وصلتني هدية جميلة، عبارة عن تمارين امتنان مطبوعة على شكل بطاقات، وتحتوي كل بطاقة على سؤال. كان السؤال الأول: ما الموقف الذي جعلك ممتنة لشخص لا تعرفينه؟
كثيرة هي المواقف التي كنت فيها ممتنة لأناس لا أعرفهم، مدّوا أيديهم لي في فترات كنت فيها في أشد الحاجة إليهم. بعضهم جعلني أتعرف على نفسي بشكل أفضل، وبعضهم جعلني أقوى، وآخرون ساعدوني على اكتشاف الجمال في داخلي.
أصابني الهلع حين أخبرتني الموظفة بأنني في المطار الخطأ. لاحظ ذلك -فيما يبدو- رجل أمريكي في الخمسين من عمره كان يقف بالقرب مني، فتقدّم هو وزوجته نحوي وسألاني إن كنت أحتاج للمساعدة. أخبرتهما بما حدث، فتطوّعا بمساعدتي في حجز تذكرة إلى مطار جي إف كينيدي، لأتمكن من اللحاق بطائرتي، التي كانت -لحسن الحظ- تقلع في اليوم التالي، وعرضا عليّ استضافتي في منزلهما القريب من المطار بدلًا من البقاء فيه.
لا أعرف كيف قبلت عرضهما، وربما لو حدث لي هذا الأمر اليوم، لمنعتني شخصيتي الحذرة من قبول مثل هذا العرض من أناس لا أعرفهم. لكنني أدركت لاحقًا أن هذين الزوجين كانا جنديين من جنود الله، بعثهما لي في الوقت والمكان المناسبين تمامًا. استضافاني تلك الليلة في منزلهما، وطلبا لي سيارة أجرة تقلني إلى المطار في صباح اليوم التالي. وأذكر أن الرجل مدّ لي يده بورقة نقدية من فئة مائة دولار أمريكي، لأصرفها أثناء الرحلة إن احتجت.
لم أسأل عن اسميهما، ولا أذكر عنوان البيت الذي استضافاني فيه، لكن كل موقف لطف، وكرم، وشهامة، بل وشجاعة -أو لنقل تهورًا- ترجعني فيه ذاكرتي إلى ذلك الزوجين.
ورغم أنني مررت خلال حياتي بكثير من «الجنود المجندة» الذين أخذوا بيدي في مراحل مختلفة، وما زالوا، فإن هذا الموقف يظل الموقف الذي لن أنساه ما حييت.
حمدة الشامسية كاتبة عُمانية في القضايا الاجتماعية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
راغب علامة.. "صاحب الصوت الذي لم يخذلنا يومًا"
لا يحتاج راغب علامة إلى مناسبة كي يُذكر، لكن عيد ميلاده السابع من يونيو يفرض نفسه كتاريخ يستحق التوقف عنده، ليس فقط احتفالًا بعمر جديد، بل إجلالًا لمسيرة استثنائية، صنعها فنان لم يخن صوته، ولم يُفرّط في صورته، ولم يخذل جمهوره يومًا.
من منزل جده في بلدة الغبيري جنوب بيروت، خرج راغب إلى العالم، ابنًا رابعًا بين تسعة، محاطًا بالمحبة، وبأب يعزف على العود ويزرع في بيته بذور الذوق والفن. كان الغناء بالنسبة له ليس مجرد موهبة، بل تنفّس، انتماء، وسؤال يومي: كيف أكون مختلفًا دون أن أتخلى عن روحي؟
ولأنه عرف مبكرًا أن الفن مسؤولية، بدأ مشواره بخطوات ثابتة. لم يبحث عن الشهرة العابرة، بل تعب في صنعها. من إذاعة لبنان وهو طفل، إلى معهد الموسيقى حيث تخرّج بتقدير، ثم إلى "استوديو الفن" حيث لفت الأنظار وانتزع المركز الأول، كان راغب علامة يحفر اسمه بموهبة صلبة وإصرار ناعم.
في منتصف الثمانينيات، حين بدأ يطرح ألبوماته، كانت الأغنية العربية تمر بتحولات. لكنه لم يساير الموجة، بل أصبح هو الموجة. بأغنياته مثل "قلبي عشقها"، "مغرم يا ليل"، "توأم روحي"، "سيدتي الجميلة"، و"نقطة ضعف"، استطاع أن يكون حاضرًا في تفاصيل حياة جمهوره، يُغني للحب، للفراق، للحنين، وحتى للفرح الهادئ.
راغب علامة لم يكن فقط صوتًا ناجحًا، بل حالة فنية متكاملة. يعرف متى يُغامر، ومتى يتروى، متى يرفع السقف، ومتى يتكئ على الكلمة واللحن فقط. ظل وفيًا لذائقته، ومدافعًا عن فنه، لا تستهويه الضجة الفارغة، بل يفضل صوت الصدى الذي يبقى بعد أن ينتهي التصفيق.
في عالم تتبدل فيه الأضواء والنجاحات كل لحظة، لم يفقد بريقه، لأن وهجه كان نابعًا من الداخل، من حبّ حقيقي لما يفعل، ومن علاقة عميقة بالجمهور، تُبنى على الاحترام لا على الاستعراض.