صون الأصالة في وجه التحديات
تاريخ النشر: 3rd, June 2025 GMT
محمد بن رامس الرواس
يشهد المجتمع الدولي اليوم وتيرة متسارعة من المتغيرات التي تطال كافة جوانب الحياة وأولها زعزعة الثوابت الدينية والثوابت الوطنية، وثانيها زعزعة سلوكيات الفطرة السليمة وذلك من خلال استخدام التطور التكنولوجي الهائلة بكافة وسائله وتقنياته.
وفي خضم هذه المتغيرات، حَريٌّ بنا أن نقف بجانب سلطنتنا الحبيبة عُمان لتظل شامخة بثوابتها الراسخة ومبادئها الأصيلة التي تشكل الدرع الحصين في مواجهة التحديات المستجدة على الفطرة والقيم الإيمانية والسلوكية، لا سيما تلك المتعلقة بالانحرافات السلوكية والشبهات الفكرية.
إن المجتمع العُماني مجتمع متجذر في قّيمه الإسلامية والعربية الأصيلة لكن شأنه اليوم شأن بقية المجتمعات الأصيلة يواجه التحديات التي تفرضها العولمة والانفتاح على ثقافات العالم المتنوعة بخيرها وشرها، وهذه التحديات قد تتسلل وتتمثل أحيانًا في شكل انحرافات سلوكية لا تتوافق مع الأعراف وتقاليدنا المجتمعية أو قد تظهر في هيئة شبهات فكرية تحاول المساس بأسس عقيدتنا السمحة وفطرتنا السليمة.
ومن ذلك انتشار الأفكار الدخيلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية التي تتطلب يقظة وحصانة فكرية للحفاظ على هوية المجتمع وقّيمه النبيلة. وعلى سبيل المثال نشهد اليوم انتشارًا واسعًا للمعلومات المضللة والشائعات المغرضة عبر المنصات الرقمية التي تهدف أحيانًا إلى زعزعة الثقة أو نشر الارتباك بالمجتمع في لضرب جذوره الراسخة، لذلك أصبح التثبُّت من الأخبار عبر الرجوع إلى المؤسسات الدينية والرسمية والمعرفية والمجتمعية ضرورة لما تمثله هذه الجهات من مصادر موثوقة ضد هذه الشبهات.
كما إن تبني بعض الشباب أنماط حياة وعادات مستوردة لا تتوافق مع الهوية العُمانية الأصيلة يمثل تحديًا حقيقيًا لزعزعة الهوية الوطنية؛ إلا أن التمسك بالعادات الوطنية والاجتماعية التي تُبرز التراث العُماني وتُعزز الانتماء هي ركيزة أساسية للحفاظ على تميزنا الثقافي بالمجتمع الدولي.
تتمثل الثوابت العُمانية في قيم التسامح والاعتدال، واحترام الآخر والاعتزاز بالتاريخ والتراث العريق، وهذه الثوابت ليست مجرد شعارات؛ بل هي نتاج عقود قرون من التراكم المعرفي والتجربة الإنسانية صقلتها حكمة القيادات الرشيدة التي سعت دائمًا إلى تعزيز اللحمة الوطنية وصون النسيج الاجتماعي الواعي.
إنَّ الأسرة العُمانية سليمة الفطرة بهويتها الوطنية تُعد نواة راسخة تمارس دورًا حيويًا في غرس هذه القّيم والثوابت في نفوس الأجيال الشابة وتحصينهم ضد أي محاولات للتشويه أو التفكيك، كما إن التصدي للانحرافات السلوكية والشبهات الفكرية يتطلب منهجية شاملة تبدأ بتعزيز الوازع الديني والأخلاقي، وتفعيل دور المؤسسات التربوية والتعليمية في بناء الوعي الفكري، وتزويد الشباب بالأدوات اللازمة للتمييز بين الغث والسمين، كما يتوجب على المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة أن تلعب دورًا بنَّاءً في نشر المحتوى الهادف الذي يعزز القّيم الإيجابية بالمجتمع ومحارب الأفكار الهدامة الضالة.
وختامًا.. إنَّ كل فكر شاذ يُشوِّه الفطرة وكل شبهة ضالة تطعن في الإيمان وكل سلوك منحرف يفكك الأسرة ويفتت اللحمة المجتمعية، هو تهديد لوجودنا وهويتنا، لذلك تظل ثوابتنا العُمانية هي المنارة التي تهدينا في زمن المتغيرات، وهي الحصن المنيع الذي يحمينا من كل ما يمكن أن يمس أصالتنا ويشوه فطرتنا، والتمسك بهذه الثوابت ليس خيارًا؛ بل هو ضرورة حتمية لضمان مستقبل مزدهر لأجيال قادمة تتمسك بهويتها وتعتز بقيمها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تسميم الأفلاج العُمانية؟!
مدرين المكتومية
يعي الجميع أنَّه في عُمان، ومنذ مئات السنين، كان الإنسان العُماني يعتمد اعتمادًا كبيرًا وتامًا على الأفلاج، وهي منظومتنا الوطنية التاريخية التي تُعد العمود الفقري للحياة الزراعية والاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط في المناطق الزراعية؛ بل في كل شبر من أرض وطننا العزيز.
والحقيقة أنني ومنذ صغري، وفي قريتي خضراء المكاتيم، تعلمتُ من جدي- رحمه الله- ومن أبي وأعمامي، أنَّ الفلج في ثقافتنا المحلية ليس مجرد قنوات مائية؛ بل شرايين حياة نابضة، تسقي الأرض والزرع، وتحمل في جريانها عبق التاريخ وهمّة الأجداد الذين واجهوا الظروف الطبيعية القاسية، فابتكروا نظامًا مائيًا عبقريًا، يُدهش العالم حتى يومنا هذا.
الأفلاج ليست فقط مصدر ماء، بل تراث ثقافي وروحي يعكس علاقة الإنسان العُماني بالطبيعة. ولكن، وفي خضم التحولات المتسارعة، وتعاقب الأجيال، وتغيُّر أنماط الحياة، بدأنا نلحظ غيابًا واضحًا للوعي بأهمية هذه المنظومة البيئية الدقيقة. وكأننا نغض الطرف عن هذه الجوهرة المائية التي حافظت على حياتنا لقرون.
ما يبعث على القلق، أننا اليوم نشاهد مُمارسات لا مسؤولة تنتهك هذه القنوات المائية؛ فمثلًا نرى البعض يستحم في الفلج، والبعض يستخدم الصابون والمعجون والمنظفات الكيميائية، وكأنهم في حمام خاص، غير مدركين لمدى خطورة ما يقومون به. وهذه المواد التي تبدو بسيطة على السطح، تتحول إلى سموم تدخل في عروق النخيل والزرع، فتؤدي إلى تلوث المحاصيل، وتحول الغذاء النقي إلى مصدر للداء. ومثل هذه المواد الكيميائية تخترق التربة، وتتسبب في ملوحة الأرض، وربما تراكم مواد ملوثة في الثمار، ويُحتمل أن يكون أحد أسباب تفشي الأمراض المزمنة، وعلى رأسها السرطان، الذي بدأ يظهر في مناطق لم تكن تعرفه بهذا الشكل من قبل. وقد تواصلت مع خبراء في موارد المياه، وأكدوا لي أنَّه عندما يصبح ماء ري المزروعات ملوثًا، فإنَّ دورة الحياة كلها تتأثر، من التربة إلى الشجرة، ومن الثمرة إلى الإنسان.
ولا ريب أنَّ غياب الوعي مشكلة خطيرة، لكن الأخطر من ذلك هو غياب القوانين الرادعة؛ إذ لا يكفي أن نكتب مقالات نتحسر فيها ونتذمر على ما يجري؛ بل نحتاج إلى تشريعات صارمة تُنظِّم استخدام الأفلاج وتُحافظ على نظافتها، مع تفعيل دور الجهات الرقابية، وتكثيف التوعية المجتمعية، لا سيما في القرى والمناطق الزراعية، وهذه التوعية ضرورية لا سيما بين العمالة الوافدة الذين قد لا يعلمون مخاطر ما يقومون به، وأن تكون التوعية بلغاتهم لتأكيد وصول الرسالة التوعوية.
الأفلاج ليست فقط موروثًا ثقافيًا؛ بل هي شريان حياة، وإذا تلوثت ماتت الأرض، ولذلك لا بُد من تدخل حازم، وحملة وطنية تُعيد للأفلاج هيبتها، وتربي الأجيال الجديدة على احترامها، لأنها ليست فقط مجرد قنوات مائية كما ذكرت؛ بل هوية وانتماء، ومرآة لحضارة ضاربة في القدم.
وبالتوازي مع تلوث الأفلاج نجد أيضًا تلوث آبار المياه، لا سيما بعد الأنواء المناخية، وقد اطلعت على إحصائيات بعض الجهات في أعقاب الحالة المدارية "شاهين"؛ حيث أظهرت نتائج فحص 50 بئرًا في ولايات السويق والخابورة وصحم أنها جميعا، باستثناء واحدة، غير صالحة للاستخدام البشري؛ بسبب التلوث بمخلفات الأودية والكائنات الحيَّة التي نفقت في تلك الأثناء.
ومن أجل الحفاظ على الموارد المائية، على الجهات المعنية البحث عن حلول مُبتكرة، وليس فقط الاكتفاء بحملات تنظيف هنا وهناك ولا يجب أن يكون الأمر معتمدًا فقط على التوعية؛ إذ لا تكفي وحدها. ومن بين الحلول المُبتكرة التي يمكن تطبيقها:
تغطية الأفلاج بالكامل لضمان حمايتها من التلوث وسوء الاستخدام، وكذلك الحفاظ عليها من التبخُّر. وضع مرشحات عضوية في مجرى الفلج، يما يحافظ على نقاء المياه واستدامتها. الاستفادة قدر المُستطاع من مياه الأمطار في مختلف المواسم، لا سيما في فترات الهطول الشديد. ابتكار أساليب نوعية تسمح بنقل جزء من مياه السدود بعد معالجتها وتنقيتها، إلى قنوات الأفلاج، لزيادة المنسوب المائي فيها.وبالتوازي مع هذه الجهود، يجب تعميم آلية إعادة تدوير مياه الصرف الصحي في ري المساحات الخضراء التجميلية، مثل الحدائق العامة، والدواوير، والأشجار التي تُزرع على جانبي الطرق أو في منتصفها.
وبعد كل ما سبق، عرضه، علينا أن نؤمن جميعًا بأنَّ المياه فعلًا مصدر الحياة، وأن هذا الشريان الحيوي، أي الأفلاج، نعمة كبيرة طوّرها الإنسان العُماني منذ القدم، وعلينا نحن الأحفاد أن نُراعي ونحفظ ما اخترعه الأجداد والآباء.
ويبقى السؤال المُلِح: أين الجهات المختصة من كل هذا التلويث والتسميم لأفلاجنا ومواردنا المائية؟!
رابط مختصر