الحضارات الإنسانية في التاريخ. لذلك سُمي العراق بلاد ما بين النهرين أو بلاد الرافدين وبالإغريقية ميسوبوتاميا.يومها لم تكن هناك إيران ولا تركيا وكان نهرا دجلة والفرات نهرين وطنيين بطريقة مجازية. أما حين قامت الدولة العراقية بعد انهيار الدولة العثمانية فقد كانت هناك اتفاقات دولية ضمنت للعراق حصته من المياه وهي حصة حاولت تركيا باعتبارها دولة المنبع أن تتلاعب بها باستمرار ولكنها لم تجرؤ في الماضي على أن تصل بتلك الحصة إلى المستوى الذي يهدد أمن العراق المائي.
دائما كانت تركيا تفكر في بناء سدود داخل أراضيها من أجل احتكار مياه النهرين ولكن وجود دولة قوية في العراق كان قد وقف حائلا دون تنفيذ تلك السدود. في واحدة من مراحل التوتر بين العراق وتركيا في القرن الماضي اعتبر الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أي إجراء تركي في ذلك المجال بمثابة إعلان حرب على العراق.ولأن العراق القوي صار جزءا من الماضي فإن تركيا اليوم تملك 22 سدا على نهري دجلة والفرات. من جانب آخر فإن إيران التي ينبع منها عدد من الروافد التي تصب في نهر دجلة نشطت هي الأخرى في بناء السدود على تلك الروافد في مخالفة واضحة للقوانين الدولية. المفارقة تكمن في أن الدولتين اللتين تملكان علاقات جيدة مع الدولة التي أقامها الأميركان في العراق بعد احتلاله لا تأخذان بعين الاعتبار مصالح العراق وشعبه في حين أنهما لم تعملا على تهديد تلك المصالح في الماضي على الرغم من أن علاقتهما بالعراق لم تكن حسنة دائما.
وليس سرا أن المشكلة تكمن في طريقة تعامل الحكومات العراقية المتتالية بعد 2003 مع تلك المسألة الحيوية التي يرتبط بها مصير العراق والعراقيين. فعراق من غير موارد مائية كافية هو صحراء قاحلة. واحدة من أكثر صور ذلك الإهمال إثارة للغرابة أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اجتمع بالرئيس التركي أردوغان مؤخرا وناقش معه جميع القضايا التي تخص المنطقة باستثناء مسألة المياه التي لم يجد السوداني أهمية في طرحها.
على الرغم من أن شحة المياه في العراق صارت اليوم مرئية بطريقة تصدم الناظر إلى مستويات المياه في النهرين بعد أن توقفت الكثير من مشاريع الري عن العمل ولم تعد الكثير من الأراضي الزراعية صالحة للاستعمال فإن الحكومات العراقية لم تتقدم بشكوى إلى المنظمات العالمية ذات الصلة ومن خلالها إلى المحاكم الدولية. لم يطرح العراق مشكلته على الصعيد العالمي ولم يتخذ أي إجراءات رادعة في حق الدولتين اللتين تغتصبان حقه في المياه وهما بطريقة أو بأخرى تشنان الحرب عليه. لا يعاني العراق من نقص في عدد الخبراء ذوي الصلة العميقة بالموضوع. منذ أكثر من تسعين سنة هناك دوائر للري في كل محافظة من محافظات العراق. وكان العراق قد أنشأ في سبعينات القرن الماضي نظاما وطنيا للري كلفه مليارات الدولارات من أجل استصلاح الأراضي وصولا إلى الاكتفاء الغذائي. كل هذا يعني أن العراق قادر على الدفاع عن حقوقه المائية في المحافل الدولية ولكن تنقصه الإرادة السياسية ببعدها الوطني. يحتاج العراق إلى مَن يؤمن بمستقبله ليشعر أن ما يحدث من حوله اليوم من مؤامرات تهدف إلى اغتصاب حقه القانوني في المياه إنما يشكل تهديدا حقيقيا لمستقبل العيش الآمن. فالأمن المائي جزء من سيادة الدولة وحق يجب الدفاع عنه. تركيا ومن بعدها إيران تعتبران المياه سلعة تجارية وهما إذ تضربان عرض الحائط بالاتفاقات الدولية التي تنص على حصة دولة المصب من المياه بسبب ضعف تلك الدولة وغياب الإرادة الوطنية لدى حكوماتها إنما تراهنان على مستقبل، يكون العراق فيه سوقا للمياه حين يضطر إلى استيرادها منهما. وهو مصير لا يليق بالعراق، وهو بلاد النهرين، ولا يستحقه شعبه الذي بنى حضاراته قبل أكثر من خمسة آلاف سنة على الأنهار. نهاية حزينة للعراق. يُروى أن السومريين حين سقطت دولة أور الثالثة حملوا أمتعتهم واتجهوا بحزن إلى الأهوار، المياه التي كانت تحيط بهم من كل جانب وهناك اختفوا. اليوم إلى أين يذهب العراقيون إذا جف نهراهما الخالدان وأصبحا مجرد خطين على الخرائط المدرسية؟ لست على ثقة من أن حكوماتهم التي لا تريد عراقا قويا، مكتفيا بإرادته ستتمكن من وضع حلول سيادية لمشكلة شحة المياه العذبة كما فعلت الدول الخليجية. حتى السمك المسكوف سيكون واحدة من حكايات الماضي.المصدر: شبكة اخبار العراق
إقرأ أيضاً:
العراق بين بريمر وسافايا!
أصعب الاحتلالات هي الاحتلالات التي تتحوّل من احتلالات علنيّة إلى احتلالات خفيّة تمتلك قدرات عسكريّة وإداريّة وماليّة ضخمة. وحينما نتابع حالة العراق بعد 22 عاما من الاحتلال الأمريكيّ سنجد أنفسنا أمام احتلال خفيّ عبر سياسات مُتشابهة من حيث الجذور ومختلفة من حيث الشخوص.
وبعد الاحتلال بأقلّ من شهرين، حطّت طائرة بول بريمر، يوم 12 أيّار/ مايو 2003، في أحد المعسكرات الأمريكيّة ببغداد!
وبريمر هو رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة (Coalition Provisional Authority)، والحاكم الأمريكيّ المطلق في العراق، وكانت مهمّته إدارة المرحلة الانتقاليّة، ولكنّها حقيقة كانت المرحلة التأسيسيّة لمستقبل العراق، وقراراتها لم تتعلّق بالخدمات الأساسيّة وبناء الدولة، بل تهدف لتدمير الدولة والإنسان، والحاضر والمستقبل وحتّى الماضي!
وغالبيّة مهام بريمر دَوّنها في كتابه: "عام قضيّته في العراق" (2006)، ومنها قراراته التدميريّة، وأوّلها حلّ الجيش وأجهزة الأمن، وهدم الدولة المدنيّة السابقة وإعادة هيكلة الوزارات!
والمضحك المبكي أنّ بريمر أشار في كتابه إلى أنّ الأمن وانتشار الفوضى، وانتقام الجماعات المسلّحة، وظهور المليشيات؛ كانت جميعها عوامل معقّدة لإعادة الاستقرار وتحدّيات كبيرة أمام إدارته.
ومَنْ عاش في العراق خلال مرحلة بريمر رأى بأمّ عينيّه أنّ إدارته تجاهلت، بل وشجّعت عمل الجماعة المسلّحة الانتقاميّة وكأنّها تُنفّذ خطّة مرسومة سلفا!
وكانت العمليّة السياسيّة واحدة من ثمار مرحلة بريمر، التي لم يَجن العراق والناس منها أيّ خير ملموس، بل على خلاف ذلك، فكلّ مرحلة انتخابيّة تُنْتِج طبقة جديدة من الطامعين بأموال الدولة والضاربين للقوانين الأرضيّة والسماويّة!
والعمليّة الانتخابيّة التي هي أساس العمليّة السياسيّة لا تُبنى على أرضيّة هشّة مليئة بالتناحر والانقسامات العميقة والمؤسّسات الهزيلة، ولهذا مَن يُريد بناء الدولة عليه أن يبني المؤسّسات العامّة، وينشر روح التعايش والتلاحم قبل الدعوة لأيّ انتخابات، وهذا ما تجاهلته إدارة بريمر، ولهذا فشلت في ترتيب البيت العراقيّ، وآثار فشلها ماثلة في الأنحاء، ومستمرّة حتّى اليوم!
وبعيدا عن بقيّة أخطاء إدارة بريمر الكارثيّة، وجدنا أنفسنا بعد أكثر من 22 عاما من الاحتلال الخفيّ أمام سلطة من نوع جديد تمثّلت بالممثّل الخاصّ للرئيس دونالد ترامب في العراق!
وهذا المنصب بدعة جديدة في تاريخ العلاقات العراقيّة- الأمريكيّة، أُنيطت بمارك سافايا، الذي يبدو بأنّه يمتلك صلاحيّات مشابهة لصلاحيّات بريمر لكنّها مختلفة بسبب تغير الظروف العراقيّة الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، وبالتالي كلاهما يمتلكان ذات الأجندة، والمتمثّلة بتحقيق المصالح الأمريكيّة بسياسات ظاهرها ترتيب البيت العراقيّ وباطنها التلاعب بالإنسان والثروات العراقية لصالح الدولة الأمريكيّة!
وباختصار، فإنّ بريمر تَرَك بصماته السلبيّة الواضحة بعموم الملفّات السياسيّة والإداريّة الأمنيّة والاجتماعيّة والمدنيّة والعسكريّة العراقيّة، أمّا سافايا، فلم نَرَ منه أيّ شيء عمليّ بَعد، وقد أكّد يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، وكررها يوم 11 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، أنّ المجتمع الدوليّ ينظر للعراق باعتباره دولة قادرة على لعب دور أكبر وأكثر تأثيرا في المنطقة، شريطة "إنهاء ملفّ السلاح الخارج عن سيطرة الدولة بشكل كامل".
وأشّار إلى أنّ العراق يقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، فإمّا أنّ "يتّجه نحو بناء مؤسّسات مستقلّة قادرة على إنفاذ القانون وجذب الاستثمارات، أو يعود لدوامة التعقيدات التي أثقلت كاهل البلاد خلال السنوات الماضية"!
وهكذا نلاحظ أنّ مهام بريمر وسافايا متقاربة، مع الفارق من ناحية الشخوص والتوقيتات والقدرات التي ربّما كانت أكبر وأشدّ لبريمر قياسا بسلطات وقدرات سافايا الذي لا نعلم بعد حدوده، وما واجباته المرتقبة في المشهد العراقيّ، وجميع ما نسمعه حتّى الآن مجرّد تغريدات وتصريحات على بعد آلاف الأميال، ولكن تبقى الأيّام المقبلة هي الفيصل بالأمر، وبالذات مع تأكّيده بأنّه سيزور العراق هذه الأيّام!
وبخصوص الفروق بين الرجلين، فإنّ سلطة بريمر كانت في بداية الاحتلال الأمريكيّ للعراق، وسلطة سافايا تتزامن مع قرب الانسحاب الأمريكيّ بعد أقلّ من عام تقريبا!
وسلطات بريمر كانت مطلقة في ظلّ الاحتلال وغياب حكومة عراقيّة، وكانت بداية مرحلة بريمر خالية من العمليّة السياسيّة، بينما تسنّم سافايا مهامه بعد ستّ تجارب انتخابيّة هزيلة، وسلطاته غامضة حتّى اليوم!
والنقطة الفاعلة الأخرى تتمثّل في كون بريمر كان يتعامل بشكل مباشر من داخل العراق، بينما سافايا حتّى اليوم لم يتصرف بشيء، ولم يَزُر العراق رسميّا!
وهكذا فإنّ بريمر فسح المجال للعصابات أن تتلاعب بالناس والأمن، والثاني يدّعي، حاليا، بأنّه سيحاول تحجيمها وإنهاء دورها في العراق!
أمّا أيّهما أشدّ وأكثر تأثيرا، فيبدو، لغاية الآن، أنّ بريمر هو الأكثر تدميرا للعراق، ونترقّب المرحلة المقبلة لمعرفة مدى قوّة وتأثير "الحاكم الجديد" للعراق، سافايا!
وفي اليوم الأخير من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، التقى توم باراك، المبعوث الخاص للرئيس ترامب لسوريا ولبنان، برئيس حكومة تصريف الأعمال في العراق محمد شياع السوداني، ولم تُسرّب أيّ معلومات دقيقة بخصوص هذا اللقاء الخطير! فهل سيكون باراك داعما لدور سافايا، أم بديلا عنه؟
المرحلة السابقة لتشكيل الحكومة المقبلة هي الأعقد، وأيّام العراق القادمة مُثقلة بالأحداث السياسيّة، وربّما الأمنيّة!
x.com/dr_jasemj67