ترجمة: أحمد القرملاوي

«يمكن للحكومات أن تقوم بدور محوريّ ومؤثر في تحفيز الابتكار، بل وأن تعمل على خلق أسواق جديدة بدلًا من الاكتفاء بإجراء إصلاحات حين يصيب الفشل آليات السوق»

«بدلًا من تركيز التمويل في مسار واحد، ينبغي للمؤسسات العامة أن تعتمد استراتيجية استثمارية متنوعة تعزز المرونة والابتكار»

ي التصوُّر التقليدي المتعارف عليه في عِلم الاقتصاد، يُنظَر إلى الحكومات باعتبارها محدودةً من حيث القدرة على تحفيز الابتكار، وأن الدولة يجب أن تحصر دورها الاقتصادي في أضيق حدودٍ ممكنة، فلا تتدخل إلا في الحالات التي تشهد فشلًا ملحوظًا في آليات السوق.

غير أن هذا التصور يبتعد كثيرًا عن الحقيقة.

في الواقع، يمكن للحكومات أن تقوم بدور محوريّ ومؤثر في تحفيز الابتكار، بل وأن تعمل على خلق أسواق جديدة بدلًا من الاكتفاء بإجراء إصلاحات حين يصيب الفشل آليات السوق. إن المنادين بحَصْر دور الحكومة في الاقتصاد لأضيق حد ممكن، يرون أن حالات الفشل تلك ليست مبررًا كافيًا للتدخل الحكومي، إلا فيما يتعلق بتمويل مشروعات البنية الأساسية والبحث العلمي. غير أن نظرية «التدخل المحدود» المزعومة هذه لا تقدِّم تفسيرًا منطقيًّا لتدَفُّق بلايين الدولارات من الحكومة لتمويل الأبحاث التطبيقية، وكذا لتمويل الشركات الناشئة في مراحل تأسيسها المبكرة. كما يشير الواقع لمراكز الابتكار الأكثر شهرة في العالم، والتي قامت الدولة بتأسيسها دور «ريادة الأعمال»، بدايةً من وضع الرؤية الأساسية ووصولًا لتوفير التمويل اللازم لإنشاء مجالات اقتصادية جديدة ومبتكرة، من تكنولوجيا المعلومات إلى التكنولوجيا الحيوية والنانوتكنولوجي والتكنولوجيا الخضراء.

ثمة مثال في وادي السيليكون بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث فعلت الدولة دور «المستثمر الاستراتيجي» عبر شبكةٍ لا مركزية من المؤسسات العامة، تضم وكالة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة (The Defense Advanced Research Projects Agency)، ووكالة ناسا لعلوم الفضاء (NASA)، وبرنامج دعم الأبحاث الابتكارية للشركات الصغيرة (Small Business Innovation Research Program)، ومؤسسة العلوم الوطنية (National Science Foundation).

وتُقدَّر الاستثمارات الحكومية في هذه المجالات بمبالغ مهولة، ليس فقط في تكنولوجيا المعلومات، إذ شهِدت مجالات أخرى مثل الطاقة وعلوم الحياة ضخَّ أموال طائلة. ومثال على ذلك ما استثمرتْه المعاهد الأمريكية الوطنية للصحة (NIH) عام 2011، وقُدِّر آنذاك بـ 31 مليار دولار خُصِّصَت للصرف على الأبحاث في مجال الطب الحيوي. ووِفقًا لما صرَّحَت به مارسيا أنجِل البروفيسور في كلية الطب بجامعة هارفرد، فقد ساهم هذا التمويل بدور حاسم في تطوير عدد من الأدوية الجديدة التي شكَّلَت ثورةً طبية خلال العقود الأخيرة. وبالمثل، فقد ثَبُتَ أن التمويل الممنوح عَبْرَ البرنامج الحكومي لدعم الأبحاث الابتكارية للشركات الصغيرة (SBIR) كان بشهادة بعض الشركات الأمريكية الأكثر ابتكارية هو التمويل الأهم والأكثر فاعلية من رؤوس الأموال الاستثمارية الخاصة.

ثمة حالات شبيهة خارج الولايات المتحدة، منها الصندوق الحكومي «سيترا» الذي أسسته حكومة فنلندا لتمويل المشروعات الابتكارية، والذي ساهم في تمويل شركة «نوكيا» في بداياتها. وفي الصين، يقدِّم بنك التنمية الحكومي مليارات الدولارات في صورة قروض لعدد من أبرز الشركات في مجال التقنية والابتكار، مثل «هواوي» و«ينغلي سولار».

مثل هذه النماذج من الاستثمارات العامة يقوم بدور أساسي وفعَّال في تأسيس أسواق جديدة ورسم خريطتها. لو أخذنا الهاتف الذكي باعتباره مثالًا سنجد أن الاستثمارات الحكومية لعبت دورًا مركزيًّا للغاية في تطوير أغلب التقنيات التي جعلت الآيفون هاتفًا «ذكيًّا» على النحو الذي نعرفه اليوم؛ تقنيات مثل الإنترنت، ونظام تحديد المواقع (GPS)، والشاشات التي تعمل باللمس (Touchscreens)، وتقنيات التعرُّف على الصوت التي تُشكل الأساس التقني لتطبيق «سيري». وبالمثل سنجد أن المؤسسات العامة هي مَن تقود التحوُّل نحو التكنولوجيا الخضراء في العديد من البلدان.

وبإدراك أهمية الدور الذي تمثله استثمارات الدولة في تحفيز النمو والابتكار سنرى ضرورةَ إعادة النظر في الفهم التقليدي لطبيعة التدخل الحكومي في الاقتصاد. فبدلًا من التركيز فقط على تمويل صناعات وتقنيات بعَينها؛ فإنه يجدُر بالمؤسسات العامة أن تقوم بدور المستثمر الذي يراهن على «محفظة» متنوعة من الخيارات الاستثمارية. ومثلها مثل أي مستثمر آخر؛ لن تنجح الدولة في استثماراتها على طول الخط، بل إن الفشل هو الفرضية الأكثر احتمالًا في حقيقة الأمر؛ نظرًا لكون المؤسسات الحكومية غالبًا ما تغامر بالاستثمار في مجالات لا تتوافر فيها المعلومات بدرجةٍ كافية، لا سيما في المجالات التي ترفض رؤوس الأموال الخاصة أن تدخل فيها. وحتى تُحسن القيام بهذا الدور يَلزَم المؤسسات العامة أن تتوافر لها القدرة على المغامرة، مع إمكانية التعلُّم عن طريق التجربة والخطأ.

وبما أن الخطأ جزءٌ لا مفرَّ منه من لُعبة الابتكار، وبما أن الحكومة لها دور أساسي في مجال الابتكار؛ فلا بد للمجتمع أن يتحلَّى بقدر من التسامح مع «الفشل الحكومي». غير أن الواقع يشير لما يحدث في حالات الفشل الحكومي؛ حيث تتعالى الأصوات الناقدة، وتثير ردَّ فعلٍ سلبيًّا تجاه الحكومة، أما في حالة النجاح فإن الصمت يسود كأنّ لم يكن.

ثمة مثال على تلك الظاهرة؛ حين أُعلِن إفلاس شركة الطاقة الشمسية الأمريكية سوليندرا، وكانت قد تلقَّت قروضًا مضمونة من الحكومة بقيمة 500 مليون دولار، ما أثار اعتراضات حزبية واسعة. فيما لم يتوقَّف إلا القليلون أمام حقيقة أن الحكومة منحتْ «تِسلا» نفس المبلغ تقريبًا حتى تُطوِّر سيارتها «تِسلا إس»، المنتَج الذي اعتُبِر نموذجًا للإمكانيات الابتكارية التي يستطيع وادي السيليكون أن يبرهن عليها.

هنا يُطرح السؤال: ما الذي يُمكن أن يحمل الرأي العام على تقبُّل فشل الحكومة في المجالات الابتكارية؟

تستطيع شركات القطاع الخاص أن تُعوِّض خسائرها الناتجة عن استثماراتها الفاشلة بما تجنيه من أرباح الاستثمارات الناجحة، أما البرامج الحكومية فيندُر أن توضَع بغرض تحقيق العوائد المادية التي تمكِّن الحكومة من تعويض خسائرها السابقة. وعلى الرغم من احتجاج البعض بأن عائد الحكومات ينتج عن الضرائب؛ فإن النظام الضريبي الحالي لا يعمل بالكفاءة اللازمة، ليس فقط لكونه مليئًا بالثغرات، بل بسبب تخفيض نِسَب الضرائب مقارنةً بما كانت عليه. فحين تأسست «ناسا» كان المعدل الأعلى للضرائب يتخطى حاجز الـ90%. وبالمثل تراجعت ضرائب الأرباح الرأسمالية بأكثر من 50% منذ عقد الثمانينيات.

ولأجل تعزيز التأييد الشعبي لاستثمار الدولة في مجالات الابتكار -التي تتسم بهامش أعلى من المخاطرة-؛ قد يحتاج المشرِّع لإيجاد طريقة يحصل بها دافعو الضرائب على عوائد مباشرة من هذا الاستثمار عن طريق إعادة توجيه الأرباح لصندوق عمومي لدعم الابتكار يهدف إلى تمويل الموجة التالية من التقنيات المبتكرة. أما في الحالات التي تُوَجَّه فيها استثمارات الدولة لتمويل أبحاث أساسية؛ فإن الفوائد التي تعود على الصناعات والقطاعات الاقتصادية المختلفة عادةً ما تمثل مُكتسبات تكفي لإرضاء دافعي الضرائب. لكن تبقى ثمة حالات أخرى تستدعي التفكير في حوافز بديلة؛ كأن يُخصَّص جزء من الأرباح التي تتحقق نتيجة استثمار الحكومة الأمريكية في «تِسلا» لمنح دافعي الضرائب أسهمًا في الشركة أو نسبةً من أرباحها، وتخصيص جزء آخر لتعويض الخسائر التي ترتَّبت على استثمار الحكومة الفاشل في سوليندرا. من الممكن أيضًا ربط سداد القروض الحكومية بالأرباح الناتجة عن استثماراتها الناجحة، كما هو الحال مع القروض المخصصة للطلبة. كما يُمكن أن يوضَعَ سقف لأسعار الأدوية التي تُبتكر بتمويل من المعاهد الأمريكية الوطنية للصحة (NIH)، بحيث لا يتكبَّد دافعو الضرائب الثمنَ مرتين.

خلاصة القول أنه من الواضح تمامًا أن المنهج الحالي يُعاني من خلل جسيم؛ حيث «تُعمَّم» المخاطر فتُلقى على عاتق الدولة، فيما «تُخصَّص» الأرباح لصالح مُستثمري القطاع الخاص، ما لا يضر فقط بفرص الابتكار المستقبلية، بل يُضعف من قدرة الحكومة على إقناع العامة بدورها الفعال في تمويل الابتكار. إن الاعتراف بالدور الذي قامت به الدولة في قيادة الابتكار –والذي يجب أن يستمر– هو ما يمكننا من طرح السؤال الأهم: ما هي الاستثمارات الحكومية الرياديَّة الجديدة التي من شأنها أن تدفع عجلة النمو الاقتصادي مستقبَلًا؟

ماريانا مازوكاتو، أستاذة اقتصاديات الابتكار في كلية الاقتصاد بكلية لندن الجامعية، و المدير المؤسس لمعهد الابتكار والغرض العام، التابع لكلية لندن الجامعية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المؤسسات العامة الدولة فی ن الحکومة التی ت

إقرأ أيضاً:

محمد معيط: الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة

أكد الدكتور محمد معيط، المدير التنفيذي وممثل المجموعة العربية بصندوق النقد الدولي، إن من أكثر التحديات التي تواجه مصر الحفاظ على معدلات تنمية عالية من أجل خلق فرص العمل، فمصر لديها معدلات خصوبة عالية، وشباب أعماره صغيرة، وهناك 900 إلى مليون شاب يدخلون سوق العمل سنويا ويبحثون عن فرص عمل جديدة.

ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيبخبير: حركة تنقلات وزارة الداخلية 2025 تحديث شامل للأمن المصري

وأضاف «معيط»، خلال حواره مع الإعلامي شادي شاش، ببرنامج «ستوديو إكسترا نيوز»، المُذاع عبر شاشة «إكسترا نيوز»: "وبالتالي، يجب أن نصل إلى اقتصاد يخلق مليون فرصة عمل جديدة سنويا، ولكن لا يمكن أن تعينهم الحكومة، فالحكومة تخلق عدد فرص محدودة، وبالتالي، فإن القطاع الخاص هو الذي يمكنه خلق مليون فرصة عمل".

وتابع: "ومن ثم، فإنه يتم العمل على زيادة نشاط القطاع الخاص من أجل زيادة النمو تتبعه زيادة في فرص العمل، ثانيا، استثمارات الحكومة تمولها من خلال موازنة الدولة أو تمويل بتكلفة عن طريق الاقتراض، ولكن إدخال القطاع الخاص للقيام بجزء من الاستثمارات الخاصة أو العامة، فإن هذه التكلفة أو العبء لا تتحملها الموازنة العامة للدولة، ما يمنح الدولة فرصة استدامة أكبر في النمو ويخفف العباء على الموازنة العامة للدولة ويحقق هدفا أساسيا بخلق فرص عمل أكثر".

طباعة شارك محمد معيط النقد الدولي فرص العمل

مقالات مشابهة

  • وزارة المالية: الدولة السورية حريصة على القيام بواجباتها تجاه أبنائها جميعاً، وتتطلع لتوفير الشروط التي تساعد على ذلك، وأهمها سلامة العاملين في المؤسسات العامة التي وجدت لتخدم أبناء المحافظة
  • ثورات الموالي ونزعات العرب.. إعادة قراءة في سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين
  • بَللو: الديناميكية التي يشهدها قطاع السينما تعكس التزام الدولة إلى بعث الصناعات الإبداعية
  • سيارات "بيستون" تعيد تعريف مستقبل القيادة
  • هذه النتائج المالية التي حققتها الشركة المركزية لإعادة التأمين (CCR)
  • سلاح الحزب على طاولة الحكومة... القرار الصعب يقترب
  • مدبولي: إحياء الحرف التراثية واليدوية أحد الملفات المهمة التي توليها الحكومة أولوية
  • محمد معيط: الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة
  • معيط: الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة المصرية
  • ضياء رشوان: الأصوات التي تهاجم مصر لا تبحث عن الحقيقة بل عن التحريض